لقطة عامة لمدينة دمشق.. أرشيفية
لقطة عامة لمدينة دمشق.. أرشيفية

الأخبار المتعلقة بـ"المخططات التنظيمية" التي تعمل عليها حكومة النظام السوري في محيط دمشق باتت روتينية ضمن تغطية وسائل الإعلام المحلية، لكن وعند الغوص بالتفاصيل وحيثياتها على الأرض تتكشف ملامح "هندسة تغيير خطيرة"، كما يصفها خبراء وقانونيون لموقع "الحرة".

قبل يومين نشر موقع "أثر برس" المحلي تقريرا بعث من خلال عنوانه بالخط العريض رسالة مباشرة للسوريين من أبناء حي جوبر الدمشقي، الموجودين خارج البلاد، أو القلة التي بقيت داخل الحدود، مفادها أن من كان يملك منزلا في السابق سيأخذ "سهما" في وقت لاحق.

ونقل الموقع المقرب من النظام السوري عن مصدر في محافظة دمشق قوله إنه "بالنسبة لموضوع عودة الأهالي لجوبر فلن يعودوا نهائيا"، والسبب "مخطط تنظيمي جديد".

وفي مرحلة لاحقة وبعد وضع المخطط في إطار التطبيق "ستكون هناك مقاسم جديدة على (نمط ماروتا سيتي)"، ووفقا للمصدر ذاته: "من كان يملك منزلا في جوبر سيأخذ أسهم بمقاسم جديدة، لأن الوضع الإنشائي للمنطقة لا يسمح لسكانها بالعودة".

"جبهة لم يخترقها النظام"

ويقع حي جوبر في شمال شرقي العاصمة دمشق، وتحده عدة أحياء هي: باب توما والقصاع والتجارة والقابون، إضافة إلى زملكا شرقا وعين ترما جنوبا.

وكان قد تعرض لدمار واسع النطاق في أثناء العمليات العسكرية التي نفذتها قوات الأسد ضد فصائل المعارضة قبل الاتفاق الذي أبرم في 2018، كما يعد أبرز الجبهات التي لم يتمكن النظام السوري من اختراقها على مدى سنوات.

ومثل غيره من الأحياء الواقعة في دمشق ومحيطها اتجهت حكومة النظام السوري لتغيير صفته العمرانية في إطار المخططات التنظيمية، التي بدأت بإصدارها بالتتالي وضمن مسار يبتعد كل البعد عن أصحاب العقارات الأصليين.

المخطط التنظيمي الخاص بجوبر يُعرف برقم "106"، وكانت محافظة دمشق أصدرته في يونيو 2022، من أجل تعديل الصفة العمرانية للمناطق العقارية: جوبر والقابون ومسجد أقصاب وعربين وزملكا وعين ترما، وذلك من منطقة حماية وزراعة داخلية وتوسع سكاني إلى مناطق قيد التنظيم.

وتقول منظمات حقوق إنسان محلية، بينها "سوريون من أجل الحقيقة والعدالة" إن المخطط المذكور يعد "أحد أشكال استكمال الحكومة السورية، التي تهدف إلى الاستيلاء على أملاك السوريين العقارين".

معظم سكان المناطق التي شملها المخطط رقم "106" هم من النازحين داخليا أو اللاجئين.

وتضيف المنظمة أن "طرق تنظيم المناطق العقارية/المنظمة سابقا أو غير المنظمة" جزء من سياسة أوسع، تهدف إلى "إعادة الهندسة الاجتماعية في مناطق عدة بسوريا، وعلى نحو خاص تلك التي عُرفت بمعارضتها العسكرية والسياسية في محيط دمشق".

ولتنفيذها والشروع بها على الأرض كان النظام أصدر عدة مراسيم، ابتداء برقم "66" لعام 2012، ولاحقا القانون رقم "10" لعام 2018، وبعده المرسوم التشريعي رقم "237"، الذي نص على إحداث مناطق تنظيمية في مدخل دمشق الشمالي (القابون وحرستا)".

"بين جوبر وماروتا سيتي"

رغم أن غاية المخطط التنظيمي لحي جوبر، وما نص عليه المرسوم رقم "66" لعام 2012 هي ذاتها، تختلف طبيعة الهوية العقارية لكل منطقة على حدة، كما يشرح المهندس السوري، مظهر شربجي.

