المشهد الاجتماعي في دمشق يمر بمرحلة دقيقة بين الحذر والتفاؤل.

خلال زيارتي الأخيرة إلى حي باب توما الدمشقي، بعد غياب قسري امتد 12 عامًا، شعرت بنبض الحياة في أزقة المنطقة التي طالما اشتهرت بأجوائها الليلية.

تجوّلت بين حانات ومقاهٍ قديمة كانت تعج بالزوار من سكان العاصمة السورية والسياح والمغتربين الذين عادوا مجددًا إلى بلدهم.

ولاحظت أن معظم المرافق تعمل بشكل طبيعي، مع بعض التغيرات في المحال والأماكن المخصصة للسهر التي أبدت تخوفها من فرض قيود مستقبلية.

وفي أحد أزقة حي باب توما الضيقة، توقفت أمام فرقة موسيقية كانت تقدم عرضًا حيًا وسط تصفيق الحاضرين. كان مشهدًا احتفاليًا بعودة الحياة إلى طبيعتها بعد أن تخلّصت من القيود التي فرضها النظام الأمني السابق.

وكان جليًّا أن الحياة عادت إلى طبيعتها في هذا الحي، على الرغم من الهواجس التي عبّر عنها بعض أصحاب الحانات والمطاعم والسكان المحليين في الأيام الأولى بعد سقوط الأسد، بشأن إمكانية فرض قيود جديدة على النشاطات الليلية من قِبل الإدارة الجديدة.

وعززت هذه الهواجس سياسة الإدارة الجديدة، التي تضم هيئة تحرير الشام، إذ كانت تمنع هذا النوع من الأنشطة خلال سيطرتها على مدينة إدلب في السنوات السابقة. إلا أن الأيام التي أعقبت صدمة "فرار الأسد" بدّدت المخاوف.

مخاوف ما بعد التغيير

ومع سقوط نظام الأسد، ظهرت هواجس كثيرة تتعلق بمستقبل الحياة الليلية في أحياء باب توما، باب شرقي، والقصاع، وهي مناطق قديمة اشتهرت بنشاطاتها الثقافية والاجتماعية التي تمتد حتى ساعات متأخرة من الليل.

سمعت أثناء تجوالي العديد من الأحاديث من أصحاب الحانات والمقاهي الذين عبّروا عن مخاوفهم من أن تقوم الإدارة الجديدة بفرض قيود على هذه النشاطات، خاصة أن هذه الأماكن كانت تُعتبر في نظر البعض رمزًا للانفتاح والحرية.

لكن ما رأيته خلال زيارتي بدّد جزءًا كبيرًا من هذه المخاوف، إذ كانت الحانات تعجّ بالرواد، وبدا واضحًا أن أهل المنطقة وزوارها مصممون على الحفاظ على روح هذه الأحياء القديمة.

إرث لا يمكن تجاهله

أحد أصحاب الحانات القديمة في حي باب شرقي، ويدعى ميشيل حنّا، قال لموقع "الحرة": "هذه الأماكن ليست فقط للترفيه، إنها جزء من هويتنا وتاريخنا، وهي إرث لا يمكننا أن نتجاهله، ولن نتخلى عنها مهما كانت الظروف. ورثت المكان عن والدي الذي افتتحه منذ 22 عامًا، وهو مستمر بالعمل منذ ذلك الوقت".

ويضيف ميشيل أن الخوف اعترى البعض نتيجة انتشار الإشاعات بأن هيئة تحرير الشام ستقوم بإغلاق محالهم وحاناتهم، إلا أنه لم يصدر أي قرار يعزز هذه المخاوف، مما دفعه للعودة وفتح حانته والاستمرار في عمله.

ويقول ميشيل: "أغلقنا لخمسة أيام فقط لحظة سقوط النظام خوفًا من مضايقتنا، ولكننا عاودنا الافتتاح بعد شعورنا بالاطمئنان والراحة. نعم، هناك بعض الخوف من صدور قوانين جديدة تقيّد عملنا، إلا أنني لا أعتقد أننا سنُجبر على الإغلاق التام، وإذا كانت هذه القوانين لتنظيم عملنا، يا أهلاً وسهلاً بها".

