المواجهات الحاصلة على ضفتي نهر الفرات في محافظة دير الزور السورية ليست الأولى لكنها تعتبر الأشد والأكثر وضوحا على صعيد الأطراف المنخرطة على الأرض، ومن شأنها، حسبما يرى خبراء ومراقبون، أن تفرض قواعد جديدة، وتعيد تشكيل أسس العلاقة "الملتبسة" بين الطرفين المتحاربين.
الطرف الأول هو "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) المدعومة من الولايات المتحدة، والثاني هو النظام السوري والميليشيات الموالية له، التي يرتبط جزء كبير منها في دير الزور بإيران.
وأسفرت المواجهات المستمرة، منذ الأسبوع الماضي، عن قتلى عسكريين من كلا الطرفين وضحايا مدنيين بينهم أطفال، ودفعت الكثير من العائلات المقيمة في القرى والبلدات الواقعة على ضفتي "الفرات" للنزوح إلى مناطق آمنة.
وفي حين أنها اشتعلت أولا بيد قوات عشائرية متهمة بالارتباط بإيران، سرعان ما تطورت الأحداث لتصل، الاثنين، إلى حد مشاركة عناصر من "الجيش السوري" في عمليات القصف والرد المضاد، حسبما قال صحفيون من المنطقة لموقع "الحرة".
وأوضح الصحفي، زين العابدين العكيدي، أن "الأمور تتجه نحو التأزم"، وأن القصف من جانب "قسد" وقوات النظام السوري لا يزال مستمرا "بصورة عشوائية".
ويضيف أن النظام استقدم تعزيزات عسكرية إلى ريف دير الزور، في الساعات الماضية. وجاء ذلك بعد مقتل 7 من عناصره، بعملية تسلل نفذتها "قسد" انطلاقا من بلدة الصبحة باتجاه بلدة البوليل، الواقعة على ضفة الفرات الغربية.
تصعيد بين روايتين
قصة المواجهات بدأت بعد تسلل "قوات عشائرية" مسلحة، الأربعاء الماضي، من الضفة الغربية لنهر الفرات إلى الشرقية منه، الخاضعة لسيطرة "قسد" شريكة واشنطن في محاربة تنظيم داعش.
وبعدما اشتبكت لساعات مع عناصر القوات الكردية المتمركزة في قرى وبلدات عدة، انسحبت إلى مواقعها، ومن ثم اتجهت إلى تنفيذ عمليات قصف أسفرت، الجمعة، عن مقتل 11 مدنيا، حسبما قالت "قسد" والمرصد السوري لحقوق الإنسان.
واتهم النظام "قسد" أيضا بتنفيذ عمليات قصف أسفرت عن ضحايا مدنيين بالقرى والبلدات الخاضعة لسيطرته على الضفة الغربية للفرات.
وتحدث أيضا عن فرض القوات الكردية طوقا على مناطقه في محافظة الحسكة، "مما تسبب في معاناة المدنيين".
وهذه المرة الأولى التي يتبنى فيها النظام السوري، بشكل علني وواضح، المواجهات ضد "قسد" في دير الزور.
في السابق كان السلوك مقتصرا على تغطية وسائل إعلامه غير الرسمية، إذ كانت تدعم من خلال الخطاب ما وصفته بـ"انتفاضة العشائر العربية" ضد القوات الكردية.
وفي بيان لخارجيته الأحد، هاجم النظام "قسد"، وقال إنها "شنت هجمات إجرامية على أهلنا في دير الزور والحسكة والقامشلي"، وقرى أخرى في المناطق الشمالية والشرقية والشمالية الشرقية للبلاد.
واعتبر أن دعم الولايات المتحدة لمن وصفهم بيان الخارجية بـ"ميليشيات انفصالية عميلة لها" يمثل "أداة رخيصة" لتنفيذ مخططاتها.
وردا على ذلك، قالت "الإدارة الذاتية"، وهي المظلة السياسية لـ"قسد"، إن "عقلية تزييف الحقائق" التي يتبعها النظام هي ما أوصل البلاد إلى ما هي عليها الآن.