وفي عام 2012 أصدر رئيس النظام بشار الأسد المرسوم "66"، ونص على إحداث منطقتين تنظيميتين واقعتين ضمن المصوّر العام لمدينة دمشق، "لتطوير مناطق المخالفات والسكن العشوائي، وفق الدراسات التنظيمية التفصيلية المعدة لهما".

وتضم المنطقة الأولى، بحسب المرسوم، جنوب شرقي منطقة المزة من المنطقتين العقاريتين مزة- كفرسوسة، أما المنطقة الثانية فتضم جنوب المتحلق الجنوبي من المناطق العقارية مزة- كفرسوسة- قنوات بساتين- داريا- قدم.

وبينما أطلق على اسم المنطقة الأولى مشروع "ماروتا سيتي"، سميت الثانية باسم "باسيليا سيتي" (اسم سرياني يعني الجنة)، وتصل مساحتها إلى 900 هكتار، بما يعادل تسعة ملايين متر مربع، بينما يبلغ عدد عقارات المشروع 4 آلاف عقار.

الإجراء المذكور تسبب بضياع حقوق العديد من عائلات سكان المزة-بساتين الرازي، وفي حين أن المرسوم رقم "66" نص على تشكيل لجان لتحديد "سكن بديل"، لم يحصل جزء كبير من السكان في المناطق المستهدفة على حقّهم هذا.

ويقول شربجي في حديثه لموقع "الحرة" إنه يوجد اختلاف ما بين "ماروتا سيتي وباسيليا سيتي" والتغيير الحاصل في حي جوبر، بموجب المخطط التنظيمي الجديد.

ويوضح أن منطقة "ماروتا سيتي وباسيليا كانت عبارة عن أراضي زراعية غير منظمة في السابق"، بينما جوبر حي منظّم، والناس فيه يمتلكون رخصا وكثير منهم لديه أبنية طابقية وصفة تنظيمية وهوية عمرانية واضحة.

ما يجري في محيط دمشق عبارة عن "لعبة خبيثة"، على حد تعبير المهندس الذي شغل سابقا رئيس شعبة المهندسين بريف دمشق.

ويرى أن النظام يسير بموجب القانون رقم "10"، ويعمل على تنفيذ "نظام التوزيع الإجباري"، من خلال حلّ الملكيات بشكل كامل، وتحويلها إلى "أسهم"، وهو ما يؤكده أيضا المحامي والقانوني السوري، غزوان قرنفل.

ويعتقد قرنفل في حديثه لموقع "الحرة" أن الأداة الأساسية لما يجري في محيط دمشق هو القانون رقم 10.

وأتاح القانون المذكور للسلطة في دمشق و"بحجة إعادة الإعمار والتنظيم" سلب ملكيات الناس وإعطائهم أسهم مفترضة لا تسمح لهم بالعودة والعيش بنفس الحالة التي كانت سائدة قبل 2011، وفق قرنفل.

"حلقة داخل سلسلة"

وغالبية المناطق التي أصدر لها النظام السوري مخططات تنظيمية كانت ضمن نفوذ فصائل المعارضة، وتعرضت لدمار كبير بفعل العمليات العسكرية.

وجميع سكانها الآن، إما نازحون داخليا أو مهجرون خارج البلاد، بينما قسم منهم معتقل وفي عداد المختفين قسريا، وبالتالي ما يتم العمل عليه يستبعد جميع أصحاب الملكيات الأصليين، وقد يتسبب بضياع حقوقهم بالكامل.

ويرى مدير الوحدة الاستقصائية السورية "سراج"، الصحفي محمد بسيكي، أن المخطط التنظيمي الذي يدور الحديث عنه الآن في حي جوبر " حلقة من سلسلة يسير فيها النظام السوري"، وبهدف "هندسة المنطقة".

وشهدت المناطق المستهدفة بالمخططات في محيط دمشق حربا لسنوات.

وكانت تمثل مراكز للمعارضة السورية ضد الأسد، من داريا إلى ريف دمشق الجنوبي ووصولا إلى الشرقي والشمالي.

ويعتقد الصحفي أن ما يجري في جوبر شبيه لما عملت عليه حكومة النظام السوري في بمشروعي "ماروتا سيتي" و"باسيليا سيتي".

