أكراد سوريون خلال مظاهرة لدعم قوات سوريا الديمقراطية في 19 ديسمبر 2024- المصدر: فرانس برس
الأكراد قالوا إن الإعلان الدستوري "يتنافى من جديد مع حقيقة سوريا وحالة التنوع الموجود فيها"

انتقدت الإدارة الذاتية الكردية، الخميس، الإعلان الدستوري الذي وقعه الرئيس الانتقالي أحمد الشرع، معتبرة أنه "يتنافى" مع تنوع سوريا ويضم بنودا تتشابه مع حقبة حكم حزب البعث.

وفي بيان صدر بعد يومين من توقيع اتفاق بينها وبين السلطات الجديدة في دمشق، اعتبرت الإدارة الكردية أن الإعلان الدستوري "يتنافى من جديد مع حقيقة سوريا وحالة التنوع الموجود فيها"، ويخلو من "مكوناتها المختلفة من كرد وحتى عرب..". 

وأشارت إلى أنه "يضم بنودا ونمطا تقليديا يتشابه مع المعايير والمقاييس المتبعة من حكومة البعث" الذي حكم البلاد لعقود.

وصادق الرئيس السوري للمرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، على المسودة الخاصة بـ"الإعلان الدستوري" التي صاغتها لجنة كان كلفها بهذه المهمة، قبل أسبوع.

وجاءت المصادقة، التي أخذت صيغة التوقيع الرسمي، في قصر الشعب بدمشق، الأربعاء، وتلت استعراض قدمه عضو لجنة صياغة "الإعلان الدستوري"، عبد الحميد العواك لأبرز النصوص والأبواب.

وتقضي مسودة "الإعلان الدستوري" بأن يتولى مجلس الشعب العملية التشريعية كاملة والسلطة التنفيذية يتولاها رئيس الجمهورية.

وفي ما يتعلق بعمل السلطات، جاء في الإعلان الدستوري "لأن مبدأ الفصل ما بين السلطات كان غائبا عن النظم السياسية، تعمّدنا اللجوء إلى الفصل المطلق بين السلطات" بعدما عانى السوريون "سابقا من تغوّل رئيس الجمهورية على باقي السلطات".

وبحسب الإعلان الدستوري، يعود للرئيس الانتقالي "تعيين ثلث" أعضاء مجلس الشعب الذي يتولّى "العملية التشريعية كاملة وبشكل منفرد".

وحددت الإعلان الدستوري مدة المرحلة الانتقالية بخمس سنوات، ومنحت الرئيس أحمد الشرع حق إعلان حالة الطوارئ، جزئيا أو كليا، وبموافقة "مجلس الأمن القومي".

وكان أبرز ما تضمنه وثيقة "الإعلان الدستوري" أنها نصت على أهمية القضاة وأحكامهم واستقلاليتهم وتركت أمر عزل الرئيس أو فصله أو تقليص سلطاته لمجلس الشعب.

وعلاوة على ذلك، حددت "الفقه الإسلامي كمصدر رئيسي للتشريع".

وأكدت أن "حرية الاعتقاد مصونة، والدولة تحترم جميع الأديان السماوية وتكفل حرية القيام بجميع شعائرها على ألا يخل ذلك بالنظام العام".

كما نص "الإعلان الدستوري" على ضمان حق الملكية وحق المرأة في العلم والمشاركة في العمل، وكفل لها الحقوق السياسية، وعلى حرية الرأي والتعبير والإعلام والنشر والصحافة.

وأكد أيضا التزام الدولة بوحدة الأرض والشعب واحترام الخصوصيات الثقافية، والحرص على باب خاص بالحقوق والحريات لخلق توازن بين الأمن المجتمعي والحرية.

ومن جانب آخر، تضمن "الإعلان الدستوري" التأكيد على الفصل المطلق بين السلطات لضمان التوازن السياسي.

ونص في مسار آخر على حل المحكمة الدستورية الحالية واستبدالها بمحكمة مؤقتة تعمل وفق القانون السابق.

وعقب تسلمه وتوقيعه مسودة الإعلان الدستوري، قال الشرع: "نتمنى أن يكون هذا تاريخ جديد لسوريا نستبدل به الجهل بالعلم والعذاب بالرحمة".

