ليلة الثلاثاء اتخذت وزارة الخارجية السورية قرارا "طال انتظاره"، بحسب سوريين وخبراء ومراقبين، قضى بنقل سفيري دمشق في روسيا والسعودية إلى "الإدارة المركزية"، بمعنى أنها أنهت مهامهما في البلدين كسفراء رسميين لسوريا الجديدة.
السفيران المعنيان هما السفير السوري في السعودية أيمن سوسان، وسفير دمشق في موسكو بشار الجعفري، الذين دعما رواية نظام الأسد في الخارج منذ عام 2011، وتحولا إلى جزء رئيسي لا يمكن فصله عن المنظومة السابقة التي سقطت، يوم الثامن من ديسمبر 2024.
ورغم أن سوسان والجعفري كانا جزءا من منظومة الأسد وهو ما تعكسه وتؤكده تصريحاتهما والمواقف التي كانا عليها سابقا والمناصب التي تقلدها الاثنان، سرعان ما انضما إلى قوائم "المنقلبين على الموقف الأول" بعد السقوط، في سلوك أطلق عليها سوريون، على مدى الأشهر الماضية، مصطلح "التكويع".
واعتبر سوسان، قبل 3 أشهر، أنهم كانوا "موظفون لدى الدولة وليس عند شخص"، في حين قال الجعفري، في كلمة مصورة له بعد سقوط الأسد إن "العديد من السوريين الوطنيين عانوا من الظلم والتهميش بسبب منظومة الفساد التي ألحقت الدمار بمقدرات البلاد ومؤسساته"!
ووفقا لوكالة "سانا" الرسمية، فإن الخارجية السورية تعمل حاليا على مراجعة شاملة لوضع بعثاتها الدبلوماسية في الخارج، ونقلت عن مصدر قوله إنه سيتم الإعلان قريبا عن "قرارات جادة تتعلق بإعادة ترتيبها وتنظيمها".
وأضاف المصدر أيضا، بحسب الوكالة، أن القرارات التي بصدد أن تتخذها الخارجية السورية من شأنها أن "تعزز حضور مؤسساتنا وبعثاتنا على الساحة الدولية، وبما يضمن كفاءة الأداء ووضوح التمثيل السياسي".
ما سبق جاء بعد ساعات من انتشار تقارير عن تسليم واشنطن مذكرة للبعثة السورية لدى الأمم المتحدة في نيويورك، وتنص على تغيير وضعها القانوني من بعثة دائمة لدولة عضو في الأمم المتحدة إلى "بعثة لحكومة غير معترف بها من قبل الولايات المتحدة الأميركية".
وأثارت المذكرة الكثير من الجدل والتساؤلات، وفي وقت تضاربت القراءات عن مآلاتها والصيغة التي تعنيها بدقة ولماذا جاءت الآن؟ وأوضح مصدر مسؤول في وزارة الخارجية لـ"سانا"، الاثنين، أن الإجراء المتعلق بتعديل الوضع القانوني للبعثة السورية في نيويورك هو "تقني وإداري بحت".
وأشار إلى أن الإجراء (المذكرة) "يرتبط بالبعثة التابعة السابقة"، و"لا يعكس أي تغيير في الموقف من الحكومة السورية الجديدة"، وهو الأمر الذي لم يصدر بشأنه أي توضيح من جانب الأمم المتحدة وواشنطن.
"بؤر تجسس"
وعلى مدى سنوات اللجوء السوري الماضية (قبل سقوط الأسد)، غطّت نشاطات أجهزة النظام الأمنية في الداخل عن تلك الحاصلة في الخارج، وبينما كانت هناك "سوريا على الأرض تُحكم بالنار والاعتقالات" كان هناك مشهدٌ مشابه في بعض الجزئيات في "سوريا الخارج"، لكن "بهدوء" ومن خلال "أعين وآذان السفارات والقنصليات".
ونادرا ما كانت الأضواء تتسلط على الدور الذي تضطلع به السفارات السورية سابقا، والأدوار التي تقوم بها في "دولة الأسد الأمنية"، ولاسيما بعدما اتجهت عدة دول، بينها عربية، إلى قطع علاقاتها مع دمشق، في مطلع أحداث الثورة السورية.
وفي مايو 2023، كشفت سلسلة من المراسلات الاستخباراتية ونشرها "المركز السوري للعدالة والمساءلة" "استخدام حكومة الأسد لسفاراتها للسيطرة على المجتمعات في الداخل والخارج".