ولا يستبعد إصدار مرسوم شبيه بـ"66" قد يكون خاصا بحي جوبر والقابون على نحو محدد، ويشير بسيكي من جانب آخر إلى أن ما يعمل عليه النظام "مدعوم بترسانة قوانين تؤهله فعل ذلك وتمهد له أيضا".

"المجتمع كما يريده الأسد"

وسبق أن وثقت منظمة "هيومن رايتس ووتش" استخدام حكومة النظام السوري ترسانة من الأدوات التشريعية للاستيلاء على الممتلكات الخاصة للسكان دون وجه حق ودون اتباع الإجراءات القانونية الواجبة أو التعويض.

وتشمل تلك القوانين المرسوم 63 لعام 2012.

وأوضحت المنظمة في تقرير سابق لها أن "مثل هذه القوانين تخلق عوائق كبيرة أمام عودة اللاجئين والنازحين الراغبين في استعادة ممتلكاتهم وإعادة بناء حياتهم".

كما أنها تعقّد جهود إعادة الإعمار الدولية، نظرا لأن الشركات المشاركة في عمليات الهدم أو إعادة تأهيل المباني يمكن أن تواجه خطر المساهمة في انتهاكات حقوق الإنسان والتهجير القسري إذا كانت تتعامل مع ممتلكات استولت عليها حكومة النظام السوري بشكل غير قانوني.

ومن جهته يرى المحامي السوري، غزوان قرنفل، المشهد أخطر من ذلك.

ويتحدث لموقع "الحرة" عن بعد أهم، بقوله مشيرا إلى أن "النظام السوري لن يسمح لأي منطقة خرجت منها هتافات تنادي بإسقاطه بعودها سكانها كليا أو جزئيا".

ويعتقد المحامي أن النظام السوري، من خلال "المخططات التنظيمية" الجديدة والقانون رقم 10 والمرسوم 63، يسعى لـ"هندسة المجتمع السوري، بما يخدم ديمومته في السلطة".

ويضيف: "من تهجّر لن يسمح له بالعودة.. ومن يعود وهم قلة قليلة سيتزاحم في ملكيته مع مستوطنين جدد وأمراء حرب".

"النظام يبني مجتمعا جديدا في محيط دمشق يقوم على مستوطنات ذات صبغات دينية أو مذهبية أو طائفية"، كما يتابع المحامي السوري.

ويعتبر أن "المجتمع الجديد الذي يهندسه الآن يضمن له ديمومته في السلطة، ويختلف عن بنية المجتمع السوري الأصلي".

"تدمير وتهجير.. وإعادة تنظيم"

ومنذ سيطرة النظام السوري على الأحياء الواقعة شرقي العاصمة دمشق خيّم تعتيم إعلامي كبير على تلك المناطق، وخاصة فيما يتعلق بأحوال من بقي هناك أو الإجراءات المرتبطة بملكيات الناس.

لكن، وفي مقابل ذلك، لم تتوقف أصوات التفجيرات رغم انتهاء المعارك، وارتبطت في غالبيتها بالتدمير والمسح الكامل للأبنية الواقعة في جوبر وحي القابون الدمشقي.

وحتى لو تحولت ملكيات الأهالي من المنزل إلى السهم يوضح المحامي قرنفل أن كثير من العائلات ستكون مضطرة ومجبرة على الحصول على "وثائق" لتثبيت ملكيتها هناك.

وتتطلب عملية الحصول على الوثائق أن يكون صاحب العلاقة موجود بنفسه أو وكيل عنه، ولو أراد اتجاه المسار الثاني وهو التوكيل سيكون أمام معضلة الحصول على موافقة أمنية.

ومعظم عائلات جوبر والمناطق المحيطة بها خارج سوريا أو ضمن مناطق سيطرة فصائل المعارضة، ولا تمنح الموافقة الأمنية في الغالب، مما يفقد الشخص إمكانية الحصول على وثيقة الملكية.

ومن الملاحظ، بحسب حديث قرنفل: "لا توجد منطقة هتفت ضد الأسد إلا وتم تدميرها أولا ومن ثم يعاد تنظيمها بموجب القانون رقم 10".

ويقول: "هذا القانون هو الذي يسحب حقوق الملكية للناس، ويمنع العائلات والمجتمع ذاته إلى العودة لنفس مكانه السابق".

