وفد روسي "استثنائي" الذي زار دمشق، الأربعاء.. فهو ليس كغيره من الوفود التي ترددت على العاصمة السورية خلال الأيام الماضية.. فقد جاء من موسكو حليفة نظام بشار الأسد المخلوع والداعمة له لسنوات، وأجرى مناقشات وتبادل وجهات النظر، فتحت بابا كبيرا من التساؤلات.
ومن بين هذه التساؤلات: هل فتح صفحة جديدة بين موسكو ودمشق سيكون أمرا سهلا؟، وما الذي ينتظر مسار العلاقة الجديد الذي بدأ بزيارة استكشافية؟، وماذا عن الدعم الذي قدمته موسكو للأسد سابقا.. و"المصالح"؟.
وفي حين كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، قد أجاب قبل 4 سنوات (في 2020) على جزء من التساؤلات بقوله، إن بلاده "لا تبحث عن أصدقاء، بل عن مصالح"، يوضح خبراء لموقع "الحرة"، أن الواقع في سوريا وتعقيدات المشهد هناك قد "تغيّر المعادلات".
هذه المعادلات لن تعود نتائجها بالفائدة والإيجاب على روسيا، خاصة على مستوى وجودها العسكري والاقتصادي في سوريا، إلا بتقديم "التنازلات" ودفع "الأثمان".

ويوضح الباحث والمستشار السياسي، باسل الحاج جاسم، أن "روسيا ستحتاج إلى تقديم تنازلات كبيرة، لإعادة بناء العلاقة مع سوريا الجديدة".
ويشير في حديثه لموقع "الحرة"، إلى أن "التنازلات" يفرضها الدور الذي لعبته في دعم النظام المخلوع.
كما ستحتاج، وفق الحاج جاسم، إلى "إعادة التفاوض على الاتفاقيات طويلة الأمد التي وقعها نظام الأسد تحت ظروف غير متكافئة"، و"قد يطلب منها أيضا إلغاء جزء من ديونها على سوريا، خاصة تلك المرتبطة بالدعم العسكري خلال الحرب".
علاوة على ذلك، قد تكون روسيا في مواجهة المطالب المتعلقة بتقديم قروض جديدة بشروط ميسرة، لدعم إعادة الإعمار، دون فرض شروط سياسية أو اقتصادية.
وفي حين قد يكون من الصعب عليها الاعتراف المباشر بدورها في الحرب (منذ 2015)، إلا أنها "قد تضطر إلى تقديم دعم مالي وإنساني لتعويض المتضررين"، وفقا لحديث المستشار السياسي.
"خطوة استكشافية"
وترأس الوفد الروسي إلى دمشق، نائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف. وقال ذلك الرجل للصحفيين، الأربعاء، إنهم أجروا سلسلة مشاورات واتفقوا على الاستمرار بها مع الإدارة السورية الجديدة.
كما أشار إلى أن جزءا من المشاورات، "تعلق بالقواعد العسكرية الروسية في سوريا"، والتي تنحصر في اثنتين برية وبحرية (حميميم، طرطوس).