ويردف قائلًا: "خلال فترة النظام السابق، كان يُقتطع منا نسبة كبيرة من فواتيرنا، وصلت إلى عشرين بالمئة، بالإضافة إلى الإكراميات التي كنا ندفعها للضباط. وكنا نعمل بدون ترخيص رسمي، وبسبب ذلك كان بعض الأشخاص المتنفذين يرتادون الحانات للسهر مجانًا، ولكننا اليوم نشعر بحرية أكبر، فجميع أرباحنا تعود إلينا، ولم يتدخل بنا أحد لغاية الآن".

"متنفس حقيقي"

وخلال جولتي، التقيت سامر، وهو من اعتاد السهر في الحانات بحي باب شرقي، وقال: "بالنسبة لي، الحانات هنا ليست مجرد أماكن للسهر، بل هي متنفس حقيقي. عندما أتيت إلى باب شرقي وباب توما بعد التغيرات الأخيرة وسقوط النظام، كنت قلقًا من أن أجد أجواء مختلفة أو قيودًا على النشاطات الليلية، لكنني تفاجأت بأن الأمور ما زالت كما هي".

ويضيف سامر: "الناس هنا يريدون أن يعيشوا حياتهم ببساطة، دون خوف أو قيود. أعتقد أن الإدارة الجديدة تعلم بأهمية هذه الأماكن كجزء من هوية المنطقة، وأتمنى أن يستمر هذا التوازن بين التغيير والحفاظ على الخصوصية".

من المشروب إلى العصائر

وفي حي القصاع الدمشقي، قال أحد سكان المنطقة إن بعض محال بيع المشروبات الكحولية حوّل متجره إلى سوبر ماركت خوفًا من المستقبل، وبدأ ببيع المشروبات الكحولية سرًا فقط للزبائن الذين يعرفهم.

وكشف أن بعض الحانات أغلقت واجهاتها المفتوحة التي كانت تشير إلى بيعها للمشروبات الكحولية، محاولةً منهم لتجنب "التجاوزات الفردية" التي قد تحدث بعد سقوط نظام الأسد.

وفي شارع الباكستان وسط العاصمة دمشق، استبدل محل "هاواي" الشهير ببيع المشروبات الكحولية لافتته الإعلانية، وأصبح يعرض العصائر والمشروبات الغازية عوضًا عن الكحول.

في المقابل، لاحظت أن الكثير من المحال الأخرى تعمل كما كانت سابقًا وبشكل علني دون أي محاولة تمويه، وشاهدت ازدحامًا كبيرًا في معظمها أثناء ساعات الليل وعطلة نهاية الأسبوع الماضي.

ولم تُصدر الإدارة الجديدة في سوريا أي بيان رسمي بشأن الكحول لغاية الآن، إلا أن قائد الإدارة الجديدة في سوريا، أحمد الشرع، نفى لهيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" نيته تحويل سوريا إلى نسخة من أفغانستان.

وخلاصة الجولة في هذه الأحياء تشير إلى أن المشهد الاجتماعي يمر بمرحلة دقيقة بين الحذر والتفاؤل، وسط آمال أن يبقى التنوع واحترام الحريات الفردية جزءا أساسيا من الهوية الثقافية لدمشق وسوريا عمومًا.

امرأة نازحة تحمل رضيعا داخل مخيم الكرامة للاجئين على الحدود السورية التركية في ريف إدلب الشمالي. إرشيفية من رويترز
امرأة نازحة تحمل رضيعا داخل مخيم الكرامة للاجئين على الحدود السورية التركية في ريف إدلب الشمالي. إرشيفية من رويترز

أعلن البنك الدولي، الجمعة، أنه سوى ديون سوريا البالغة 15.5 مليون دولار بعد تلقيه أموالا من السعودية وقطر، مما يؤهل دمشق للحصول على منح بملايين الدولارات لإعادة الإعمار ودعم الميزانية.

وأعلنت السعودية وقطر في أبريل أنهما ستتسددان متأخرات سوريا لدى المؤسسة المالية الدولية مما يجعلها مؤهلة للحصول على برامج منح جديدة، وفق سياسات البنك التشغيلية.

وأعلن البنك الدولي أنه حتى 12 مايو، لم يكن لدى سوريا أي أرصدة متبقية في اعتمادات المؤسسة الدولية للتنمية، وهي ذراع البنك لمساعدة أشد البلدان فقرا.