ويضيف المهندس السوري، شربجي، أن كثيرا من العائلات السورية سيضيع حقها مع المخططات التنظيمية الجديدة، وما تنص عليه من تحويل الملكيات إلى "أسهم".

ويوضح أن حي جوبر يضم الكثير من الأبنية الطابقية وأن الكثير من الشقق السكنية قبل عام 2011 كان يزيد ثمنها عن 150 ألف دولار.

ومع المخطط التنظيمي الجديد يرى المهندس أن "اللعبة الخبيثة قد تنتهي بضياع حقوق الأهالي هناك"، ويطرح مثالا على ذلك بالقول: "منطقة فيها 4 طوابق قد يتم تعديلها لتصبح 12 وهنا تكون الحصة الأكبر من التغيير الحاصل لصالح المستثمر"، الذي لا يزال مجهولا حتى الآن.

"سؤال كبير"

وتقول الأمم المتحدة إن تكلفة إعادة إعمار البنية التحتية في سوريا تصل إلى 400 مليار دولار. وهذا الرقم يشمل حجم الدمار فقط، ولا يشمل الخسائر البشرية، والمقصود بها الأشخاص الذين قتلوا خلال المعارك، والأشخاص الذين نزحوا وهجّروا من منازلهم.

وأشار إلى هذه الإحصائية بشار الأسد، في مارس 2023، بقوله إن التقديرات للحرب تفوق 400 مليار دولار، مضيفا أنه "رقم تقريبي وقد يكون أكبر، حيث أن بعض المناطق لا تزال خارج سيطرة الدولة السورية"، حسب تعبيره.

ويعتبر الصحفي محمد بسكي أن الفيصل في القضية المتعلقة بالمخططات والفرز وغياب الملاك الأصليين يرتبط بسؤال: هل النظام السوري قادر أن يعيد الإعمار في ظل استمرار العقوبات؟

ويشير إلى أن مشروع "ماروتا سيتي" كان قد تعرض لعقوبات أوروبية، وبعدما كان جزءا من إعادة تأهيل النظام السوري ورجال الأعمال المقربين منه لا تزال عملية إنجازه تسير في متاهة صعبة.

وقد تكون عملية إعادة الإعمار أسهل في حال انفتاح النظام على الدول العربية أو رأينا مساهمة ما من دولة بعينها، وفق الصحفي السوري.

ويؤكد من ناحية أخرى: "جوبر كان قلعة للمعارضة وأكبر تهديد للنظام سياسيا وعسكريا، وجزء كبير من سكانه سيكون متضررا من موضوع المخططات التنظيمية الحاصلة".

ولا يملك النظام السوري إمكانية إعادة الإعمار في الوقت الحالي، بحسب المهندس السوري، شربجي.

ولا يستبعد أن يلجأ إلى "شركات استثمارية أو تجار حروب أو وكلاء إيرانيين لاستغلال حاجة الناس خارج البلاد أو المنكوبين داخله، من أجل شراء أسهمهم".

وبينما يعتقد المحامي قرنفل أن مسألة المخططات التنظيمية لها بعد اقتصادي ومالي مهم للنظام السوري، يؤكد أن الأخير "يحاول تأمين دمشق كونها عاصمة الدولة".

ويضمن من خلال "الهندسة الجديدة" بأن تكون تحت يد السلطة، ومهما كان الثمن.

وقبل السنوات التي سبقت الثورة السورية وضع النظام السوري الكثير من الثكنات العسكرية والقطع في محيط دمشق، "مدعيا أنها لتأمين العاصمة من إسرائيل"، على حد تعبير المحامي.

ويضيف: "لكن تبين أن الحزام العسكري كان لحماية دمشق من السقوط بيد الشعب. اليوم يتبع ذات السياسة لكن عبر مجتمع استيطاني جديد، وبمستوطنين ليسوا بدمشقيين أصليين".

القبور الجماعية في سوريا شاهد على جرائم الأسد. أرشيفية
القبور الجماعية في سوريا شاهد على جرائم الأسد. أرشيفية

رغم هروب بشار الأسد من سوريا، تعيش عائلات الضحايا على أمل عدم إفلاته ومسؤوليه، من المحاسبة على إرث الفظائع الشنيعة التي ارتكبها النظام وأعوانه منذ موجة الاحتاجات في مارس 2011.

