"رقم صادم" و"مشكلة مركبة".. هذا ما عكسه العدد الذي كشف عنه وزير المالية السوري، محمد أبا زيد، قبل أيام، لـ"الموظفين الأشباح" داخل المؤسسات الرسمية، والذي لا تتوفر معه الكثير من الحلول.
400 ألف هو عدد هؤلاء الموظفين، ووفقا لـ"أبا زيد" فإن عملية معالجة أسمائهم تتطلب "موارد مالية كبيرة"، مشيرا في حديثه لرويترز إلى أن "الفساد في المؤسسات السورية كان متفشيا بشكل يفوق التوقعات".
ولا تبدو حتى الآن ملامح "العملية العلاجية" التي ستتبعها الحكومة السورية الانتقالية على صعيد قضية الموظفين الوهميين، وما إذا كانت ستبقيهم على رأس عملهم أم قد تذهب باتجاه تسريحهم.
ومع ذلك، كانت الحكومة ذاتها وعلى عجل، قد اتخذت عدة إجراءات في أعقاب سقوط نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد، واستهدفت بموجبها عدة قطاعات.
وتمثلت هذه الإجراءات بتسريح شرائح واسعة من الموظفين، وفي مؤسسات مختلفة.

وبينما عملت أيضا على إعطاء إجازات مفتوحة لموظفين آخرين، ضمن إطار الحملة الأولية لمعالجة الترهل والفساد، سرعان ما بدأت تواجه معضلة في المقابل تتعلق بإقدام أشخاص مفصولين على تنظيم مظاهرات في الشوارع.
شملت هذه المظاهرات مدينة طرطوس الساحلية والسويداء وانتقلت إلى حمص واللاذقية ودمشق.
ورغم أنها لم تتوسع ولم تحظ بتأييد كبير، فإنها كشفت في المقابل عن إشكالية قد تتطور آثارها بالسلب في أي لحظة.
وخلال حكم نظام الأسد، كانت سوريا واحدة من أكثر البلدان فسادا في العالم، حيث وصلت عام 2023 إلى المرتبة 177 من بين 180 دولة، على مؤشر مدركات الفساد الذي تصدره منظمة الشفافية الدولية.
ولم يكن هذا الفساد الذي يتغلغل في مفاصل مؤسسات نظام الأسد بكل أنواعه نتيجة ظروف الحرب التي تعيشها البلاد فحسب، بل هو "فساد ممنهج تأسّس منذ عهد حافظ الأسد"، حسب ورقة بحثية لمركز "الحوار السوري"، نشرت في مايو 2024.
ولا يتوقع الباحث في مركز "الحوار السوري"، أحمد قربي، أن يكون هناك "حل شامل" الآن لقضية "الموظفين الأشباح" داخل المؤسسات الرسمية. بمعنى إما تسريحهم بشكل كامل أو تركهم على رأس عملهم.
ويقول قربي لموقع "الحرة": "القضية مركبة ويفترض أن يكون لمعالجتها آليات تفصيلية ورؤية شاملة".
كما يوضح الباحث في الشأن الاقتصادي السوري، إياد الجعفري، أن قضية "الموظفين الأشباح" معقدة على نحو كبير، معتبرا أنه "يجب النظر إليها من زاويتين".
الزاوية الأولى "مرتبطة بوجود شريحة من الموظفين لم يذهبوا إلى وظائفهم في الفترات الأخيرة، واتفقوا على ذلك مع مدرائهم في المؤسسات بسبب تكاليف النقل الباهظة".
وتشمل الزاوية الثانية "فئة الموظفين الذين كان يعيّنهم نظام الأسد، بمنطلق المحاباة والمحسوبية".
ويضيف الجعفري لموقع "الحرة"، أن "جميع الحلول صعبة ودقيقة في غالبيتها، لكن أحدها قد يكون منسجما مع الظروف الحالة التي تعيشها سوريا اليوم".

من هم "الموظفون الأشباح"؟
"الموظفون الأشباح" هو مصطلح يستخدم للإشارة إلى الأفراد الذين يتقاضون رواتب من الدولة أو من مؤسسات حكومية، دون أن يكون لهم وجود فعلي في مكان العمل، أو دون أداء أي مهام وظيفية.
وتسمى هذه الفئة أيضا بـ"الموظفين الفضائيين"، كما الدارج محليا في العراق.
وفي الحالة السورية، تشير تصريحات مسؤولي الإدارة الجديدة إلى أن وجودهم لا يقتصر على قطاع دون غيره، بل يشمل غالبية قطاعات الدولة، بينها الصحة والاتصالات والكهرباء.
ويوضح قربي أن بعض هؤلاء "الموظفين الأشباح"، إما يعملون كموظفين في مؤسسة ما ويشتغلون معها بوظيفة أخرى، أو كان تم تعيينه "بقواعد استثنائية".
وهذه القواعد ترتبط على نحو خاص ومحدد بعوائل ما يسمون "شهداء الجيش السوري"، الذي كان يتبع لنظام الأسد.
ويشير الكاتب السوري، زياد الريس، إلى فئة أخرى من هؤلاء الموظفين، ترتبط بـ"حزب البعث" والأفرع الأمنية التي كانت تتبع لنظام الأسد.
ويوضح الكاتب لموقع "الحرة"، أن "حزب البعث كان ينتدب الكثير من الموظفين إلى الوظائف الحكومية، وكذلك الأمر بالنسبة للأفرع الأمنية".
ويضيف: "كان الموظفون المنتدبون مفرغون بشكل كامل إما لحزب البعث أو الأفرع الأمنية، دون أن يكون لهم أي مهمة أو عمل ضمن المؤسسة الحكومية الموجودين فيها".
وتعمل الحكومة السورية المؤقتة على بناء قاعدة بيانات لموظفي القطاع العام من خلال استبيان إلكتروني يُتوقع إنجازه في 6 أشهر، مع فريق من 50 موظفا مكلفا بالمهمة.
وقال وزير التنمية الإدارية، محمد السكاف، قبل يومين، إن الدولة "لن تحتاج سوى ما بين 550 ألفا إلى 600 ألف موظف"، أي أقل من نصف العدد الحالي.
وجاء حديث سكاف بعدما أشار وزير المالية السوري، إلى أن الموظفين الأشباح البالغ عددهم 400 ألف، هم من أصل 1.3 مليون موظف حكومي.