وقال البنك في بيان "يسرنا أن سداد ديون سوريا سيسمح لمجموعة البنك الدولي بإعادة التواصل مع البلاد وتلبية الاحتياجات التنموية للشعب السوري".

وأضاف "بعد سنوات من الصراع، تسير سوريا على طريق التعافي والتنمية".

وأوضح البنك الدولي أنه سيعمل مع دول أخرى للمساعدة في حشد التمويل العام والخاص لبرامج تمكن الشعب السوري من بناء حياة أفضل لتحقيق الاستقرار في البلاد والمنطقة.

وذكر أن مشروعه الأول مع سوريا سيركز على توفير الكهرباء، ما سيدعم تحقيق تقدم اقتصادي ويساعد في توفير الخدمات الأساسية من الصحة والتعليم إلى المياه وسبل العيش.

وقال البنك الدولي "المشروع المقترح هو الخطوة الأولى في خطة موضوعة لزيادة دعم مجموعة البنك الدولي والذي يستهدف تلبية الاحتياجات الملحة لسوريا والاستثمار في التنمية طويلة الأجل".

البنية التحتية المالية

قال وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو أمس الخميس إن الرئيس دونالد ترامب يعتزم إصدار إعفاءات من "قانون قيصر لحماية المدنيين في سوريا"، الذي فرضت واشنطن من خلاله عقوبات صارمة على حكومة الرئيس السابق بشار الأسد وعقوبات ثانوية على شركات أو حكومات خارجية التي كانت تجمعها معاملات معها.

ويمهد رفع العقوبات الأميركية، والتي فرض بعضها على حكومة الأسد وبعضها الآخر قائم منذ عقود، إلى جانب تسوية متأخرات سوريا للبنك الدولي، الطريق لإعادة دمجها في النظام المالي العالمي.

واستضاف صندوق النقد والبنك الدوليان والسعودية اجتماعا رفيع المستوى مع مسؤولين سوريين في واشنطن في أبريل. وأصدروا بعد ذلك بيانا مشتركا أقروا فيه بالتحديات الملحة التي تواجه الاقتصاد السوري وعبروا عن التزامهم بدعم جهود التعافي في البلاد.

وعين صندوق النقد الدولي أول رئيس لبعثته إلى سوريا منذ 14 عاما، وهو رون فان رودن، وهو مسؤول مخضرم في صندوق النقد الدولي سبق أن ترأس جهود الصندوق في أوكرانيا.

وأصدر صندوق النقد الدولي آخر تقرير مراجعة معمق للاقتصاد السوري في عام 2009.

وقال مارتن موليسن زميل المجلس الأطلسي والرئيس السابق لإدارة الاستراتيجية في صندوق النقد الدولي، إن المهمة العاجلة الأولى للصندوق تتمثل في تقديم المساعدة الفنية للسلطات السورية لمساعدتها على إعادة بناء البنية التحتية المالية للبلاد وهيئات صنع السياسات وجمع البيانات اللازمة.

وأضاف موليسن أن هذه الجهود يمكن تمويلها من المانحين والمنح العينية ويمكن إطلاقها في غضون أشهر، بينما يمكن للبنك الدولي المساعدة على مستوى إقليمي أوسع لضمان الحوكمة الرشيدة وفعالية الوزارات.

وقال جوناثان شانزر وهو مسؤول كبير سابق في وزارة الخزانة ويرأس حاليا مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات إن المسؤولين السوريين أبلغوه بأن الاحتياجات ضخمة، لكنه حث الولايات المتحدة رغم ذلك على تخفيف العقوبات تدريجيا بحذر.

وأوضح "لم يتمكنوا حتى من الحصول على تراخيص مايكروسوفت أوفيس. ببساطة، لم يكن بإمكانهم تنزيل البرامج على أجهزة الكمبيوتر المحمولة الخاصة بهم".

وذكر مصدر جمهوري أن إعادة بناء قدرة سوريا على الوصول إلى التكنولوجيا سيكون ضروريا لإعادتها إلى نظام سويفت لمعالجة المعاملات المصرفية، لكن العملية قد تستغرق شهورا، إن لم يكن سنوات.