المحاسبة والوصول إلى "العدالة الانتقالية"، لا يمكن القيام بها من دون رصد حقيقي لجرائم الحرب في سوريا، فكيف يمكن توثيقها؟

أستاذ القانون الدولي، البروفيسور أيمن سلامة وضع شرطين حتى يمكن للسوريين معاقبة المسؤولين على جرائم الحرب وضمان عدم إفلاتهم من العقاب.

وقال في حديث لموقع "الحرة" إن الشرط الأول، هو التوثيق القانوني الصحيح للأدلة، والثاني، انضمام سوريا رسميا للمحكمة الجنائية الدولية.

وأضاف أن الإدارة السورية المؤقتة، عليها فتح الباب لآلية الأمم المتحدة من أجل المباشرة في التوثيق القانوني، اعتمادا على الأدلة والقرائن، التي تربط بين النظام السابق للأسد، وجرائم الحرب التي ارتكبت منذ 2011.

اللجان الأممية

مطالب بتوثيق جرائم الحرب في سوريا . أرشيفية

وأقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة تأسيس "الآلية الدولية المحايدة والمستقلة" في ديسمبر 2016، وهي مكلفة بالمساعدة في التحقيق وملاحقة الأفراد المسؤولين عن ارتكاب أخطر الجرائم الدولية في سوريا منذ مارس 2011، بما في ذلك جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية.

وتتيح هذه الآلية جمع الأدلة والشهادات، وهي تضم خبراء عسكريين وقانونيين، ولديهم قاعدة بيانات تمكنهم من تحديد الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني، بحسب سلامة.

وقبل إنشاء هذه الآلية، تم تأسيس لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن سوريا في أغسطس من 2011 من قبل مجلس حقوق الإنسان، حيث تتمثل مهمتها في التحقيق بشأن كل الانتهاكات المزعومة لقانون حقوق الإنسان المرتكبة، وتحديد الجناة.

وتجمع لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن سوريا أدلة على الجرائم المرتكبة في هذا البلد منذ اندلاع النزاع، ووضعت قوائم بـ 4000 شخص يشتبه بارتكابهم هذه الجرائم.

وفي أواخر ديسمبر دعت مجموعة من خبراء حقوق الإنسان المستقلين للحفاظ على أدلة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والجرائم الدولية المرتكبة خلال سنوات الصراع والاستبداد التي شهدتها سوريا، بحسب بيان للأمم المتحدة.

ودعوا إلى رسم خرائط شاملة وجمع وتسجيل وحفظ الأدلة والشهادات، بالتزامن مع ضمان الأمن وتوفير الدعم النفسي والاجتماعي للضحايا وأقاربهم والشهود والمشاركين في التحقيقات.

مطالبة أممية لسوريا بحماية أدلة الانتهاكات الحقوقية لتحقيق العدالة
أعلنت الأمم المتحدة الأربعاء أنها طالبت السلطات المؤقتة في سوريا بحماية الأدلة التي ستساعد الشعب في تحقيق العدالة والمساءلة بعد مشاهد انتظار الآلاف من ذوي المفقودين أمام سجن صيدنايا ومراكز اعتقال أو احتجاز أخرى عقب سقوط نظام بشار الأسد الذي كان معروفا بانتهاكاته لحقوق الإنسان والتعذيب والموت والاختفاء والاغتصاب.

وقالوا إنه "مع ظهور معلومات جديدة حول مصير ضحايا الجرائم المروعة وأماكن وجودهم، تصبح حماية مواقع الاحتجاز، بما في ذلك سجن صيدنايا سيئ السمعة، ومواقع الدفن، وجمع وحفظ الأدلة والشهادات أولوية".

وأشاروا إلى ضرورة التحقيق في هذه الانتهاكات، التي ترقى في كثير من الحالات إلى جرائم دولية، وملاحقة مرتكبيها ومعاقبتهم لكشف الحقيقة للضحايا والمجتمع ككل وتحقيق العدالة وتعزيز المصالحة والانطلاق على طريق نحو السلام المستدام".

وحث الخبراء السلطات المؤقتة على إنشاء نظام للحفاظ على المقابر الجماعية، ووضع بروتوكولات لاستخراج الجثث من مواقع القبور، وتحديد أولويات استخراج الجثث من مواقع القبور الجماعية والإشراف على تنفيذها، بما يوازن بين احتياجات الأسر لتحديد هوية الضحايا ومتطلبات الأدلة للإجراءات الجنائية.

