على رصيف شارع ضيق أو على جانب طريق رئيسي، حيث يعج المكان بالأنشطة اليومية يجد المار في وسط العاصمة السورية دمشق سوقا غير رسمي يضج بالحركة وفي مشهد غير مألوف: بسطات صغيرة، طاولات خشبية، وأشخاص يقفون خلفها يتداولون العملات بشكل سريع ويعرضونها وينادون عليها دون خوف أو إجراءات معقدة.
هنا، لا ينتظر المواطنون في صفوف البنوك ولا يتهامسون ويتعاملون مع أنظمة صرف معقدة، بل تتحرك الأمور بسرعة وبساطة، لكن في ذات الوقت، تثير هذه الأسواق العديد من الأسئلة حول أمان التعاملات وشفافيتها.
بعد سقوط نظام الأسد أصبح كثير من الناس يلجأون إلى هذه البسطات كحل بديل لتلبية احتياجاتهم المالية، بعيدا عن الرقابة الرسمية.
ومع أن هذه الأسواق غير الرسمية والمنتشرة بكثرة بحسب من تحدث إليهم موقع "الحرة" قد تبدو كملاذ للمواطنين بعدما كسروا "المحرمات" التي كان يخنقهم بها الأسد إلا أن لها تأثيرات كبيرة قد تكون مجهولة على الاقتصاد والأفراد الذين يتعاملون فيها، بحسب باحثين اقتصاديين.
محمد سليمان، هو أحد "تجار الدولار"، كما يعرّف نفسه لموقع "الحرة" كان وصل إلى دمشق قادما من حلب بعد يوم واحد من سقوط نظام الأسد، ويقول من خلف طاولة خشبية وضع عليها رزم من العملة السورية: "لم نعد نخاف من شيء. النعنع والبقدونس صرنا نبيعه كأي منتج آخر.. ننادي بلا خوف: تصريف تصريف".
ويضيف سليمان أن السعر المحدد للدولار الذي يبيعونه يحكمه فقط الآن عامل الحد الأدنى والأعلى و"العرف" أيضا، مشيرا إلى أن السعر المتداول بين البيع والشراء بات يتراوح بين 12 ألف ليرة إلى 14 ألف للدولار الواحد.
قبل سقوط نظام الأسد كان التعامل بالدولار من بين "المحرمات"، وطالما حرص المواطنون على عدم الحديث أو إبداء أي نية بشأن هذه الخطوة كون الأمر قد يعرضهم للسجن ودفع الغرامات الباهظة.
لكن بعد السقوط ومع انكسار كل شيء كرسه النظام السابق على كافة المستويات أصبح ذكر الدولار والسؤال المتعلق بسعره وآلية تصريفه مقابل الليرة أمرا غير مألوف، وهو ما يؤكده مشهد البسطات المنتشرة في ساحة المحافظة (ساحة يوسف العظمة) بدمشق، ومن بينها التي يمتلكها أبو محمود.
وأبو محمود من سكان العاصمة دمشق ويمتلك منذ سنوات عربة خشبية يبيع من خلالها الفول والوجبات السريعة القائمة على البقوليات، وبعد سقوط نظام الأسد كتب لافتة أضاف إليها منتج جديد وعنونها بتاجر الدولار أبو محمود".
ويوضح هذا التاجر لموقع "الحرة" أن تصريف العملات دون أي رقابة في الشوارع بات فسحة معيشية للكثير من أبناء البلد الباحثين عن تأمين لقم أولادهم.
ويضيف أن وصول الأجانب والكثير من أبناء المحافظات السورية يشكل عاملا أساسيا في رواج هذه العملية المعلنة، مشيرا إلى أن قاصدي دمشق الآن نادرا ما كانوا يتعاملون بالليرة السورية في السابق، فيما يضطرون الآن لشرائها من أجل تسيير أعمالهم اليومية.
"بين الأمس واليوم"
وكان سوق صرف العملات الأجنبية محتكرا قبل الثامن من ديسمبر من أشخاص يعملون لدى نظام الأسد.
ويقول الصحفي الاقتصادي، مختار الإبراهيم لموقع "الحرة" إن "كل القرارات التي أصدرها النظام سابقا كانت فقط لاحتكار هذا السوق المهم لصالح خزائنه الشخصية".
"ما نراه اليوم هون أن السوق علد إلى وضعه الطبيعي حيث بات بإمكان أي شخص أن يصرف من أي مكان يريده"، وفق الصحفي.
لكن الإبراهيم يتابع أن "المشهد بحاجة إلى تنظيم أكبر. نحن بحاجة إلى مكاتب صرافة نظامية مرخصة بحيث تعود عوائدها الربحية على الخزينة العامة وتدفع ضرائب بدلا من هذا الشكل العشوائي".
