كثّفت القوى الأوروبية تحركاتها الدبلوماسية في سوريا خلال الأيام الأخيرة، في تحول عن سياستها السابقة، إذ أجرت وفود عن فرنسا وألمانيا وبريطانيا محادثات مع السلطة الجديدة في العاصمة دمشق.
ولأيام، اتسمت مواقف العواصم الأوروبية بالحذر إزاء التغيير في سوريا، إذ رغم إعرابها عن ترحيبها بسقوط نظام بشار الأسد، ظلت تترقب مؤشرات واضحة من السلطة الجديدة بشأن المرحلة المقبلة، قبل أن تباشر بفتح قنوات اتصال مباشرة مع هيئة تحرير الشام وزعيمها "أبو محمد الجولاني"، رغم استمرار تصنيفها كمنظمة إرهابية.
وفي خطوة رمزية، أعادت فرنسا، الثلاثاء، رفع علمها في دمشق للمرة الأولى منذ إغلاقها عام 2012، وصرح المبعوث الفرنسي الخاص، جان فرنسوا غييوم، بأن بلاده "تستعد للوقوف إلى جانب السوريين". كما أجرى دبلوماسيون بريطانيون وألمان محادثات مع الجولاني للتباحث في مسار العملية الانتقالية السياسية.
وعلى مستوى الاتحاد الأوروبي، تعهدت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، بتكثيف "التعامل المباشر" مع القيادة الجديدة في سوريا، معلنة عن إعادة فتح بعثته الدبلوماسية في دمشق، مع تحديد شروط يتعين على القادة الجدد احترامها.
وتركزت المحادثات الأوروبية مع القيادة السورية الجديدة على ملفات عدة؛ أبرزها ضمان عملية انتقالية سلمية، وحماية الأقليات، وتأمين مخزونات الأسلحة الكيميائية ومنع عودة تنظيم داعش الإرهابي.
3 قضايا رئيسية
ويرى خبراء في الشأن الأوروبي أن التحركات الأخيرة تحركها مصالح استراتيجية وهواجس أمنية متعددة، في مقدمتها إيجاد حل لمسألة اللاجئين السوريين ومنع موجات لجوء جديدة، وتطلعها للحصول على حصة في مشاريع إعادة الإعمار المرتقبة، فضلا عن مساعيها لتأمين موارد بديلة للطاقة.
الباحث في الشؤون الأوروبية، محمد رجائي بركات، يقول إن التحركات الأخيرة تجاه سوريا تأتي كمحاولة من الأوروبيين لإعادة تموضعهم في المنطقة، مشيراً إلى أنها مدفوعة بـ"حزمة من المصالح الاستراتيجية".
واعتبر الباحث المقيم في بروكسيل، في تصريحات لموقع "الحرة"، أن الأهداف الأوروبية في سوريا تتمحور أساسا حول "ثلاثة قضايا رئيسية"، وهي إيجاد حل لقضية اللاجئين السوريين، والحصول على حصة من عقود إعادة الإعمار، وتأمين مصادر جديدة للطاقة كبديل للغاز الروسي.
غير أن المتحدث ذاته، يلفت إلى أن الاجتماعات الأخيرة لوزراء خارجية الاتحاد الأوروبي في بروكسل كشفت عن "تردد واضح وعدم ثقة في النظام الجديد"، قبل أن يضيف أن الهدف وراء زيارات الوفود الأوروبية التي حلت بسوريا كان "استكشاف نوايا هيئة تحرير الشام وطمأنة المسؤولين الأوروبيين بشأن مستقبل سوريا".

وتحاول البلدان الغربية تحديد مقاربة للتعامل مع هيئة تحرير الشام المدرجة في بلدان غربية على قائمة المجموعات "الإرهابية".
بشأن شروط الأوروبيين للتعامل مع قادة دمشق الجدد، يرى بركات أن أبرزها يبقى "الاعتراف بدولة إسرائيل، وضمان الحريات لكافة المواطنين بغض النظر عن دياناتهم، والحد من النفوذ الروسي في سوريا مستقبلا".
ويلفت الباحث إلى أن "القرار الأوروبي يظل كذلك مرتبطا بالموقف الأميركي"، موضحاً أن "المسؤولين الأوروبيين ينتظرون قرارات الرئيس المنتخب، دونالد، ترامب بشأن سوريا، خاصة ما يتعلق برفع العقوبات عن سوريا وشروط تقديم المساعدات لإعادة الإعمار".
وعلى جانب آخر، يشير المتحدث ذاته إلى أن أعين الأوربيين تتجه أيضا نحو موارد الغاز في المنطقة، لتمثل بديلا للإمدادات الروسية التي توقفت بسبب حرب أوكرانيا مما تسبب لها في مشاكل اقتصادية كبيرة، معتبرا أن "هذا الملف يبقى "أحد المحركات الرئيسية للتحركات الأوروبية في المنطقة".
