رغم أنها استُهدفت بغارات عدة منذ بداية العام الحالي، حَملت الضربة الجوية الأخيرة على ضاحية المزّة بالعاصمة السورية، دمشق، تفاصيل استثنائية، من زاوية توثيقها بالفيديو لأول مرة من جانب الجيش الإسرائيلي، ومن منطلق الأجواء التي تبعتها، مما دفع سكان لاستشعار خطر "موقوت" بات يحيط بهم داخل المنازل، وحتى عند التنقل في الشوارع والأماكن العامة.
الضربة، التي تزامنت مع أخرى في منطقة قدسيا بدمشق، قبل 3 أيام، أسفرت عن مقتل 5 مدنيين، بينهم أطفال، وقال الجيش الإسرائيلي إنه استهدف بها قادة ومسؤولين في حركة "الجهاد الإسلامي"، وهو الأمر الذي أكدته الأخيرة ببيان رسمي.
ولم تكن تلك الضربة الأولى من نوعها، بل سبقتها ضربات عدة، وفي حين أدت غالبيتها إلى مقتل مدنيين من نساء وأطفال ورجال، سلطت في المقابل الضوء على تحوّل كبير في مشهد المزّة، المنطقة الثرية التي لم يتوقع أهلها سابقا أن تصل فيها الأمور إلى هذه الحد، حسبما يقول أحمد، وهو أحد سكانها، ويقيم حاليا في إسطنبول التركية.
منذ وصوله إلى إسطنبول قبل 7 سنوات حاول الشاب الثلاثيني جلب عائلته المقيمة في تلك المنطقة الواقعة على كتف جبل المزة إلى تركيا من أجل العيش معه، لكن جميع محاولاته باءت بالفشل، بسبب إصرار أبيه وأمه على البقاء في منزلهما، مع رفضهما الخروج من دمشق.
وبعدما باتت الضربات الإسرائيلية مؤخرا تأخذ مسارا أكثر شراسة، وفي المزة بالتحديد، اتصل به أبيه وقال له "لو أننا خرجنا"، ويضيف أحمد لموقع "الحرة": "الناس في تلك المنطقة أصبحوا في خوف. لم يعد هناك أي مأمن، سواء داخل الشقق السكنية أو الشوارع العامة".
وكانت ضربة، مطلع الأسبوع الماضي، أن تودي بحياة ابنة عمه، عندما بقيت في السيارة أمام إحدى الأبنية السكنية في وقت ذهب زوجها لشراء بعض الاحتياجات المنزلية.
ويتابع الشاب: "الصاروخ ضرب البناء المقابل للسيارة التي كانت فيه ابنة عمي مع ابنها. الأهالي يخافون الموت، ولا يعرفون كيف يتم ذلك. في المنزل أو وهم يمشون ويتسوقون في شوارع المنطقة!".
وتعتبر المزّة إحدى مناطق دمشق الحديثة، وتقع على سفح جبل المزة بامتداد الغرب، وهي مدخل العاصمة السورية من الجهة الجنوبية والغربية.
وفي زمن الوحدة السورية-المصرية نشأت كحي سكني شعبي، وبعد ذلك أقيم بها أوتوستراد كبير في عقد الثمانينيات، كان في الأساس مهبط طائرات عسكرية مخصصة للمطار العسكري الموجود هناك، حسب موقع "الموسوعة الدمشقية".
ويورد ذات الموقع أن المزة كانت عرفت في فترة الانتداب الفرنسي بسجن المزة، وتضم اليوم أحياء سكنية، وهي مقر لعدة كليات وسفارات ومنظمات دولية ومنشآت سياحية، وفيها أيضا مقرات حكومية ورسمية وقصر العدل.
"من الأمويين إلى السومرية"
على خريطة العاصمة السورية تبدأ المزّة من ساحة الأمويين شرقا وحتى السومرية غربا، ومن جبل المزة شمالا إلى منطقة كفرسوسة جنوبا، وتقسم إلى عدة أحياء هي: مزة شيخ سعد (مزة قديمة)، مزة جبل، مزة أوتوستراد، مزة فيلات غربية، مزة فيلات شرقية.
وبالإضافة إلى الحي المسمى بـ"مزة 86"، بناء على اسم الكتيبة العسكرية التي تقع في نفس المنطقة، كما يوجد في المنطقة تجمع للفلسطينيين، يسمى بـ"حوش سبيس".
وفي أبريل 2024 برز اسم المزة على نحو كبير، عندما ضربت إسرائيل مبنى القنصلية الإيرانية الواقعة على الأوتوستراد، مما أسفر عن مقتل قادة في "الحرس الثوري" الإيراني، أبرزهم محمد رضا زاهدي.