وأردف قائلا: "ونأمل أن يكون ذلك فاتحة خير للشعب السوري على طريق البناء والتطور".

وستكون وثيقة "الإعلان الدستوري" سارية طوال المرحلة الانتقالية، والتي تمتد حتى تحقيق الاستقرار وإجراء استفتاء شعبي على دستور دائم، بحسب ما قالت عضو لجنة الصياغة، بهية مارديني لموقع "الحرة".

وأشارت مارديني صباح الأربعاء إلى أن "مدة هذه المرحلة ستحدد بناء على الظروف السياسية والأمنية، ومدى تقدم عملية بناء المؤسسات".

وأضافت عضو لجنة الصياغة أيضا أن "الإعلان الدستوري" يهيىء الأرضية لعملية دستورية شاملة تفضي إلى صياغة دستور دائم، يعكس تطلعات الشعب السوري، ويحدد شكل نظام الحكم المستقبلي.

وكان الشرع أصدر قرارا بتشكيل لجنة مختصة لصياغة مسودة الإعلان الدستوري في سوريا، في 2 من مارس الحالي.

وضمن اللجنة كلا من الدكاترة، عبد الحميد العواك، ياسر الحويش، إسماعيل الخلفان، ريعان كحيلان، محمد رضى جلخي، أحمد قربي، وبهية مارديني.

مخيم للنازحين في سوريا. أرشيف
مخيم للنازحين في سوريا (أرشيف)

في زوايا الذاكرة المحروقة من اللجوء، تقف حورية محمد، شابة سورية تبلغ من العمر 22 عامًا، شاهدة على حياة كاملة قضت نصفها تقريبًا داخل مخيم الزعتري في الأردن. 

ومع سقوط نظام بشار الأسد، كان النازحون السوريون يأملون أن تبدأ مرحلة جديدة من السلام وإعادة الإعمار، لكن الواقع أثبت أن نهاية الحرب لا تعني نهاية المعاناة، إذ أن ملايين المهجّرين لا يستطيعون العودة، لا لأسباب أمنية فقط، بل لأن بيوتهم دمرت، وقراهم خربت، والمرافق الأساسية معدومة.

وحين وصلت إلى  الزعتري شمالي الأردن، كانت لا تزال طفلة، بالكاد تفهم معنى النزوح، لكن السنوات الطويلة داخل أسوار الخيام والكرفانات جعلتها تنضج قبل أوانها، وتحمل همومًا أكبر من عمرها.

"في البداية، لم يكن المخيم مهيئًا للحياة"، تروي حورية، بنبرة تعبّر عن مزيج من الألم والتأقلم. "ما كان في كهرباء ولا ماء، الحمامات والمطابخ مشتركة، وكان الوضع صعب جدًا، خصوصًا للأطفال والنساء.. سكنّا في خيام تحت الشمس والمطر، وكل شيء كان ينقصنا".

"مدينة نزوح"

تحوّلت الخيمة إلى منزل، والمخيم إلى مدينة، بل إلى ما يشبه الوطن البديل، رغم أنه لا يشبه الوطن أبدًا. ومع مرور الوقت، تحسنت بعض الخدمات، وتمّ استبدال الخيام بالكرفانات، وتوفرت الكهرباء والمياه تدريجيًا، لكن الذاكرة بقيت مثقلة بالبدايات القاسية. وتقول حورية: "الزعتري صار خامس أكبر مدينة بالأردن، بس الناس هون ما نسيوا بيوتهم، ما نسيوا حياتهم قبل الحرب".

ورغم سقوط النظام في 8 ديسمبر 2024، لم يكن ذلك كافيًا لإقناع الناس بالعودة. البعض جرب العودة وندم، والبعض الآخر ما زال ينتظر أن تتحسن الأوضاع. تؤكد حورية: "الناس اللي رجعت على سوريا كلها ندمت. الوضع المعيشي هناك صادم، وما حدا عنده بيت يرجع عليه. كل شي مهدوم، وكل حدا ناطر يتحسن الوضع ليقرر يرجع".

لكن الغربة ليست وحدها العائق، فحتى الأمل أحيانًا يصبح رفاهية. في أحد الأمثلة المؤلمة، تروي حورية عن رجل ينحدر من بلدة إنخل بمحافظة درعا، قرر مغادرة الزعتري عبر البحر لعلاج ابنه المصاب بسرطان الدم، بعدما أصبحت الرعاية الصحية المجانية نادرة في المخيم. 

