العديد من أحياء حمص دمرها القصف الجوي من جيش النظام السوري وروسيا - صورة أرشيفية - رويترز
العديد من أحياء حمص دمرها القصف الجوي من جيش النظام السوري وروسيا - صورة أرشيفية - رويترز

عند الدخول إلى حمص السورية (العدية) وسط البلاد بعد سقوط نظام الأسد يعيش الزائر إليها من أبناء هذه المدينة صراع مشاعر معقد.. أطرافه معلقة بين ماضيين (الأول قبل 2011 والثاني بعده) وحاضر. بين صورتين الأولى مسالمة والثانية عدوانية. بين نكتةٍ ومأساة.. بين واقع يُفرض الآن ومستقبل ضبابي لا يعرف أحد الشكل الذي سيكون عليه.

أنا من مدينة حمص.. خرجت منها آخر مرة في 2013 متوجها إلى دمشق قبل أن أغادر البلاد بشكل كامل في التاريخ المذكور، وعدت إليها بزيارة استمرت 3 أيام الأسبوع الماضي سالكا الطريق القادم إليها من حماة (شمالا). المدينة التي يتقاسم الحماصنة معها الكثير ويختلفون مع أبنائها على التفصيل المتعلق بـ"أصل حلاوة الجبن".

لم تكن أمامنا أية حواجز أمنية أو عسكرية حال الدخول إلى "العدية" أو بعد ذلك في أثناء التنقل داخل أحيائها وشوارعها، ومع ذلك وبشكل لا إرادي سرعان ما يتراود لدى الزائر مشاهد سياجات من نوع آخر.

هذه السياجات كان أسس لها نظام الأسد بشكل كبير بعد 2011 وما تزال على حالها الآن رغم "التحرير". تغذيها الطائفية التي تهب رياحها من كل مكان وتعززها "جدران غير مرئية" يتحدث عنها غالبية السكان ويتوجسون منها، في الوقت الحالي.

قبل اندلاع الثورة السورية في 2011 كانت حمص تعيش لحظات انفتاح على صعيد التنوع الديني والطائفي الذي يشكل هوية المدينة، ودائما ما كانت توصف بـ"مدينة السلام"..

لكن بعد هذا التاريخ انقلب كل شيء رأسا على عقب، بفعل ما أسس له نظام الأسد بيديه.

اعتمد النظام في حمص على سياسة طائفية "استثنائية" لمواجهة الحراك السلمي الذي خرج ضده آنذاك.

"أوصل حينها رسالة لحاضنته من الطائفة العلوية مفادها (إما نحن أو هم) وتمكن من استقطاب الكثيرين في قواته والميليشيات غير الرسمية لمواجهة كل من كان ينادي ضده (بلا)"، وفق قول، بلال نكدلي، الذي التقاه مراسل موقع "الحرة" في حي باب تدمر، معتبرا أنه "نجح بذلك بالفعل وكثيرون ممن انجروا خلفه".

أدخلت هذه السياسة حمص في بحر من الدماء وكانت كفيلة بأن تشحن المدينة لسنوات وسنوات بـ"الطائفية". وليس ذلك فحسب بل أسست لجذور خطيرة لن يكون من السهل قطعها، وهو ما نراه يخيم على المشهد الآن، وتثار حوله الكثير من الروايات والمخاوف.

"حواجز الخوف"

بواسطة السيارة من السهل أن تتجول في عموم مناطق حمص وقد تستغرق منك هذه الرحلة حوالي نصف ساعة كون قسم كبير من الأحياء بات رمادا على الأرض (القصور، الخالدية، البياضة..) لكن هذا الحال لا ينطبق على الحالة النفسية للزائر، خاصة ابن المدينة الذي عاش ماضيا قاتما لأربع سنوات.

بحسب مشاهداتي ما يزال قسم كبير من سكان أحياء الطائفة السنية يحرصون على عدم المرور والتجول كثيرا في الأحياء الأخرى التي تقطنها الغالبية العلوية، والعكس صحيح. بين هاتين الضفتين جرت أنهار من الدماء وكان نظام الأسد يتفرج.

هناك حذر وأمنيات وخوف و"غدر قد يحصل في أي لحظة"، وهو ما راودني أيضا عند العبور إلى حمص مارا من "فرع الجوية" المحصن سالكا الطريق القادم من حماة.