ودفعت هذه الحادثة إيران للرد على إسرائيل، من خلال إطلاق مسيّرات انتحارية وصواريخ بالستية، للمرة الأولى منذ بدء الصراع بين الطرفين.
ورغم ذلك لم توقف إسرائيل ضرباتها، وعلى العكس بدأت توسعها إلى كفرسوسة جنوبا وإلى الشمال والشرق، حيث تتمركز الكثير من المواقع العسكرية.
وفي المزّة ذاتها كانت قتلت العديد من مسؤولي "الحرس الثوري"، ومن حزب الله، أبرزهم حسن قصير، صهر نصر الله الأمين العام الراحل للجماعة اللبنانية المدعومة من إيران.
ويشير الصحفي في موقع "صوت العاصمة" المختص بتغطية أخبار دمشق وريفها، خليل السامح، إلى وجود "مخاوف كبيرة" لدى سكان المزة من وجود الغرباء في المنطقة، سواء كان الغريب لبنانيا أم عراقيا وإيرانيا.
ويقول لموقع "الحرة": "بات يضاف عليهم اليوم وجود قيادات من حركة حماس والفصائل الفلسطينية، ولاسيما أن المزة تُعتبر منطقة تواجدهم الرئيسية منذ سنوات".
"مقر تاريخي"
قبل عام 2011 كانت قادة حركة "حماس" و"الجهاد الإسلامي" يقيمون في المزّة، بحكم أهميتها من الناحية الدبلوماسية وكونها أبرز المناطق الراقية في العاصمة السورية.
ودائما ما كان سكان المنطقة هناك يشاهدون أولئك القادة بينما يتنقلون بشكل طبيعي ويرتادون المساجد، وفق ما يقول الشاب أحمد لموقع "الحرة"، معتبرا أنه كان مشهدا اعتياديا بالنسبة لتلك الفترة.
لكن الواقع تغير بعد ذلك، من منطلق خروج قادة الحركة من دمشق بعد 2012، واستنادا للحرب المندلعة الآن، والأهداف التي تقول إسرائيل إنها تضربها في العاصمة السورية، ويتصدرها مسؤولو "حزب الله" و"الحرس الثوري" الإيراني.
ويوضح السامح أن المخاوف التي باتت تحكم مشهد منطقة المزة "تتمثل باحتمال حصول ضربات إسرائيلية جديدة قد تودي بحياة مدنيين"، ويشير إلى أن طبيعة الاستهدافات أصبحت تنحصر بضرب شقق سكنية داخل أبنية ومجمعات.
كما يتحدث عن "حركة نزوح ملحوظة من بعض أحياء المزّة بدأها أشخاص لديهم منازل في مناطق وأحياء أخرى"
.
ويشمل النزوح أيضا الأشخاص المستأجرين، دون أن ينسحب ذلك إلى المالكين الذين لا يوجد لديهم مكان آخر، فيما "سلموا أمرهم للقدر"، على حد تعبير الصحفي السوري.
لماذا التركيز على المزّة؟
لا يعرف حتى الآن ما إذا كانت المزة ستشهد ضربات جديدة من قبل إسرائيل، وهي التي تهدد على لسان جميع مسؤوليها بالعمل على ضرب قادة حزب الله وخطوط إمداده القادمة من سوريا.
وفي المقابل يطلق تركيز قادة حزب الله وإيران على المزة كمقر رئيسي رغم تتالي الضربات تساؤلات، فيما ترتبط الأجوبة المتعلقة بها بعدة مسارات، كما يقول سكان ومراقبون.
"منطقة المزة كبيرة ولا يمكن أن تضمن وتعرف من يسكن معك"، كما يقول الشاب أحمد، مشيرا إلى أن هذه الحالة تنحصر بشكل محدد على أحياء "مزة فيلات غربية" و"فيلات شرقية".
ويعتقد أن إصرار قادة حزب الله والقادة الآخرين المرتبطين بإيران على البقاء في ذات المنطقة المستهدفة يرتبط إما بهدف "التواري عن الأنظار نظرا للكثافة السكانية العالية"، أو لقضية تتعلق بشكل الاختراقات الاستخباراتية الحاصلة من جانب إسرائيل.
وبدوره يشرح الباحث السوري في مركز "حرمون" للدراسات المعاصرة، نوار شعبان، أن المزة، من الناحية الجغرافية ترتبط بقلب العاصمة السورية، وبالتالي هي "منطقة استراتيجية".
ويقول لموقع "الحرة": "من الواضح أن غرف العمليات ومصالح القادة (الاستراتيجية لا العسكرية) التي بنيت في هذه المنطقة لا تزال على حالها حتى الآن".