تعهدات ومخاوف
وتعهّدت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لايين، بتكثيف "التعامل المباشر" مع القيادة الجديدة في سوريا بعد إطاحة بشار الأسد.
وجاءت تصريحاتها بعدما وافق الاتحاد الأوروبي على إعادة فتح بعثته الدبلوماسية في دمشق وزيادة الدعم لسوريا، بينما حدد مجموعة من الشروط التي سيتعيّن على القادة الجدد احترامها.
في هذا الجانب، يؤكد المحلل السياسي المختص في الشؤون الأوروبية والهجرة، زاهي علاوي، أن النشاط الدبلوماسي الأوروبي الأخير في سوريا "مدفوعة أساسا بمخاوف من موجة لجوء جديدة ومصالح اقتصادية مرتبطة بإعادة الإعمار".
وقال علاوي في تصريح لموقع الحرة"، إن أوروبا "تسعى لاتباع سياسة الدفاع المسبق عبر التقرب من الإدارة الجديدة وتقبلها، خاصة بعد أن استقبلت القارة أكثر من مليوني لاجئ سوري في الموجة السابقة، والتي أدت إلى صعود اليمين المتطرف في العديد من الدول الأوروبية".

وتناول تقرير المجلس الأوروبي للشؤون الخارجية تداعيات سقوط نظام بشار الأسد على ملف اللاجئين السوريين في أوروبا، محذراً من التسرع في إيقاف طلبات اللجوء أو الدفع باتجاه عودة فورية للاجئين.
وأشار التقرير إلى أن المواقف الأوروبية المتسرعة تأتي مدفوعة بضغوط سياسية داخلية وصعود أحزاب اليمين، رغم أن الأوضاع على الأرض في سوريا لا تزال متقلبة وغير مستقرة.
ولفت التقرير إلى أن العودة المستدامة للاجئين تتطلب أكثر من مجرد توفير الأمان، إذ يجب إعادة تأهيل البنية التحتية وتوفير فرص اقتصادية وتعليمية وصحية.
كما أشار إلى أن بعض السوريين، وخاصة الشباب الذين نشأوا في أوروبا، قد لا يرغبون في العودة مطلقا، مؤكداً أن أوروبا نفسها بحاجة لبقاء بعض السوريين، خاصة في قطاعات حيوية مثل الرعاية الصحية.
ومنذ بداية الحرب في سوريا سنة 2011، ترك أكثر من نصف السوريين ديارهم، أي 13 مليون شخص، بحسب مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين.
وقصد الجزء الأكبر من اللاجئين السوريين المقدّر عددهم بنحو 6 ملايين، بلدانا مجاورة، مثل لبنان وتركيا والأردن ومصر والعراق، في حين فرّ آخرون إلى أوروبا.
في هذا السياق، يشدد التقرير على ضرورة تبني مقاربة متأنية ومدروسة لملف عودة اللاجئين، داعيا القادة الأوروبيين إلى دعم عملية انتقال سياسي شامل برعاية الأمم المتحدة، والعمل مع تركيا والدول المضيفة في المنطقة لتهيئة الظروف المناسبة للعودة الطوعية والمستدامة.
وحذر من أن فشل هذه المقاربة قد يدفع المزيد من السوريين للتوجه نحو أوروبا، خاصة في ظل الأوضاع المتوترة في المنطقة.
وفي سياق متصل، اعتبر علاوي أن "الاتحاد الأوروبي، الذي يعد الممول الأساسي لمشاريع إعادة الإعمار في مناطق النزاعات، يدرك حجم الدمار الذي لحق بالمدن والبلدات السورية"، معتبرا أن "التقارب مع الإدارة الجديدة قد يفتح المجال أمام الشركات الأوروبية للاستفادة من فرص إعادة الإعمار".
وأشار المحلل السياسي إلى أن "إعادة بناء البنية التحتية في سوريا سيسهم في تخفيف الأعباء عن الدول الأوروبية من خلال تسهيل عودة اللاجئين الذين يشكلون عبئاً متزايداً على موازنات هذه الدول"، مؤكدا أن هذا الملف يمثل أولوية قصوى للسياسة الأوروبية في المرحلة الراهنة.
وبشأن إمكانية نجاح المساعي الأوروبية، يبرز الباحث بركات أن تحديات كبيرة تقف بوجه الأوروبيين، منها "عدم قدرته على التأثير في الوجود التركي والأميركي في سوريا"، متسائلا: "كيف يمكن للاتحاد الأوروبي أن يطالب بوحدة الأراضي السورية في ظل عجزه عن التأثير على القوى الإقليمية والدولية المتواجدة على الأرض السورية؟".
واعتبر أن مواقف الاتحاد الأوروبي تبقى "ضعيفة وغير مؤثرة" في ظل التعقيدات الإقليمية القائمة"، مشيرا إلى أن "معظم الدول الأوروبية تكتفي بإطلاق تصريحات لتهدئة الرأي العام دون القدرة على اتخاذ مواقف حاسمة على الأرض".