حَرصت على عدم العبور من الأحياء التي شهدت بواباتها الكثير من عمليات القتل على "الهوية" (الزهراء، السبيل، وادي الذهب، العباسية). ورغم أن هذه الحالة انعكست على فترة زمنية معينة إلا أن المشاهد المتعلقة بها والأخبار التي وثقتها ما زالت حاضرة وكأنها صورة تعرض أمامك على الملأ.

في هذه الأحياء تواصل فصائل "إدارة العمليات العسكرية" الحملات الأمنية فيها، وعندما كنت في حمص كانت محاصرة جزئيا، ويطلب من المسلحين فيها تسليم السلاح وإجراء التسوية.

وبعدما غادرت في مطلع يناير الحالي توسعت الحملة الأمنية كثيرا لتصل إلى حد تنفيذ عمليات المداهمة، بهدف القبض على "فلول نظام الأسد" السابق، من ضباط وعسكريين و"شبيحة" وقادة مجموعات تلطخت أيديها بالدماء.

في حمص 3 وجهات نظر بشأن هذه الحملات. أصحاب وجهة النظر الأولى يؤيدونها ويطالبون بإلقاء القبض على جميع من تورطت أيديهم بدماء المدنيين.

ويرى أصحاب وجهة النظر الثانية أن هناك ضرورة لإلقاء القبض على الفلول، وينتقدون في المقابل ويحذرون من الانتهاكات المصاحبة لذلك، وخاصة تلك التي تستهدف الأبرياء.

ويذهب الرأي الثالث باتجاه أن ما يحصل الآن في حمص قد يشعل فتيل قنبلة موقوتة كان قد تركها الأسد قبل هروبه من دمشق. يصف الشاب، محسن خضور، هذه القنبلة بـ"الآفة" أو "اللوثة"، ويضيف لمراسل موقع "الحرة": "حمص لن تعود كما في السابق إلا على يد العقلاء من كل الطوائف".

وبينما يعبّر عن مخاوفه من "الشحن الطائفي" الذي تركه الأسد خلفه في "مدينة السلام" يضيف متسائلا: "هل حمص ستظل أسيرة لهذا الشرخ الطائفي؟ وهل يمكن أن تعود لتكون رمزا للتعايش والتنوع كما كانت؟ قد تكون الإجابة صعبة، ولكن لا بد من أن يبقى الأمل قائما".

"لم يضرب بها برغي"

لا تختلف حمص كثيرا عن بقية المدن التي دمرها الأسد بعدما انتفضت ضده على صعيد الزاوية المتعلقة بالإصلاحات التي كان من المفترض أن تطال العمران قبل نفوس أبنائها، دون أن يشمل ذلك مئات المدنيين الذين أجبرهم على الخروج من أحيائهم قسرا باتجاه إدلب وبالباصات الخضر عام 2014.

هذه الأحياء باتت تلالا من الخراب وعند الانتقال إلى البقية "لم تشهد أي ضربة برغي" حسب تعبير عبد الرحمن الذي يمتلك بسطة لبيع الألبسة في محيط برج الساعة القديم. يقول عبد الرحمن لمراسل موقع "الحرة" وهو يشير إلى بناء "سيتي سينتر" المهجور: "الأسد لم يضرب فيه برغي".

ويضيف، وهو يلتفت يمينا وشمالا ويوجه أصابعه باتجاه السوق المسقوف (المقبي): "وحتى عملية ترميم هذا السوق جرت على حساب المكتب الإنمائي للأمم المتحدة. وربما سرق الكثير من هذا المشروع".

جزء من سكان حمص اتجهوا بعد سقوط نظام الأسد إلى نصب البسطات لبيع أي شيء قد يسهم في تحصيل لقمة عيشهم، والبعض الآخر استغل فتح الطرقات الحاصل بين المحافظات لاستقدام البضائع من الشمال "المحرر".

وآخرون بدأوا بإعادة ترميم ما تبقى من منازلهم على عجل وبشكل إسعافي، وخاصة في الأحياء التي لم تتعرض للكثير من الدمار كحي الإنشاءات. يوضح أحدهم لمراسل موقع "الحرة": "حمص لن تتعافى بسهولة. الأسد ترك أنقاضا على الأرض وفي النفوس"، قاصدا حالة الشرخ الطائفي.

ويتابع: "سمّ الأسد الكامن زرع عميقا في الوعي واللاوعي عند سكان حمص على مدى سنوات".

