"اتهموه بمساعدة المسلحين، لكنه كان مجرد متطوع ينقل مساعدات إنسانية إلى العائلات المحاصرة.. لم يُسمح له بالدفاع عن نفسه، ولم يُسمح لنا بتوكيل محام له".
"عندما حاولنا زيارته تعرضنا للإهانة.. وبعد أيام اختفى.. لم نسمع عنه شيئا منذ ذلك الحين".
كلمات يعتصر السورية ديما مارتيني الألم وهي تبوح بها، لتكشف معاناتها وأسرتها بعد فقدان الاتصال بأخيها محمود، إثر استدعائه إلى محكمة الإرهاب عام 2015.
وأوضحت في اتصال هاتفي مع موقع "الحرة" من دمشق، أن "أحد المسؤولين قال لأسرتها إن شقيقها نُقل إلى السجن، لكن لا أحد يعرف مصيره".
لكن مارتيني هي واحدة من بين آلاف السوريين الذين عانوا من محكمة الإرهاب في عهد الرئيس المخلوع بشار الأسد، وهي أحد أبرز أدوات القمع التي اعتمدها نظامه ضد المعارضين، حيث شكلت غطاءً قانونيًا للاعتقالات السياسية، وأضفت شرعية زائفة على القمع الممنهج.
نزار موسى، وهو والد أحد المعتقلين السابقين، يروي هو الآخر كيف حُكم على ابنه عن طريق محكمة الإرهاب بالسجن 4 سنوات ونصف، مع غرامة مالية ضخمة، بسبب "محادثة وجدوها على هاتفه".
وقال في اتصال مع موقع "الحرة": "ابني لم يكن لديه أي سجل إجرامي، ورغم ذلك صدر بحقه حكم قاسٍ دون أدلة حقيقية، ولم يكن هناك فرصة حقيقية للدفاع عنه".
ومنذ إنشاء محكمة الإرهاب في سوريا عام 2012، أصدرت بحق آلاف السوريين أحكاما جائرة، بسبب أنشطتهم الحقوقية والإنسانية، واستنادًا إلى اعترافات انتُزعت منهم تحت التعذيب.
ومع التغيرات السياسية التي شهدتها البلاد، أعلنت وزارة العدل السورية منذ أيام، عن "إصلاحات جوهرية"، أبرزها إحالة 87 قاضيا من محكمة الإرهاب للتحقيق، في خطوة تهدف إلى "إعادة هيكلة القضاء بما ينسجم مع العدالة الانتقالية".
وقالت الوزارة التي نشرت أسماء القضاة على صفحتها، أنها أحالتهم إلى إدارة التفتيش القضائي للتحقيق معهم بشأن أدائهم منذ تأسيس المحكمة حتى الآن.
وحظيت الخطوة بتفاعل كبير من قبل السوريين، باعتبارها "ضرورية" لإعادة الثقة في النظام القضائي، رغم التحديات الكبيرة التي تواجه عملية الإصلاح.
تاريخ محكمة الإرهاب
أنشأ نظام الأسد محكمة قضايا الإرهاب عام 2012، بحجة مكافحة الجماعات المسلحة، إلا أن تقارير حقوقية، من بينها تقارير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، كشفت أن المحكمة "تحولت إلى أداة لمعاقبة المعارضين السياسيين والمدنيين".
وشملت الأحكام الصادرة عنها: إعدامات، والسجن المؤبد، ومصادرة الممتلكات، وكل ذلك دون محاكمة عادلة.
وعرّفت المحكمة قانون الإرهاب الصادر عن حكومة نظام الأسد عام 2012، بأنه "كل فعل يهدف إلى إيجاد حالة من الذعر بين الناس، أو الإخلال بالأمن العام، أو الإضرار بالبنى التحتية أو الأساسية للدولة، ويرتكب باستخدام الأسلحة أو الذخائر أو المتفجرات أو المواد الملتهبة أو المنتجات السامة أو المحرقة أو العوامل الوبائية أو الجرثومية، مهما كان نوع هذه الوسائل، أو باستخدام أي أداة تؤدي الغرض ذاته".
وقالت منظمة "هيومن رايتس ووتش" الحقوقية عن تعريف المحكمة بقانون الإرهاب، إن استخدام تعبير "مهما كان نوع هذه الوسائل"، "يفتح الباب لإلصاق صفة الإرهاب بأي فعل تقريباً".
وأكدت على أن هذه المحكمة "لم تكن سوى وسيلة لإضفاء الشرعية على الانتهاكات الواسعة التي ارتكبها النظام ضد النشطاء السياسيين والحقوقيين"، حيث حوكم آلاف الأشخاص في محاكمات تفتقر إلى أدنى معايير العدالة.

"خطوة في الاتجاه الصحيح"
اعتبر مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فضل عبد الغني، أن قرار إيقاف عمل محكمة قضايا الإرهاب في سوريا "خطوة في الاتجاه الصحيح"، لكنه شدد على "ضرورة اتخاذ إجراءات إضافية" لإبطال جميع الأحكام الصادرة عنها بأثر رجعي.