هل من حلول ممكنة؟
يعتقد الكاتب السوري الريس، أن الحلول المتعلقة بهذه القضية "ممكنة".
ويقول إنها "تتطلب أولا إحصاء الموظفين الوهميين بدقة، بعد العمل على إعادة تفعيل كل المؤسسات الحكومية بطاقاتها الحالية ودون أي تغيير".
ويضيف الريس: "بعد تفعيل المؤسسات واستدعاء الكوادر السابقة، يتم البدء بإجراء تحقيق إداري عادل".
ومن خلال هذا التحقيق يمكن تحديد الموظف الوهمي (الشبح) من الموظف الذي يقدم فائدة فعلية للمؤسسة التي يعمل بها، حسب الكاتب السوري.
ويرى الباحث في الشأن الاقتصادي السوري، الجعفري، أن حل مشكلة الموظفين الأشباح "تتطلب تريثا"، ويقول إن "عملية فصل 400 ألف موظف دفعة واحدة سيكون أمرا شائكا".
ويشرح الباحث أنه يجب "دراسة حالة كل موظف على حدة، لمعرفة قدرته على أن يكون مفيدا ومجديا لمكان عمله أم لا".
وفي حال كان هذا الموظف "غير مجدي لمكان عمله، يمكن للحكومة أن تعطيه تعويضا ماليا (نهاية خدمة) لمدة 3 أشهر، على أن تتجه بعد ذلك لإغلاق ملفه بالكامل"، وفق الجعفري.
وتوجد عدة تجارب سابقة لدول تعاملت بموجبها مع "الموظفين الوهمين" والأشباح، حسب قربي، بينها الخاصة بألمانيا.
ويقول قربي: "ألمانيا (بعد سقوط جدار برلين) أعطت للموظفين الوهميين إجازة مدفوعة الأجر لـ6 أشهر، وخلال هذه الفترة أعادت النظر بملفاتهم".
وبعدما انتهت من إعادة النظر بالملفات "أصدرت قرارات فردية تخص كل موظف على حدة دون أن تلجأ إلى قواعد عامة"، وفق الباحث السوري.
ويرى قربي أن الحل باختصار يكمن بفكرة "إعطاء إجازة بلا أجر لـ3 أشهر قابلة للتجديد".
وخلال هذه الإجارة، "تبدأ الحكومة اتباع آلية محددة للتحقيق بطريقة تعيين الموظفين، وما إذا كانوا حصلوا على الوظيفة الرسمية بشكل قانوني أم بالفساد وما شابه ذلك".
ويؤكد قربي أنه في الحالة الألمانية، بلغت نسبة حوكمة الوظيفة العامة نحو 40 بالمئة، ويقول: "هذه النسبة شملت موظفين تم فصلهم لأسباب تتعلق بأنهم كانوا أشباحا".

هل للرواتب قيمة؟
كانت الحكومة السورية المؤقتة وعدت بزيادة رواتب الموظفين بنسبة 400 بالمئة. لكن حتى الآن لم يستلمها السوريون.
وترفع الزيادة المطروحة متوسط الأجور من نحو 15 إلى ما يقارب 70 دولارا.
ويؤكد الجعفري على فكرة أن الحل المتعلق بـ"الموظفين الأشباح" يكمن بإعطاء رواتب لمدة 3 أشهر (مع الزيادة) كتعويض نهاية خدمة.
ومن ناحية أخرى، يوضح الباحث أن "الراتب الوظيفي في سوريا لا معنى له في الوقت الراهن"، مضيفا أن الزيادة المرتقبة "لن يكون لها أثر في حال أصبح التضخم في البلاد موازيا لها".
ويتابع في إشارته للمظاهرات التي خرجت بعد حالات التسريح في بعض المحافظات: "هل بالفعل الوظيفة كانت مجدية لهذه الدرجة في سوريا سابقا؟.. وفقا لمعلوماتي فإن 99 بالمئة من الموظفين في البلاد كانوا يتهربون من الالتزام بأعمالهم لأن الراتب لا يساوي شيئا بالنسبة لهم".
ولا يعتقد الريس أن إجراء التحقيقات في كل مؤسسة على حدة "سيكون بالأمر الصعب في سوريا".
ويضيف أنه بموجب هذه التحقيقات، "يمكن للحكومة أن تعرف من هو الموظف الفعلي والوهمي. فالأمر ليس معقدا، وخلال شهر يمكن أن تجرى التحقيقات الداخلية".