"انعدام ثقة"

كانت حمص، ذات يوم، مدينة غنية بالروابط، لكن الطائفية قطعت أواصرها، وأصبح الحنين إليها مثل ذكرى بعيدة، تتلاشى كلما حاول أحدهم أن يقترب منها.

"نظام الأسد ترك وراءه أزقة مليئة بالخراب وحُطام علاقات لا يمكن إصلاحها"، وفق قول سركيس وحنا وهما شابان التقاهم مراسل موقع "الحرة" في حي الحميدية ذو الغالبية المسيحية في حمص.

ويقول سركيس: "كل خطوةٍ على الأرض أصبحت تُسمع في أذنٍ متوجسة. أصبح هناك انعدام للثقة بين الطوائف المختلفة، مما أثر على أسس المجتمع المدني وخلق بيئة من العداء المتبادل".

كما يضيف حنا: "حمص تسير على دربٍ طويل من الجروح الطائفية الغائرة. لم تندمل لكن قد يكون لها علاج في مرحلة لاحقة.. وهو ما نأمله".

الشرع والجهاد الإسلامي

بالتزامن مع زيارة رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، إلى دمشق ولقائه بالرئيس السوري للمرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، تحدثت تقارير عن اعتقال القوات الأمنية السورية قياديين بارزين من حركة الجهاد الإسلامي، في حدث يبدو شديد الدلالة على التحولات الكبيرة التي تشهدها سوريا منذ سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر من العام الماضي.

وقالت "سرايا القدس"، وهي الجناح العسكري للجهاد الإسلامي، في بيان الأربعاء إن خالد خالد مسؤول الحركة في سوريا وياسر الزفري مسؤول لجنتها التنظيمية محتجزان لدى السلطات السورية منذ خمسة أيام.

وأضافت أن السلطات ألقت القبض على الرجلين "دون توضيح أسباب الاعتقال وبطريقة لم نكن نتمنى أن نراها من إخوة". ودعت إلى "الإفراج" عنهما. 

وأكد مسؤول في وزارة الداخلية السورية لوكالة رويترز نبأ إلقاء القبض على القياديين في الحركة، لكنه لم يجب عن أسئلة لاحقة حول سبب اعتقالهما.

حركة "الجهاد الإسلامي" هي إحدى أهم الفصائل الفلسطينية المسلحة، وإن كانت أكثرها غموضاً وتعقيداً، من حيث تاريخها وأيديولوجيتها. صنفتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي منظمة إرهابية، ونمت لتصبح ثاني أكبر حركة مسلحة في قطاع غزة وثالث أكبر حركة في الضفة الغربية.

وعلى الرغم من أنها أصدرت أول بيان علني لها في 11 ديسمبر عام 1987، كان وجودها واحدا من أكثر أسرار المقاومة الفلسطينية كتمانا. تأسست الحركة في قطاع غزة عام 1981 على يد مجموعة من الطلاب الفلسطينيين الذين لم يسبق لأحدهم أن أمسك بسلاح، لكنها سريعاً تحولت إلى استخدام العنف ضد أهداف إسرائيلية في عام 1984، أي قبل خمس سنوات من ظهور حركة حماس.

واكتسبت الحركة سمعة سيئة بسبب طبيعة هجماتها المثيرة للجدل في عنفها، ومواقفها المتصلبة ضد إسرائيل. وكان الشعار الذي طرحته هو: "الإسلام، الجهاد، وفلسطين": الإسلام كنقطة انطلاق، الجهاد كوسيلة، وتحرير فلسطين كهدف.

وكانت الحركة ولا تزال ملتزمة بـ"لاءات ثلاث": لا تفاوض، ولا حل الدولتين، ولا اعتراف بإسرائيل.

في كتابه "تاريخ الجهاد الإسلامي الفلسطيني: الإيمان والوعي والثورة في الشرق الأوسط"، يروي الباحث إيريك سكير حكاية جذور تأسيس حركة الجهاد الإسلامي، التي بدأت من رسم وضعه فتحي الشقاقي (مؤسس الحركة/ اغتيل في العام ١٩٩٥) على ورقة في مارس 1979، يمثل مستطيلًا يتقاطع مع دائرة. 