ويحدد المصرف المركزي السوري بشكل شبه يومي سعر مبيع وشراء الدولار مقابل الليرة السورية، وفي آخر نشرة أصدرها الاثنين تراوح التداول عند حد 13 و500 ليرة سورية للدولار الواحد.
ورغم أن هذا السعر ينسحب بجزء على بعض التعاملات التي تجري بشكل عشوائي في شوارع دمشق إلا أن يأخذ منحى تنازليا عند "تجار" آخرين، حيث يشترون الدولار الواحد بقيمة 12 ألف ليرة سورية فقط.
ويوضح "تاجر الدولار أبو محمود" كما يسمي نفسه أن عملية تحديد السعر بات ترتبط بعمليات "مضاربة" يقودها تجار عاديين موجودين في شوارع العاصمة.
وكذلك ترتبط العملية أيضا بكمية وحجم العملة المراد تصريفها ونوعها. ويشمل هذا الدولار الأميركي واليورو والليرة التركية.
"إجراءات إسعافية"
وكانت الحكومة المؤقتة الجديدة في دمشق قد اتخذت عدة خطوات خلال الأيام الماضية لكنها صبت في مجملها في إطار "الإجراءات الإسعافية".
وشملت تلك الإجراءات، يوم الاثنين، تكليف ميساء صابرين كمحافظ مؤقت للمصرف المركزي.
ويرى الأستاذ في الإدارة المالية، فراس شعبو أن تعيين صابرين "أمر فني وليس له علاقة بالوضع الاقتصادي".
ويقول شعبو لموقع "الحرة": "البلد منهارة اقتصاديا والمصرف المركزي ليس لديه احتياطات. تغيير الأشخاص لا يحسن الوضع إنما هو بمثابة تغيير في أوجه النظام".
صابرين هي أول امرأة تتسلم هكذا منصب في تاريخ سوريا، ويضيف أستاذ الإدارة المالية أن هذه السيدة "لها باع في المصرف المركزي وليست جديدة عليه".
ومنذ سقوط نظام الأسد فعلت الإدارة الجديدة المصرف المركزي، وأعادت إحيائه نوعا ما من خلال إصدار نشرات يومية وإزالة الجمارك وقبول الحوالات بالدولار.
وبحسب شعبو أدت هذه القرارات إلى ارتياح في الأسواق، وجعلت من الدولار متاحا دون أي ضوابط أو قيود.
لكن الخبير الاقتصادي يشير إلى مشكلة تتعلق بـ"شح الليرة في الأسواق وغياب توفرها، مما دفع الأهالي للاعتماد على الحوالات والمدخرات وبيع الذهب وبعض المقتنيات".
ويعتبر الصحفي السوري، مختار الإبراهيم أن تعيين امرأة في منصب حاكم مصرف سوريا المركزي "خطوة مهمة باتجاه حكومة تكنوقراط، بحيث يكون المتخصصون هم من يستلمون المناصب المناسبة لهم".
ويقول الإبراهيم: "أصبحنا نرى مناصب توزع خارج هيئة تحرير الشام. هذا هو المهم ونتطلع إلى تعزيز ذلك في المؤتمر الوطني الذي قد ينعقد في الرابع والخامس من هذا الشهر".
"موضوع التكنوقراط في هذه المرحلة مهم جدا لأنها مرحلة إعادة الإعمار وبث الثقة في الشارع وإرسال للخارج توحي بأن الحكومة الحالية لا تنوي الاستئثار بالسلطة أو توزيع المناصب على أعضائها فقط، وإنما تعمل على إعادة هيكلة المؤسسات بطريقة مهنية تضع الشخص المناسب في المكان المناسب"، بحسب حديث الصحفي السوري.
![في اللاذقية .. بعد سقوط الأسد](https://media.voltron.alhurra.com/Drupal/01live-106/2024-12/000_36RH86D.jpg)
"معروض وشح"
ولم يتسلم المواطنون في سوريا حتى الآن رواتبهم الشهرية الأولى بعد سقوط نظام الأسد. وكانت الحكومة المؤقتة قد وعدت بزيادتها بنسبة 400 بالمئة.
وعلى صعيد سعر الصرف لا يعرف حتى الآن ما إذا كان سيبقى في خطه الحالي، أم قد يسلك مسارات هبوطية أو تصاعدية.
ويشير الخبير الاقتصادي، فراس شعبو، إلى وجود "معروض كبير من الدولار بينما هناك شح في أيدي الناس من العملة السورية".
وأدى ما سبق إلى تحسن سعر الصرف، دون أن يعكس ذلك وضعا جيدا، وإنما علاقة رياضية بين العرض والطلب، بحسب الخبير.
ويتابع شعبو أن "المصرف المركزي وصحيح أنه يصدر النشرات اليومية لكن ليس لديه القدرة على التدخل".
ويوضح أن "دور المصرف الآن يكمن كموجه ومؤشر للسوق. ما دام لدينا سوق سوداء سيظل الوضع غير سليما".