وأكد عبد الغني في حديث خاص لموقع الحرة، أن هذه المحكمة "استثنائية وغير قانونية وغير شرعية، وكان يجب إلغاؤها منذ بداية استلام السلطة الجديدة، شأنها شأن محكمة الميدان العسكرية التي تم تعليق عملها وأحيلت قضاياها إلى القضاء العسكري".
وأوضح أن المحكمة "تسببت بضرر مباشر لعشرات الآلاف من السوريين"، مشيراً إلى أن تقريرا للشبكة السورية لحقوق الإنسان، "قدّر أن نحو 11 ألف شخص مَثَلوا أمامها، لكن العدد الفعلي للمتضررين منها منذ إنشائها قد يكون ضعفي هذا الرقم أو ثلاثة أضعاف".
كما شدد على أن أحكامها "لم تقتصر على السجن أو الإعدام، بل شملت أيضاً مصادرة ممتلكات المحكومين"، موضحا أن بعض المعتقلين أُفرج عنهم بعد سنوات، بينما لا يزال آخرون محتجزين.
وطالب مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، بضرورة إعادة جميع الأموال والممتلكات المصادرة إلى أصحابها، والعمل على إبطال عشرات الآلاف من الأحكام الجائرة التي صدرت عن المحكمة.
"محاسبة القضاة"
ودعا عبد الغني إلى "محاسبة القضاة والمسؤولين الذين عملوا في المحكمة"، معتبرا أنهم "كانوا أداة لتنفيذ جرائم وأحكام جائرة، وجزءاً من منظومة القمع التي استخدمها النظام لإصدار عشرات الآلاف من الأحكام التعسفية، بما في ذلك الإعدامات"، معتبرا أن المحكمة "فرع أمني".
كما اعتبر أن هؤلاء القضاة "تورطوا بارتكاب انتهاكات جسيمة، ويجب إيقافهم والتحقيق معهم وإيداعهم السجون، وإلزامهم بالمشاركة في تصحيح الأحكام التي أصدروها وإعادة الحقوق إلى أصحابها، نظراً إلى معرفتهم بتفاصيل القضايا".
واختتم عبد الغني بالإشارة إلى تقرير الشبكة الصادر حديثا حول أحكام الإعدام الصادرة عن محكمة الإرهاب ومحكمة الميدان العسكرية، والتي كانت إحدى أدوات النظام للسيطرة على معارضيه، حيث لم يُفرج إلا عن عدد ضئيل من المعتقلين.
وأوضح أن "من بين 136 ألف مختف قسرياً، لم يظهر سوى 23 أو 24 ألف شخص، مما يعني أن نحو 113 ألف شخص إما قُتلوا تحت التعذيب أو أُعدموا".

الحجز على الممتلكات
ولم يكتفِ نظام الأسد بتصفية خصومه السياسيين بالسجن والإعدام، بل قام أيضا بتضمين قانون مكافحة الإرهاب الذي تحكُم بموجبه المحكمة نصوصاً تهدف إلى السيطرة على ممتلكات المعارضين، وذلك وفقاً للمادة 11 والمادة 12 من نصوصه.
كما أنه خصَّص قانوناً خاصاً لتجريد ملكية خصومه الذين شاركوا في الحراك الشعبي ضده.
وبموجب قانون مكافحة الإرهاب والمرسوم رقم 63 لعام 2012، أطلقت يد كل من محكمة الإرهاب ووزارة المالية والأجهزة الأمنية، وغيرها من الجهات العامة، بإصدار قوائم مصادرة جماعية، استهدفت آلاف الماثلين أمام المحكمة أو المحالين إليها غيابياً بتهم الإرهاب، أو الذين أصدرت اللجان الأمنية بحقهم قرارات تقضي بالحجز على ممتلكاتهم.
وفي ذات السياق، يوضح الخمسيني محمود المناوي من مدينة داريا في ريف دمشق، كيف أصبح ضحية لمحكمة الإرهاب دون أن يكون طرفًا في أي صراع مسلح.
ففي عام 2019، صدر بحقه حكم غيابي بمصادرة أملاكه، بسبب نشاطه الحقوقي ومنشوراته التي انتقد فيها النظام السوري وكشف انتهاكاته.
وقال: "كانوا يريدون إسكاتي بكل الطرق الممكنة، بدأت بتلقي تهديدات، ثم فوجئت بحجز ممتلكاتي دون إمكانية الطعن في القرار".
وبعد توقيف القضاة اليوم من قِبل السلطات الجديدة، ينوي المناوي توكيل محامٍ وتقديم جميع المستندات التي تثبت ملكيته العقارية، على أمل استرجاعها بالطرق القانونية بعد إبطال الأحكام السابقة.
ورغم أن الإصلاحات القضائية الحالية لا تزال في مراحلها الأولى، فإن تحقيق العدالة الانتقالية يتطلب إجراءات أكثر حسمًا، تشمل محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات وإعادة النظر في القوانين التي استُخدمت لقمع المعارضين.
وبينما يترقب السوريون مدى جدية السلطات الجديدة في تحقيق هذه الأهداف، تبقى معاناتهم شاهدة على إرث ثقيل من الظلم، لا يمكن تجاوزه إلا بخطوات جريئة تضمن عدم تكراره.