يشي سلوك إسرائيل في سوريا على الأرض ومن خلال التصريحات، بأنها تسعى إلى تحقيق سلسلة أهداف، لا تقتصر على تبديد المخاوف والتهديدات الأمنية التي يشير إليها دائما مسؤولون إسرائيليون، بل تنسحب إلى ما هو أبعد من ذلك.
"ضمان حماية الدروز" في سوريا وفي جرمانا بدمشق كانت هدفا كشفت عنه إسرائيل قبل ثلاثة أيام، وفي حين أضيف إليها من قبل الهدف المتعلق بنزع السلاح من مناطق جنوب سوريا، سلطت وسائل إعلام إسرائيلية الضوء، الاثنين الماضي، على تحركات دبلوماسية إسرائيلية لفرملة عجلة النفوذ التركي المتصاعد في سوريا.
وعاد وزير الخارجية الإسرائيلي، جدعون ساعر، الثلاثاء، ليؤكد أن "وجود جماعات إسلامية على الحدود سيكون أمرا بالغ الخطورة لإسرائيل"، في إشارة منه لإدارة أحمد الشرع في دمشق.
كما تحدث عن ملف آخر، حين قال: "يتعين احترام حقوق الأقليات في سوريا بشكل كامل، بما في ذلك الأكراد".
ويأتي ما سبق بالتزامن مع عمليات توغل مستمرة لم تنقطع وينفذها الجيش الإسرائيلي في جنوب سوريا، وذلك في عمق محافظتي القنيطرة ودرعا.
كما تتزامن تحركات وتصريحات إسرائيل أيضا مع ضربات جوية متواصلة يقول الجيش الإسرائيلي إنها تستهدف "بقايا الأسلحة التي كانت تابعة للنظام السوري".
وقبل سقوط نظام الأسد لم تكن السياسة الإسرائيلية المتعلقة بسوريا كما هي الحالة التي عليها اليوم.
في السابق كانت غالبية التحركات تندرج ضمن إطار "وقائي"، كما يوضح الأكاديمي والباحث في الشأن الإسرائيلي، خالد خليل.
وقال خليل، لموقع "الحرة"، إنه، وفي أعقاب سقوط نظام الأسد، أخذت الأفعال الإسرائيلية طابعا هجوميا.
ويعتقد خليل أن "إسرائيل ومن خلال جملة الذرائع التي تستند إليها وترددها دائما تحاول فرض واقع أمني جديد في جنوب سوريا".
وأضاف أن هذه الذرائع "تخفي ورائها حجم الخسارة التي تعرضت لها إسرائيل بسقوط نظام الأسد، وهو الذي ضمن هدوء جبهة الجولان طيلة 5 عقود".
بدوره، يرى الباحث السياسي الإسرائيلي، يوآف شتيرن، أن "إسرائيل تسعى لإضعاف الحكومة الجديدة في سوريا"، وأنها "تريد سيادة سورية منقوصة على أراضي البلاد".
كما تريد إسرائيل من وراء الأفعال (على الأرض ومن خلال التصريحات) إبعاد أي تهديد محتملة ضدها، وهو ما يفسر مطالبها المتعلقة بخلق منطقة عازلة في كل مناطق جنوب سوريا، وفق حديث شتيرن لموقع "الحرة".
ما قصة المنطقة العازلة؟
ومن حيث القدرات العسكرية، تعتقد الباحثة في شؤون الشرق الأوسط، إيفا كولوريويتس، أنه لدى إسرائيل القدرة على فرض منطقة منزوعة السلاح في جنوب سوريا، بل ويمكنها حتى القيام بتوغل بري واحتلال مساحات واسعة أخرى، على حد قولها.
لكن كولوريويتس، أشارت خلال حديثها لموقع "الحرة"، إلى سؤال تعتبره هاما، ويتعلق بالخطط العملية لإسرائيل، بعيدا عن التهديدات التي يطلقها المسؤولون فيها، وعلى رأسهم بنيامين نتانياهو.
ولا يعتبر طرح فكرة إقامة منطقة منزوعة السلاح في جنوب سوريا أمرا جديدا من جانب إسرائيل، ففي عام 2018 عملت الأخيرة على هذه القضية وبشكل وثيق مع موسكو.