ومن الناحية اللوجستية سيكون من الصعب نقل تلك المصالح والخبراء والقادة الجدد مع عائلاتهم بشكل سريع، وفق شعبان.
وما يزيد من الصعوبة على نحو أكبر هو غياب البدائل الآمنة الأخرى.
ولكن في المنحى الآخر، يعتقد الباحث السوري أنه "يوجد نوع من سوء التخطيط الاستراتيجي لدى إيران وحزب الله".
ويشرح حديثه بالقول: "ربما رأوا سابقا أن الضربات على المزة ستكون متفرقة ولن تتكرر.. لكنهم وقعوا في فخ إسرائيل، ويبدو أن الأخيرة لديها معلومات كافية عن مكان إقامتهم وتحركاتهم أيضا".
"مخاوف من سيناريو الضاحية"
وعلى خلاف ما تتبعه في الضاحية الجنوبية لبيروت، لا توجه إسرائيل أي تحذيرات قبل تنفيذ ضرباتها في سوريا.
والأسبوع الماضي، وبينما كانت الانفجارات تهز العاصمة السورية، وتتوالى الأخبار المتعلقة بالخسائر الحاصلة في المزة بدأ سوريون يثيرون المخاوف من تحوّل هذه المنطقة إلى سيناريو جديد يشبه ما يجري في الضاحية الجنوبية لبيروت.
ويقول الباحث السوري شعبان إن "الطريقة التي تتبعها إسرائيل من خلال الإعلان والتوثيق الرسمي والنادر قد لا تجعل تطبيق سيناريو الضاحية الجنوبية مستبعدا".
من ناحية أخرى يشير الصحفي في "صوت العاصمة"، خليل السامح، إلى أن "بعض الأبنية المنظمة في المزة، التي تحوي عدد من اللجان، أجرت عمليات جرد على المنازل المُغلقة والمؤجرة".
وتأكده هذه اللجان مؤخرا من عدم وجود غرباء أو أجانب.
ويقول الصحفي: "رصدنا أيضا عمليات طرد لأشخاص لبنانيين وعراقيين (سياح) من بعض المنازل التي استأجرها سوريون وقاموا بتأجيرها بشكل أسبوعي، أو عبر عقد استضافة أشخاص قادمين من لبنان ضمن موجة النزوح الأخيرة".
ولا وجود واضح نهائيا لكل من قُتل في كفرسوسة والمزة خلال السنة الأخيرة.
ويضيف الصحفي أن "وجود القادة المشتبه بهم يقتصر على إقامة لبضعة ساعات أو أيام في المنزل".
ويوضح أن "جميع المنازل المستهدفة كانت تستخدم لاجتماعات أو إقامة مؤقتة لساعات وربما يومين أو ثلاثة على الأكثر"، وأنها "مؤجرة أو مملوكة لأشخاص سوريين قد لا يكونون أساسا على تنسيق أو دراية بهوية الشخص الذي سيكون في المنزل".
كيف تتفاعل السلطات في دمشق؟
وتضم منطقة المزة خليط كبير ومختلف من السكان. ويشمل ذلك المدني صاحب الملكية القديم، والمدني صاحب المال، ورجل الأعمال والفنان ومن جميع الطوائف.
ويوجد في المنطقة أيضا أحياء وأزقة تحوي مسؤولين حكوميين وضباط أمن على مستوى عالٍ، كما يوجد بها سفارات معظم الدول.
ويعود السامح إلى الوراء، ويقول إن صادق زادة ضابط استخبارات "الحرس الثوري"، الذي قتلته إسرائيل في وقت سابق كان الوحيد الذي يقيم في منزله في كفرسوسة علنا.
ويضيف أنه كان يتردد إلى منزله بكثرة، وكان صديقا للكثير من الجيران الموجودين ضمن الحي.
ولم يكرٍس النظام السوري خلال الأشهر الماضية من الضربات على دمشق والمزة بالتحديد أي دور فعلي على الأرض.
وفي حين تقتصر وسائل إعلامه على تغطية حجم الخسائر المادية والبشرية، يقول الصحفي السوري إن سلطاته "تركز على دور القدوم إلى المكان المستهدف وإزالة الأنقاض وسحب الجثث".
لكن في المقابل يشير السامح إلى أن السلطات الأمنية في دمشق عملت منذ 3 أشهر على إجراء دراسة تفصيلية على كل الأشخاص الأجانب المستأجرين في منطقة المزة.
وبسبب وجود عشرات المنازل العائدة للميليشيات والمُغلقة منذ سنوات لم تستطع السلطات الوصول لإجابة واضحة، خاصة وأن جميع المستأجرين سوريين وليسوا أجانب بموجب قانون منع التأجير للأجنبي، وفق ذات الصحفي.