بدورها، أوضحت الإدارة السورية الجديدة في بيان مقتضب، أن النقاشات التي دارت بين بوغدانوف وقائد الإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع، تركزت على قضايا رئيسية، بما في ذلك احترام سيادة سوريا وسلامة أراضيها، ودور روسيا في إعادة بناء الثقة مع الشعب السوري، من خلال تدابير ملموسة، مثل التعويضات وإعادة الإعمار والتعافي.
وشارك الجانبان في مناقشات بشأن "آليات العدالة الانتقالية"، و"وجوب معالجة أخطاء الماضي، واحترام إرادة الشعب السوري وخدمة مصالحه".
وفي هذا الصدد، يرى المحلل السياسي السوري، عمر كوش، أن زيارة الوفد الروسي إلى دمشق بمثابة خطوة "استكشافية".
ويقول لموقع "الحرة"، إن "منطلق كلا الجانبين براغماتي"، مضيفا أن "روسيا والإدارة السورية الجديدة تريدان بناء علاقة وفق أسس جديدة، بعيدا عن الأسس القديمة".
ويعتبر كوش أن قدرة روسيا على تقديم أي شيء لفتح صفحة العلاقات الجديدة، تفرض عدة تساؤلات كبيرة، أهمها "مسألة تسليم الأسد والمجموعة المرافقة له، والأموال المنهوبة والمودعة في بنوك موسكو".
يضاف إلى ما سبق، "مسألة الاتفاقيات الاقتصادية والمشاريع، وما إذا كان لدى موسكو نية لتقديم اعتذار للشعب السوري عن القتل الذي نفذته طوال 13 عاما".
ويرى الكرملين أن الاتصالات بين الوفد الروسي والإدارة السورية الجديدة مهمة، وأن الحوار سيستمر، وفقا لبيان نشره صباح الأربعاء.
لكنه في المقابل، لم يعلق على المطلب المتعلق بتسليم الأسد، كما لم يعلق الكرملين على سؤال بشأن تقرير سوري يفيد بأن دمشق تسعى للحصول على "تعويض" من روسيا.
هل هي "براغماتية"؟
منذ 2015، رجّحت موسكو الكفة في سوريا لحساب نظام الأسد المخلوع.
وبينما ساعدته على نحو كبير في استعادة أجزاء واسعة من الأراضي التي سيطرت عليها فصائل المعارضة، مكّنته من المناورة على مختلف منصات التفاوض.
واستخدمت لتحقيق ما سبق سياسة "الأرض المحروقة"، والتي راح ضحيتها آلاف القتلى من المدنيين.
لكن عندما أطلقت فصائل المعارضة حملتها الأخيرة - والتي انتهت بسقوط نظام الأسد - لم يسجل لروسيا مشاركة كبيرة على صعيد العمليات العسكرية، على الأرض ومن الجو.
وبعد السقوط، نصبت الإدارة السورية الجديدة حواجز تفتيش على مدخل قاعدة "حميميم" الروسية في ريف اللاذقية.
كما ألغت الإدارة عقدا مع شركة روسية كان ينص على استثمار ميناء طرطوس لـ49 عاما، وقيدت تحركات القوات الروسية في القاعدة المتواجدة هناك، وفي مواقع أخرى من البلاد.
ولكي تعود العلاقات أو توضع على مسار جديد، سيفرض على روسيا "دفع أثمان"، كما يعتقد الباحث السياسي الروسي، ديمتري بريجع.
ويقول بريجع لموقع "الحرة"، إن هذه الأثمان "أسست لها سياسة روسيا الخارجية، وفي سوريا بالتحديد".
ولم تدفع السياسة الخارجية الروسية نظام الأسد للقبول بالحل السياسي. وأسفرت عن خلل كبير في البلاد، وكانت عاملا أساسيا فيما وصلت إليه البلاد من خراب وجرائم حرب وفساد.
ويعتقد بريجع أن تصريحات بوغدانوف الذي زار دمشق "تدل أن هناك محاولة روسية لفتح صفحة جديدة مع روسيا".
ومع ذلك لن تفتح هذه الصفحة على الملأ، بمعنى أنها لن تلغي آثار الماضي.
ويضيف الباحث الروسي: "سياسة موسكو تعتمد على العوامل الاقتصادية والتجارية، ويمكن أن تعمل روسيا على محطات الكهرباء وملف الطاقة وإعادة إعمار البنى التحتية".
لكن بريجع في المقابل، يستبعد أن تسلم روسيا الأسد لسوريا، مشيرا إلى حديث سابق للكرملين في هذا الإطار.
ويعتقد أن العلاقة بين روسيا وسوريا الجديدة، يجب أن تذهب "باتجاه مسار براغماتي، بعيدا عن العداء ولو لفترة من الزمن".

"من الشرق إلى الغرب"
وسيكون موقف القيادة السورية الجديدة مهما، على صعيد شكل العلاقة مع روسيا.
ويقول الحاج جاسم: "هل ستكون براغماتية وتسعى لتفاهم مع روسيا أم ستتجه بالكامل للغرب؟".
ويضيف المستشار السياسي: "مستقبل العلاقة بين موسكو و الإدارة السورية الجديدة معقد وكبير، ويتطلب مزيجا من الحكمة والسياسة، وزيارة الوفد ستكون بداية مؤشر إلى طبيعة العلاقة المقبلة".
ويعتقد الباحث السوري في مركز "جسور للدراسات"، وائل علوان، أن "ملف العلاقة مع روسيا مهم بالنسبة للإدارة السورية الجديدة، وذلك لتحقيق توازن في العلاقات الخارجية".
ويوضح علوان لموقع "الحرة"، أن "توجه الإدارة الجديدة في سوريا يسير باتجاه إقامة علاقات متوازنة ومنفتحة على جميع الأطراف الإقليمية والدولية، باستثناء إيران وإسرائيل في الوقت الحالي".
وترى الإدارة السورية الجديدة أن "إقامة علاقات بالحد الأدنى مع روسيا، يخلق نوعا من التوازن الإقليمي والدولي في هذه المرحلة"، وفقا لعلوان.
ويضيف أن هذه العلاقات "من شأنها أن تحرك طاولة المفاوضات الغربية، التي قدمت الكثير من الوعود دون أن يحصل أي شيء حتى الآن".
ويتابع الباحث: "الإدارة السورية ستبقى على موقفها المتوازن ما بين روسيا والغرب".
من جانبه، يشير المحلل السياسي كوش إلى أنه "لن يكون أي تطبيع بين روسيا وسوريا الجديدة بناء على الماضي".
والأهم من ذلك، حسب كوش، الوجهة التي باتت عليها "سوريا الجديدة"، موضحا أن "البلاد انتقلت من محور موسكو والصين وإيران إلى المحور الآخر الغربي".
وتطمح الإدارة السورية الجديدة بأن تكون علاقاتها "أكثر من طبيعية مع الاتحاد الأوروبي ومع الولايات المتحدة".
و"انتقالها من محور الشرق إلى الغرب، واضح بالنسبة لروسيا، التي تريد الآن أن تحافظ على ما يمكن حفظه من العلاقات"، حسب المحلل السياسي، كوش.