ورغم أنها توصلت إلى اتفاق غير معلن، حينها، يقضي بإبعاد ميليشيات إيران وحزب الله مسافة 80 كيلومترا عن حدودها، فإن الإيرانيين تملصوا من تنفيذ بنود التفاهم، ولم يتمكن الروس من فرض إرادتهم آنذاك، بحسب الباحثة في شؤون الشرق الأوسط.
وبعد هجمات السابع من أكتوبر، أصبح الشغل الشاغل لإسرائيل منع تكرار هذا الهجوم، سواء من غزة أو من أي جبهة أخرى، بينها سوريا، وعلى هذا الأساس صعّدت عملياتها ضد قادة "الحرس الثوري" الإيراني و"حزب الله".
وبموازاة ذلك عملت إسرائيل على تدمير مستودعات الأسلحة في سوريا وقطع طرق الإمداد المارة باتجاه "حزب الله"، وصولا إلى الخطوة اللافتة التي عمل عليها الجيش الإسرائيلي، بتفجير عدة حقول ألغام تقع على طول المنطقة المقابلة للخط الأزرق على الحدود مع سوريا.
وقبل سقوط نظام الأسد، كان خطوة تفجير الألغام مؤشرا على أن إسرائيل تهدف لإقامة منطقة آمنة على حدودها، وهو ما كانت تفكر به بالفعل، بحسب كولوريوتيس.
ومع تولي الشرع رئاسة سوريا في المرحلة الانتقالية، تزايدت مخاوف الحكومة الإسرائيلية بشأن الجبهة السورية.
وهذا دفعهم إلى تعديل خططهم من تشكيل "منطقة آمنة محدودة" إلى فرض "منطقة منزوعة السلاح" تشمل محافظات القنيطرة ودرعا والسويداء، كما توضح الباحثة.

ماذا عن إدارة الشرع؟
وتشير تصريحات المسؤولين الإسرائيليين، على رأسهم نتانياهو ووزير خارجيته ساعر إلى أن إسرائيل تنظر للإدارة الجديدة في دمشق كـ"تهديد".
وليس ذلك فحسب، بل تعتقد إسرائيل أيضا أن "الفيدرالية" هو الشكل الأمثل الذي يجب أن تكون عليه سوريا في مرحلة ما بعد سقوط الأسد.
ولا تزال إدارة الشرع في دمشق تلتزم بسياسة عدم التعليق على ما يهدد به المسؤولون الإسرائيليون.
وفي مناسبتين سابقتين، كان الشرع أكد أنه لم يعد هناك أي ذرائع لإسرائيل، بعد انتهاء وجود الميليشيات الإيرانية في سوريا، كما قال إن دمشق مستعدة لاستقبال قوات من الأمم المتحدة في المنطقة العازلة المشتركة مع إسرائيل.
ويقول الباحث الإسرائيلي شتيرن إن "إسرائيل وبعد هجوم السابع من أكتوبر باتت تعتبر أي تواجد مسلح على حدودها بمثابة تهديد".
وبعد سقوط نظام الأسد تزايد مستوى هذا "التهديد" وفق قوله، ورافق ذلك وجود مؤشرات على تصاعد الدور التركي في سوريا.
وفي المقابل، أوضح الباحث السياسي السوري، ضياء قدور، أن إسرائيل تحاول من خلال تحركاتها وأفعالها في سوريا بما فيها التوغلات على الأرض "استغلال لحظة ضعف الإدارة الجديدة، في مسعى لفرض واقع جديد".
وتحاول أيضا، بحسب حديث قدور لموقع "الحرة"، أن تفرض "ضغوطا على طاولة المفاوضات الدولية، لتحصيل أكبر قدر من المكاسب".
"3 عوامل وبضعة خيارات"
وبحسب المعطيات القائمة على كافة الأصعدة، ترى الباحثة كولوريوتيس أنه الإدارة السورية الجديدة لديها خيارات محدودة للتعامل مع التهديدات والخطط الإسرائيلية.