وزار رئيس الآلية الدولية المحايدة، روبرت بيتي، دمشق في أواخر ديسمبر الماضي وقال إن "سقوط حكم الأسد يمثل فرصة مهمة" للوفاء بولاية الآلية على الأرض.

وأشار إلى أنه حتى في أحد المرافق، "تكشف جبال الوثائق الحكومية عن الكفاءة المروعة لتوثيق جرائم النظام الفظيعة".

وسلط بيتي الضوء على الحاجة الملحة إلى الحفاظ على الأدلة قبل أن تضيع إلى الأبد، وأضاف: "الوقت ينفد. هناك فرصة صغيرة لتأمين هذه المواقع والمواد التي تحتوي عليها. وفي كل يوم نفشل فيه في القيام بذلك، نخاطر بفقدان فرصة المساءلة الشاملة".

"العدالة الانتقالية"

جدران السجون تكشف جرائم الأسد. أرشيفية

ومنذ بداية سقوط نظام الأسد، يتداول بكثرة مصطلح "العدالة الانتقالية" والتي دعا إليها مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك.

وبحسب المركز الدولي للعدالة الانتقالية، يشير هذا المصطلح إلى كيفية استجابة المجتمعات لإرث الانتهاكات الجسيمة والصارخة لحقوق الإنسان، وهي تعنى بتحقيق حقوق الضحايا قبل أي اعتبار.

وأشار سلامة إلى أن تحقيق "العدالة الانتقالية" يتطلب شفافية في التحقيقات ويعزز من المصالحة الوطنية على مستوى عموم سوريا، بمحاسبة المتورطين ضمن أطر قانونية وليس انتقامية.

ودعا مفوض الأمم المتحدة تورك إلى تحقيق "العدالة الانتقالية" في سوريا، معتبرا أن الأمر "بالغ الأهمية" بعد تسلم إدارة جديدة السلطة في البلاد.

عددهم ربما يفوق 100 ألف.. اتهامات للشرع بإهمال ملف المعتقلين
تكريس لحالة "الفوقية البيضاء" حيث قيمة حياة الرجل "الأبيض أعلى بكثير من حياة المواطن" السوري، بهذه الكلمات عبرت الناشطة السورية وفاء مصطفى عن "غضبها وحزنها" من واقع تعامل الإدارة السورية الجديدة مع ملف المعتقلين السوريين.

وقال تورك خلال مؤتمر صحفي في منتصف يناير من دمشق إن "العدالة الانتقالية أمر بالغ الأهمية مع تقدم سوريا نحو المستقبل ... الانتقام والثأر ليسا أبدا الحل".

وأضاف تورك "يجب التحقيق بشكل كامل في حالات الإخفاء القسري، والتعذيب، واستخدام الأسلحة الكيميائية، وغيرها من الجرائم. وبعد ذلك، يجب تحقيق العدالة بشكل عادل وحيادي".

ووفقا للقانون الإنساني الدولي، والمادة الثامنة من نظام "روما" المؤسس للمحكمة الجنائية الدولية، جرائم الحرب هي تلك "الانتهاكات الجسيمة لقوانين الحرب وأعرافها المطبقة في النزاعات المسلحة".

وفي تعريف موسع شمل نظام روما الأفعال التي تؤسس لجرائم ضد الإنسانية أو جرائم الحرب، والتي تشمل: القتل العمد، والتعذيب، والمعاملة اللاإنسانية، وإجراء تجارب بيولوجية، أو إلحاق تدمير واسع النطاق بالممتلكات والاستيلاء عليها، دون أن تكون هناك ضرورة عسكرية تبرر ذلك وبالمخالفة للقانون وبطريقة عابثة.

كما تشمل تلك الجرائم تعمد توجيه هجمات ضد السكان المدنيين، أو مهاجمة، أو قصف المدن، أو القرى، أو المساكن، أو المباني العزلاء التي لا تكون أهدافا عسكرية، بأية وسيلة كانت.

اختصاص القضاء العالمي

مطالب بتحقيق العدالة الانتقالية في سوريا. أرشيفية

وذكر سلامة أن الطريق مفتوحة أمام سوريا لطرق أبواب المحكمة الجنائية الدولية بطلب رسمي لملاحقة المسؤولين والسياسيين والعسكريين السوريين المتورطين في جرائم الحرب.