ولم يصل ذلك الرجل إلى أوروبا، بل غرق في البحر قبالة سواحل ليبيا، تاركًا خلفه زوجة وأطفالًا ينتظرون عودته.

"هذا مثال على معاناة اللاجئين والنازحين "، تقول حورية، قبل أن تصمت لحظة، وكأنها تحاول منع دموعها من الانهمار. في حياتها، كما حياة مئات الآلاف من السوريين، تحوّل الانتظار إلى أسلوب حياة، والغربة إلى هوية مؤقتة لا أحد يعرف متى تنتهي.

من حصار الجوع إلى التيه في المخيمات

وفي يوم عادي من عام 2013، كان رياض محمد السوفاني (58 عاما) يجلس مع عائلته في جنوب العاصمة دمشق، لا يدرك أن حياته ستتحول إلى كابوس طويل سيظل يعيشه لسنوات... قصف بالهاون، غارات جوية، قنص، وحصار خانق لحي التضامن حتى أصبح الخروج من المنزل بحثًا عن الطعام مهمة انتحارية.

"لم يكن لدينا سوى الماء والبهارات، وكنا نأكل أوراق الفجل التي لا تقترب منها حتى الحيوانات"، يقول رياض وهو يسترجع واحدة من أقسى لحظات حياته.

كانت الأوضاع في جنوب دمشق مأساوية إلى حد يفوق الوصف، لكن الأمر لم يتوقف عند ذلك، فبينما كان رياض يحاول البقاء على قيد الحياة، كان الموت يحصد أحبّ الناس إليه.

"قتلت والدتي بقصف جيش النظام، ثم قتل ابني محمد، وعمره 23 عامًا، وبعدها فقدت ابني الآخر صلاح الدين، وهو من ذوي الاحتياجات الخاصة، بسبب نقص الدواء"، يضيف رياض، بينما تتقطع كلماته بحزن لا يوصف.

لم يكن القتل هو السلاح الوحيد الذي استخدمه النظام، بل كان الحصار والتجويع أكثر قسوة من القصف، خاصة عندما بدأ "الناس يموتون أمام أعينهم بسبب انعدام الطعام".

في النهاية، وبعد سنوات من الصمود تحت الحصار قرر النظام فتح معبر لخروج بعض العائلات من المنطقة، لكن الرحلة كانت محفوفة بالمخاطر، حيث تعرض الشباب للاعتقال، وكان  ابن شقيق رياض من بين المعتقلين.

"عندما خرجت عائلتي من جنوب دمشق، بقيت أنا وحدي في الحصار، ثم جاء اتفاق التهجير إلى الشمال السوري عام 2018، وهو أصعب ما مررت به"، يقول رياض بصوت خافت، وكأن الذكرى ما زالت تنهش روحه.

كانت مغادرة المنزل أقسى من الموت نفسه، أن تترك المكان الذي ولدت فيه، وتذهب إلى مصير مجهول، حيث لا شيء مؤكد سوى أنك ستكون"لاجئًا في وطنك".

"معاناة لا تنتهي"

وصل رياض إلى الشمال السوري بعد رحلة تهجير طويلة، ليدرك أن الحياة هناك لم تكن أقل قسوة من الحصار.

"تخيل أن يكون الحمام والمياه وكل شيء مشتركًا مع مئات الناس، تخيل أن تعيش في خيمة تحت رحمة الأمطار الشتوية والحر الشديد في الصيف، محاطًا بالحشرات والزواحف، وأن تعتمد على مساعدات لا تأتي إلا بين مد وجزر"، يروي رياض.

في السنوات التي تلت النزوح، حاول رياض البحث عن عمل، عن حياة كريمة، لكنه اصطدم بواقع اقتصادي قاسٍ، حيث لا وظائف، ولا فرص، ولا مستقبل واضح.

"تأقلمنا مع الوضع رغم صعوبته، انتظرنا يومًا تتحسن فيه الأمور، لكن كل شيء ظل كما هو"، يقول رياض، وكأنه يحاول إقناع نفسه بأن الصبر وحده كافٍ.