كان هذا الرسم، بحسب سكير، يمثل مشروعهم السياسي الجديد، ويحتوي على ثلاث مساحات متميزة. تمثل المساحة الأولى "الإخوة الذين كانوا أعضاء في جماعة الإخوان المسلمين فقط". ثم هناك "الإخوة الذين كانوا أعضاء في كل من جماعة الإخوان والمشروع الجديد الذي يشكل نوعاً ما انشقاقاً عن الإخوان. وأخيراً، هناك أولئك الذين انضموا إلى هذا المشروع دون أن يكونوا من الإخوان المسلمين. كانت هذه المنظمة تُعرف بـ "الطلائع الإسلامية"، وهي نواة حركة الجهاد الإسلامي.

والتعقيد في سيرة الجهاد الإسلامي وتموضعها، مرده إلى عوامل عديدة لعبت دوراً في رسم هوية الحركة وتشكيل أفكارها من روافد متنوعة، وقد تبدو أحياناً متناقضة. فهي كما يرى باحثون، بينهم الباحثة الإسرائيلية مائير هاتينا، نشأت من تأثير حاسم للجماعات المصرية المتطرفة في السبعينيات. 

وفي المقابل، تركز الباحثة، بفيرلي ميلتون إدواردز، على صراع الحركة مع جماعة الإخوان المسلمين في أوائل الثمانينيات، بشأن المقاومة المسلحة. وبينهما رأي، يتوقف عنده إيريك سكير في كتابه، يقول بأن "الجهاد الإسلامي" خرجت تأثراً بالثورة الإيرانية عام ١٩٧٩. 

وفي الحالات كلها، تبدو حركة "الجهاد الإسلامي" اليوم في قلب هذه التناقضات، فهي الفصيل الأقرب فلسطينياً إلى إيران تمويلاً وتسليحاً مع إشارات إلى حالات "تشيّع" داخل الحركة. ومع ذلك فإن تنسيقها مع حماس لم يتوقف، حتى مع التباين بين حماس و"الجهاد" حول قضية الثورة السورية، وبقاء الجهاد الإسلامي في "حضن" النظام السوري مستفيدة من الحماية التي وفرها لها، في وقت كانت حماس تبتعد عن النظام بسبب مزاج الثورة القريب من الإخوان المسلمين.

مع ذلك نسقت حماس مع "الجهاد" هجومها على إسرائيل في السابع من أكتوبر ٢٠٢٣، وتحتفظ بأسرى إسرائيليين.

ومع تولي أحمد الشرع السلطة في سوريا، تزداد الأمور تعقيداً. فالشرع يميل، بحسب معطيات عديدة، إلى الاقتراب أكثر من تسوية مع إسرائيل قد تستكمل باتفاقية سلام، والابتعاد أكثر عن حماس وما تمثله. ولقاؤه بالرئيس الفلسطيني محمود عباس يصب في هذا السياق.

ولا يحيد اعتقال الأمن السوري القياديين في "الجهاد" عن هذا "النهج"، ويأتي استكمالاً للمزاج السياسي للشرع المبتعد بوضوح، إلى حد القطيعة، عن إيران. إذ قطعت القيادة السورية الجديدة العلاقات الدبلوماسية مع إيران، وتأمل في إعادة بناء الدعم الإقليمي والدولي لسوريا، لا سيما رفع العقوبات وتمويل إعادة الإعمار بعد حرب أهلية مدمرة استمرت 14 عاماً.

لكن قد لا يعني اعتقال القياديين في الجهاد أن الشرع سيفعل الشيء ذاته مع حركة "حماس" في سوريا، على الأقل في الفترة المقبلة، كما يوضح نائب مدير مركز كارنيغي، الباحث مهند الحاج علي، لموقع "الحرة". بل إن الشرع على الغالب سيحافظ على العلاقة التاريخية بحماس لما تمثله من امتداد يرتبط بالإخوان المسلمين. 

وإذا كان الشرع في وارد "بيع" حماس، فإنه بالتأكيد سيطلب ثمناً عالياً لقاء ذلك. ويعتقد الحاج علي أن حماس لن تُحرج الشرع وستلتزم بما يناسبه في سوريا، حتى لو عنى ذلك قطع التواصل مع إيران، وإن كان الباحث في كارنيغي يتوقع أن تلعب حماس أدواراً في المستقبل لتحسين علاقات الشرع بإيران.

وأوردت وكالة رويترز في تقرير الشهر الماضي أن الولايات المتحدة قدمت لسوريا قائمة شروط يتعين الوفاء بها مقابل تخفيف جزئي للعقوبات. وذكرت مصادر لرويترز أن أحد الشروط هو إبعاد الجماعات الفلسطينية المدعومة من إيران.