وبشأن اختصاص القضاء السوري في المحاسبة، قال البروفيسور سلامة وهو أستاذ فخري بالمعهد الدولي لحقوق الإنسان في الولايات المتحدة، إنه في حال إيجاد آليات لملاحقة المسؤولين السوريين يمكن تنفيذ مبدأ "اختصاص القضاء العالمي" ليصبح القضاء الوطني الأجنبي لكل دولة قادرا على محاسبة المتورطين في جرائم حرب في سوريا أينما كانوا.

وفي التفاصيل لقواعد التقاضي أشار إلى أن المحاكم الجنائية السورية تبقى هي "حجر الزاوية بالنسبة للمحاكمة على الجرائم الدولية"، ولكن قد يكون كادرها القضائي والفني غير قادر على إنفاذ قواعد التقاضي ضد مرتكبي جرائم الحرب، وهو ما يعني الحاجة إلى الاستعانة بالخبرات الدولية.

وقال إنه في حال محاكمة بشار الأسد، لا يمكنه الدفع بصفته الرسمية كرئيس للدولة، ما يبيح له ارتكاب الجرائم من دون تحميله المسؤولية، حيث يتضمن الدستور السوري نصا بأن الرئيس لا يكون مسؤولا عن الأعمال التي يقوم بها في مباشرة أعماله إلا في حالة الخيانة العظمى.

كما ينص الدستور على أن رئيس الدولة هو القائد الأعلى للقوات المسلحة، وهذا يعني أن تسيير العمليات الحربية والقرارات العسكرية الاستراتيجية كانت بيد الأسد، ولهذا فإن أي رئيس يأمر بارتكاب جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية لا يستطيع أن يفلت من المسؤولية الجنائية الدولية، وفقا لسلامة.

Fighters of Hayat Tahrir al-Sham (HTS) search for pro-Assad fighters and weapons in Homs
لقطات توثق ومنظمات تحذر.. ماذا يحدث لفلول الأسد داخل سوريا؟
فلولوتجري منذ الخميس الماضي، حملة أمنية لفرض الاستقرار والسلم الأهلي، عبر ملاحقة واعتقال "فلول ميليشيات الأسد".
والحملة التي بدأت من طرطوس، امتدت لتشمل مدن حمص وحماة ودرعا، نجم عنها اعتقال المئات من فلول النظام، ومصادرة كميات كبيرة من الأسلحة والذخائر.

ويقول موقع منظمة الشرطة الجنائية الدولية "الإنتربول" إن جرائم الإبادة الجماعية والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية وجرائم الحرب هي أخطر أنواع الجرائم التي تثير قلق المجتمع الدولي.

وأضاف أن هذه الجرائم "تترك أثرا يدوم ويلحق الضرر بسلامة وأمن المجتمعات والمناطق والبلدان بعد عقود من ارتكابها".

ومن بين الاتفاقيات الموقعة عليها العديد من الدول المتعلقة بجرائم الحرب، فلا عدم تقادم لهذا النوع من الجرائم، أو الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية.

لجنة التحقيق الأممية بشأن سوريا، دعت في أواخر العام الماضي إلى "حماية جميع الأدلة ومسارح الجريمة، بما في ذلك مواقع المقابر الجماعية، من أجل التوثيق والتحليل الجنائي".

وطالبت حكومة تصريف الأعمال بضمان "حماية جميع ملفات الاعتقال والاحتجاز وحفظها في المواقع التي عثر عليها فيها بطريقة تضمن فائدتها في عمليات المساءلة في المستقبل".

واقترحت إنشاء الإدارة السورية الجديدة لوحدة قيادة وتنسيق لحماية مواقع المقابر الجماعية والوثائق والأدلة، إلى أن يحين الوقت الذي يمكن فيه للخبراء السوريين والدوليين فحصها لحماية حق العائلات في معرفة الحقيقة.

السوريون الموجود في بلادهم أو في المنفى ينظرون إلى سوريا "كمسرح جريمة" تكلفته البشرية كانت مرتفعة جدا، إذ قد يحتاجون عدة أجيال لينسوا ما حصل لهم ولأحبائهم.

ولا يطالبون سوى "بالمساءلة" و"العدالة" لضحاياهم من جرائم الأسد ومسؤوليه.