فرحة ممزوجة بالصدمة

وفي 8 ديسمبر 2024، سقط نظام الأسد بعد 14 عامًا من الحرب والدمار، وسرعان ما انتشرت الأخبار في المخيمات، لتتحول الخيام البائسة إلى ساحات فرح.

"نزل الناس إلى الشوارع، تبادلوا التهاني، الجميع كان يحلم بالعودة إلى قراهم، إلى منازلهم التي تركوها منذ سنوات"، يصف رياض اللحظة التي اعتقد فيها أن الألم قد انتهى أخيرًا.

لكن عندما بدأ النازحون في العودة إلى بلداتهم، كانت المفاجأة الصادمة في انتظارهم.. "كثيرون لم يجدوا بيوتهم، وكثيرون لم يجدوا حتى ما يثبت أنهم كانوا يعيشون هناك يومًا ما"، يقول رياض بأسى.

فقد البعض كل شيء، ولم يتمكن آخرون من العودة بسبب غياب وسائل النقل أو المال اللازم للانتقال، ليجدوا أنفسهم مجبرين على البقاء في المخيمات، على أمل أن يأتي اليوم الذي تتحقق فيه العودة حقًا.

"نحن لا نطلب الكثير، فقط أن نعود إلى بيوتنا، إلى الأرض التي ولدنا فيها، لكن يبدو أن الوطن الذي حلمنا به لا يزال بعيدًا"، يختتم رياض شهادته، بنبرة تحمل خليطًا من الأمل والخذلان. 

"حلم الموت الدافئ"

وفي إدلب، يعيش أحمد الحموي،(67 عاما) الذي اضطر للفرار من ريف محافظة حماة عام 2014 بعد تصاعد القصف والاشتباكات في منطقته، حيث وجد نفسه في مدينة غريبة عنه، لكنها كانت الخيار الوحيد له ولعائلته للبقاء على قيد الحياة.

"لم يكن لدينا وقت لجمع أي شيء، خرجنا من المنزل ونحن بالكاد نحمل أطفالنا"، يقول أحمد، الذي كان يعمل مدرسًا للغة العربية قبل أن تسرقه الحرب من فصوله وطلابه.

يعيش أحمد اليوم في بيت صغير في إدلب، بعيدًا عن مسقط رأسه، لكنه لا يزال يشعر بأنه "غريب داخل وطنه"، حيث فقد معظم أصدقائه، فيما لا يزال بعض أفراد عائلته مفقودين.

ويحلم الحموي بالعودة إلى مسقط رأسه، مضيفا: "أريد أن أموت في بيتي الذي بات أنقاضا بعدما كانت جدرانه تشهد على طفولتي وشبابي وكهولتي، لكن حتى الموت لم يعد بهذه السهولة"، يضيف أحمد بصوت مبحوح.

محمد خير.. "لا أصدق ما حدث"

في إحدى المخيمات القريبة من مدينة إعزاز شمال سوريا، يجلس محمد خير حمود (54 عامًا)، محاولًا إشعال موقد صغير ليحضر بعض الشاي، لكن الرياح الباردة تصعب عليه المهمة. 

محمد، الذي كان يقطن في حي العروبة بالقرب من مخيم اليرموك، جنوب دمشق، لم يكن يخطر بباله يومًا أنه سيعيش داخل خيمة، محاصرًا بين البرد والذكريات.

في عام 2018، اضطر محمد لمغادرة جنوب دمشق إلى الشمال السوري بعد سنوات مريرة من الحصار والقصف والجوع.

"عندما غادرت منزلي، كنت أحمل مفتاحه معي، كنت أعتقد أنني سأعود خلال أسابيع أو أشهر، لكن السنوات مرت، واليوم لم يعد هناك منزل لأعود إليه"، يقول محمد بحزن.

يحمل محمد صورًا قديمة لبيته، لأشقائه الذين تفرقوا في دول مختلفة بحثًا عن الأمان. لم يعد هناك أي رابط بينه وبين قريته سوى تلك الذكريات التي يؤلمها الزمن، ويزيدها البعد وجعًا.

"الوطن لم يعد الوطن الذي عرفناه، والبيوت لم تعد البيوت التي سكناها، كل شيء تغير، لكن القلب يرفض التصديق"، يضيف محمد، بينما يراقب طفلته الصغيرة التي لم تعرف سوى الخيام منزلا لها.