واعتبرت أن "النظام السوري آخر من يحق له التحدث عن التبعية والانفصالية"، وأن "عقليته ارتكبت مجازر بحق الشعب السوري، وأنه لا يزال على ذات المنهج".
"يد ممدودة من طرف واحد"
ويخضع جزء من محافظة دير الزور لسيطرة النظام السوري، وآخر لسيطرة "قسد".
كما يشترك الطرفان بالسيطرة على محافظة الحسكة، التي توجد فيها "مربعات أمنية" ومؤسسات حكومية رسمية انقطعت كامل الطرق المؤدية لها خلال الأيام الماضية.
ومنذ عام 2019 أبرم الطرفان "تفاهمات" برعاية روسية، أتاحت لقوات من الجيش السوري الانتشار داخل المناطق الخاضعة لـ"قسد"، خاصة في ريف حلب والرقة وأقصى الشمال الشرقي للبلاد.
وكان هناك تفاهمات أخرى، انعكست تفاصيلها على شحنات النفط الخام التي كانت تخرج من مناطق سيطرة القوات الكردية، باتجاه مناطق سيطرة النظام والمصافي الخاصة به.
وعلاوة على ذلك، دائما ما كانت "قسد" تمد يد الحوار باتجاه النظام السوري.
وقالت لأكثر من مرة على لسان قائدها، مظلوم عبدي، إنها تتطلع لأن يكون لها "دور وخصوصية في الجيش السوري".
لكن النظام السوري قابل تلك الدعوات بالتجاهل، ولم يؤكد في أي مرة أو يتطرق للتقارير التي كشفت عن "طاولة حوار" تجمعه مع القوات الكردية بين الفترة والأخرى، وبدفع وبتنسيق من موسكو.
"من 2011 إلى ما بعد كوباني"
يشرح الباحث السوري في مركز "عمران للدراسات الاستراتيجية"، أسامة شيخ علي، أنه يجب التفرقة بين محطات عدة جمعت "حزب الاتحاد الديمقراطي" و"قسد" بالنظام السوري في شمال شرق سوريا.
"الاتحاد الديمقراطي" (PYD) كان تأسس "كوريث لحزب العمال الكردستاني" في سوريا، بعد أن قرر الأخير تغيير استراتيجيته إبان اعتقال عبد الله أوجلان، مطلع عام 1999، عبر تأسيس أحزاب كردية محلية في الدول الأربع: تركيا، إيران، العراق، سوريا، وفق حديث شيخ علي.
ويقول لموقع "الحرة" إنه، بناء على ذلك، حصل "الاتحاد الديمقراطي" على إرث "حزب العمال" في سوريا، سواء على صعيد الحاضنة الشعبية أو العلاقة مع النظام السوري.
وظلت تلك العلاقات "في شد وجذب" بناء على استراتيجية بشار الأسد في التعاطي مع ملف "حزب العمال".
ويضيف شيخ علي أنه، مع بداية الثورة السورية، حصل توافق من نوع ما بين "الاتحاد الديمقراطي" و"حزب العمال"، نصّ على انسحاب النظام من معظم مناطق التوزع الكردي وتسليمها لعناصر "وحدات حماية الشعب" (العماد العسكري لقسد).
وكان هدف النظام يصب في إطار منع توسع الحراك الكردي المؤيد للثورة السورية، والحفاظ على موارد المنطقة من نفط وغاز وقمح، وضمان استمرار وصولها لقبضته في دمشق، وأيضا استخدام ملف "حزب العمال" لمناكفة تركيا، حسب الباحث السوري.
ويشير إلى أن محطة معركة كوباني، التي يجب التفريق بين ما قبلها وما بعدها، فتحت الباب أمام مشهد جديد،وعززه الدعم المقدم من التحالف الدولي، واتخاذ قرار الاعتماد على "وحدات حماية الشعب"، والانخراط العسكري المباشر ضد داعش.
وبعد تأسيس "قسد"، كما يوضح شيخ علي، "لم تعد كوادر (العمال الكردستاني) و(الاتحاد الديمقراطي) تدين بالولاء لنظام الأسد فقط".
وبموازاة ذلك تم تأسيس "الإدارة الذاتية".