تذهب أولى هذه الخيارات باتجاه أن تأخذ إدارة الشرع مطالب الدروز السوريين على محمل الجد وتحاول إيجاد صيغة ترضي الطرفين (مستغلة العلاقات الإيجابية بين دمشق ووليد جنبلاط كوسيط).
ويكمن الثاني بأن تتجاهل الإدارة السورية الجديدة التهديدات الإسرائيلية، وتبدأ بنشر قواتها بشكل مكثف في محافظتي درعا والقنيطرة، وتجبر ممثلي السويداء على قبول دخول قوات الإدارة السورية الجديدة إلى المحافظة.
وأضافت كولوريوتيس أن الخيار الثالث يتمثل بأن تتحرك الإدارة السورية الجديدة بسرعة لتوقيع تفاهمات أمنية وعسكرية مع أنقرة، يتم على أساسها إنشاء قواعد عسكرية تركية في وسط سوريا وجنوب العاصمة السورية دمشق، وبالتالي يصبح التدخل العسكري الإسرائيلي في سوريا أكثر تعقيدا.
ويعتقد الباحث قدور أن إدارة الشرع لا تملك تمتلك الكثير من الحلول في ظل الحالة الهشة التي تعيشها على المستويات كافة.
ومع ذلك يشير الباحث إلى حل يرتبط بالأساس بالرفض والممانعة الشعبية لأي تدخل إسرائيلي في البلاد.

ماذا على طاولة إسرائيل؟
أما الباحث السياسي الإسرائيلي شتيرن، فاعتبر أن السياسة الإسرائيلية تجاه سوريا لا تعتمد على "أسس متينة ومدروسة"، وأكبر مثال على ما سبق هو ما حصل في جرمانا قبل يومين، وفق قوله.
وكان وزير الدفاع الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، هدد، السبت، بالتدخل عسكريا في سوريا ضد قوات دمشق "إذا أقدم النظام على المساس بالدروز"، وذلك بعد اشتباكات دامية في بلدة جرمانا ذات الغالبية الدرزية في ريف العاصمة.
وبعد التهديدات الإسرائيلية، تمكنت قوات "الأمن العام" التابعة لإدارة دمشق من دخول جرمانا والانتشار فيها واستعادة مواقعها هناك، وذلك بعد ساعات من التوصل لتفاهم انخرط فيه رجال دين كبار وقادة تشكيلات مسلحة من الطائفة الدرزية.
ويضيف شتيرن: "تهديدات إسرائيل في جرمانا مبالغ بها ولا حاجة لها".
ومن جانبه، اعتبر قدور أن الجانب الإسرائيلي ينتظر أي خطأ من إدارة دمشق كي يستخدمه كذريعة لتصعيد جديد.
كما أعربت كولوريويتس عن اعتقادها بأن خيار احتلال أجزاء واسعة من جنوب سوريا أو حتى تقدم القوات الإسرائيلية نحو العاصمة السورية دمشق يبقى قائما.
وأوضحت أن ذلك يرتبط بثلاثة عوامل، الأول هو موقف الدروز السوريين من الإدارة السورية الجديدة والحكومة الإسرائيلية.
أم العامل الثاني، فيتمثل بقدرة الإدارة السورية الجديدة على معالجة العوائق الأمنية التي تتزايد في مناطق مختلفة من الساحل السوري وشرق سوريا وحتى داخل البلدات المحيطة بالعاصمة السورية دمشق، والعامل الثالث، هو طريقة تعامل الإدارة مع التهديدات الإسرائيلية.
وأشارت الباحثة إلى أن الأزمة الاقتصادية، وتدهور الوضع الأمني، وتزايد هجمات بقايا نظام الأسد، وعودة داعش بقوة، واتساع الفجوة بين الإدارة السورية الجديدة والأقليات في البلاد، فضلا عن المجتمع السوري المنهك، كلها عوامل قد "تشجع إسرائيل على رفع سقف طموحاتها في سوريا".
واعتبرت أيضا أن "الإدارة السورية الجديدة بقيادة أحمد الشرع تتحمل أيضا جزءا من المسؤولية عما تواجهه سوريا اليوم من خطر الانقسام والاحتلال والانهيار الأمني".