وبعدما زادت قوة الإدارة الكردية، وارتفع سقف المطالب السياسية، بدأت "قسد" تنظر للنظام السوري باعتباره "ندا"، واختلفت طبيعة العلاقة بين الطرفين، حسب شيخ علي.
"معادلة ند.. لند"
ومنذ تأسيسها نشأت تيارات أخرى ضمن "قسد"، كان بعضها قريبا من الغرب والولايات المتحدة، ويرى أولوية في هذه العلاقة للحفاظ على المكاسب.
وفي المقابل كانت هناك تيارات أخرى "ظلّت على ولائها لنظام الأسد، ولها ميول نحو إيران والمعسكر الشرقي بشكل عام"، وفق حديث الباحث شيخ علي.
وعلى مدى السنوات الماضية، وبناء على تجارب كردية سابقة في دول الجوار، لم تقطع "الإدارة الذاتية" علاقتها كليا مع النظام السوري، لتضمن: إبقاء قناة تواصل فعالة للمفاوضات، وقطع الطريق أمام تهم السعي نحو "الانفصال"، وحتى لا تستعدي روسيا كليا.
وكان أحد أهداف "قسد" الأساسية التوصل إلى اتفاق مع النظام السوري لكسب شرعية دستورية للإدارة الذاتية، وهو ما أشار إليه مظلوم عبدي سابقا بإحدى مقابلاته.
لكن في المقابل رفض النظام السوري التعامل مع "قسد" باعتبارها ندا، كما يتابع الباحث شيخ علي.
ويضيف أنه "لم يقبل تقديم أي تنازل عن أي جزء من السلطة"، مما يفسر تصريحات "قسد" والنظام، المتباينة بين الفترة والأخرى.
يرى شيخ علي أن سماح "قسد" لقوات النظام السوري بعد 2019 بالانتشار في نقاط التماس في شمال وشرق البلاد جاء "بناء على اتفاقيات بضمانات روسية.
وأوضح أن هذا الخيار لجأت إليه "قسد" لمنع العمليات العسكرية التركية.
كما أشار إلى أنها "لم تسمح بانتشار واسع لجيش النظام، وإنما وحدات حرس حدود وأسلحة متوسطة.. بينما تمر هذه الشحنات تحت أعينها.
من جهته، يعتقد الباحث السياسي الكردي، إبراهيم كابان أن المشكلة ما بين "قسد" والنظام السوري تكمن بأن الأخير "يريد العودة للمناطق الغنية بالثروات، بطرق تشوبها الخديعة.
ويضيف لموقع "الحرة" أن المشكلة تكمن أيضا بعدم اعتراف النظام بـ"قسد"، وخصوصية هذه القوات في المنطقة.
وكانت معظم "الحوارات" التي حصلت في السنوات الماضية بين الطرفين وصلت إلى طريق مسدودة، "بسبب ذهنية النظام وعدم قبوله بالاعتراف الجدي بقسد".
ويتابع كابان في تعليقه على التفاهمات السابقة التي جمعتهما بالقول إن "معظم العلاقات كانت اضطرارية وإجبارية"، وأن "العمليات العسكرية التركية هي ما أجبرت قسد في منبج وريف حلب لفتح قنوات مع الروس".
ودفعت روسيا "قسد" من خلال تلك القنوات للتنسيق مع قوات دمشق.
وأكد كابان أن "العلاقة السابقة كانت وما زالت عسكرية مؤقتة"، وأن "البوابات التجارية والاقتصادية التي فتحت بذات الحال أيضا".
ما الأصداء في دمشق؟
ولا يعرف ما ستؤول إليه مجريات الأحداث في دير الزور، وتشير معظم مواقف النظام السوري والخطاب الذي تبثه وسائل إعلامه إلى التصعيد.
ويعتبر الصحفي المقيم في دمشق، عبد الحميد توفيق، أن العلاقة بين النظام السوري و"قسد" كانت خلال السنوات الماضية "تخادمية".
ويقول لموقع "الحرة" إن "قسد" ذهبت في كثير من الأحيان إلى تحويلها لـ"عمليات انتهازية" ولاعتبارات تتعلق بـ"الحضانة الأميركية والنزعة الانفصالية"، على حد تعبيره.
ورغم اللقاءات التي حصلت بين الطرفين، يوضح توفيق أن "وفود قسد لم تستقبل في دمشق إلا من قبل أجهزة الأمن السورية".
ويضيف: "التقييم الرسمي السوري لهذه المجموعة (قسد) هي عبارة عن ظاهرة تمرد ذات طابع أمني، ولا يجوز أبدا إعطائها أي صيغة لها علاقة بالدولة السورية، حتى لا تصبح طرفا يقابل دولة".
"العلاقة تخادمية وحتى اللحظة هي كذلك"، كما يؤكد الكاتب والصحفي توفيق.
ويقول في تعليقه على ما يجري في دير الزور: "هناك هبة عشائرية حقيقية لها علاقة بقيم العشائر وممارسات غير أخلاقية ارتكبتها قسد، وما أحدثته من تطهير عرقي".
لكن الباحث السياسي كابان يقول إن "النظام يحاول الضغط في منطقة حساسة بالنسبة للولايات المتحدة، أو بمعنى آخر: إلقاء حجر وتشكيل ورقة ضغط على قسد".
ويرجح أن يكون تحركه في دير الزور "مرتبط بعلاقة مباشرة مع محور أستانة، للضغط على قسد وواشنطن، من أجل الانسحاب من سوريا".
"بين مسارين"
ويتفق المراقبون من كل الأطراف أن المشهد في دير الزور يذهب باتجاه التصعيد.
لكن، حتى الآن، لا يعرف من ستكون له الكلمة الأقوى في الميدان، خاصة أن الأعمال العسكرية لا تزال ضمن نطاق التسلل والقصف والرد المضاد.
ويرى الباحث السوري شيخ علي أن الأحداث الحاصلة يمكن قراءتها ضمن مسارين.
الأول أنها "بتحريض إيراني، وهي جزء من الاستراتيجية الإيرانية للضغط على القوات الأميركية ودفعها للانسحاب".
كما أنها "نوع من التحرش بالقوات الأميركية، كجزء من (الرد) على العمليات الاسرائيلية ضدها، وهو رد محسوب والأقل كلفة على إيران، سواء من ناحية الموارد المادية أو البشرية أو تبعاتها السياسية عليها".
ويذهب المسار الثاني باتجاه التقارب التركي مع النظام السوري، ويوضح شيخ علي أن "أحد دوافع تركيا للتقارب مع الأسد هو محاربة قسد".
ورغم أن الأسد لا يملك القوة، ولا الجرأة، على إعلان الحرب النظامية على "قسد" في ظل التواجد الأميركي، إلا أنه "خبير في اللعب على التوازنات الاجتماعية، ويمكنه بسهولة الاستثمار في الثغرات الأمنية والاجتماعية في مناطق عدة بشرق الفرات".
وبالتالي، يتابع الباحث السوري، أنه "يحاول حالة عدم الاستقرار وتشتيت قوة قسد مما يسهل ويعجل تفتيتها، بالتعاون من تركيا".
المواجهات الأخيرة والحالية تثبت أن النظام السوري "ما زال يملك أوراق قوة في شرق الفرات، بإمكانه تحريكها في الوقت الذي يشاء".
ويقول شيخ علي إن ما سبق "تنبهت له قسد، وإذا لم تتمكن من معالجة هذه النقطة فإنها ستشكل تحديا حقيقيا لها في الأيام المقبلة".
ويعتبر الصحفي المقيم في دمشق، توفيق، أن رواية "المواجهات بين قسد والمجموعات الإيرانية كلام باطل".
ويقول إن "دير الزور تعاني من التطهير العرقي من قبل حزب العمال و(قسد)، وأن الأخيرة تدفع ثمن ذلك".
لكن الباحث السياسي كابان يشير إلى أن ما يجري "نابع من ذهنية النظام القائمة على إعادة الهيمنة على المنطقة".
ويقول من ناحية أخرى إنه مرتبط بـ"الصراع الإسرائيلي والإيراني"، معتبرا أن جزءا كبيرا من دير الزور يخضع لسيطرة ميليشيات إيرانية موالية للنظام السوري.