وأوضحت الوثائق الخاصة بالمراسلات التي حللها المركز الحقوقي، ومقره واشنطن، عمليات مراقبة خارجية أجريت بشكل منهجي، عبر شبكة البعثات الدبلوماسية التابعة لنظام الأسد.
على سبيل المثال، أشار مضمون إحدى الوثائق المعممة على رؤساء فروع الأمن السياسي في المحافظات طلب رئيس الشعبة الحصول على معلومات حول "المحرّضين" المعارضين، في جميع أنحاء فرنسا وبلجيكا وتركيا وروسيا ولبنان.
وأثبتت وثائق أخرى تم تحليلها كيف كانت سفارات وقنصليات النظام السوري تعمل على مراقبة السوريين في بيلاروسيا وبلجيكا وقبرص ومصر وفرنسا واليونان والعراق ولبنان وروسيا والسعودية، بالإضافة إلى تركيا وأوكرانيا واليمن والمملكة المتحدة، وحتى اليابان التي تعد دولة ذات جالية صغيرة من السوريين المغتربين.
وبناء على ما سبق، من زاوية الحالة الأمنية، التي كانت عليها البعثات الدبلوماسية السورية في الخارج وعلى مستوى الخطوات التي قد تصدرها إدارة الشرع بشأنها الآن، يرى مراقبون أن معالجة وحل هذا "الملف الكبير" تشوبه العديد من "التحديات".
ما وراء التأخير؟
يعتقد الباحث في مركز "عمران للدراسات الاستراتيجية"، أيمن الدسوقي، أن التأخير في التعاطي مع ملف البعثات الدبلوماسية السورية في الخارج عقب سقوط النظام كان مرده؛ "تركيز الإدارة الجديدة أولوياتها على الداخل السوري لاستكمال متطلبات المرحلة الانتقالية ونيل شيء من الشرعية، تساعدها على نيل الاعتراف السياسي بها خارجيا".
وقال الباحث لموقع "الحرة" إن التأخير ربما يرتبط أيضا بمشاكل لوجستية "تتعلق بتأمين تغطية مالية كافية لمثل هكذا حركة، إلى جانب التريث في فتح ملف من المتوقع أن يثير خلافات وتنافس بخصوص توزيع المناصب وأي التيارات أحق بها من داخل الإدارة وخارجها، ترى الإدارة أنها بغنى عنه راهنا".
ومما لا شك به أن بقاء هذه البعثات يحمل مخاطر لا يمكن تجاهلها، بحسب الدسوقي.
وأوضح أن "جل العاملين بها من شبكات نظام الأسد البائد، وهؤلاء قد يستغلوا مناصبهم لتأليب الرأي العام والحكومات الأجنبية ضد التغيير الحاصل في سوريا".
وعندما ترسل سوريا سفيرا لدولة ما تتضمن أوراق اعتماده أنه يتحدث باسم الرئيس وتوقيعه. ولذا عندما هرب الأسد انتهت ولايته وولاية من أرسلهم باسمه، يضيف الدبلوماسي السوري السابق، الدكتور بسام العمادي لموقع "الحرة".
ورأى أنه كان من المفترض أن يعود جميع السفراء إلى سوريا، وأن "هذا متبع في دول العالم"، "فمثلا عندما يؤدي الرئيس الأميركي الجديد القسم، يعود جميع السفراء الأمريكيين الذين عينهم الرئيس المنتهية ولايته"، وفق قوله.
"إجراءات وتحديات"
وبعد سقوط نظام الأسد لم تقم وزارة الخارجية التي تسلم حقيبتها أسعد الشيباني بالطلب من السفراء العودة إلى سوريا وتركتهم في مراكزهم.
واستمر هؤلاء السفراء بتقاضي رواتبهم وممارسة أعمالهم، بالرغم من أنهم كانوا يصفون القيادة السورية الجديدة بالإرهاب قبل وقت قصير من تحرير سوريا.
كما كانوا يدافعون بشراسة وبدوافع شخصية عن نظام الأسد، بحسب الدبلوماسي السوري العمادي.
والآن وفي ظل المعطيات القائمة يقول العمادي إن إرسال سفراء جدد يحتاج إلى إجراءات محددة، منها الاعتراف بالقيادة الجديدة.
ويضيف أنه "لتجنب ذلك وضرورة التواصل مع الدول الأخرى، يمكن تكليف أحد الدبلوماسيين المتواجدين في السفارات بتسيير السفارة كقائم بالإعمال بعد عودة السفير".
كذلك يمكن بموافقة ضمنية من الدول الراغبة إرسال دبلوماسي جديد لا يحمل صفة سفير، ذلك أن السفير هو الوحيد الذي يتعين إرسال أوراق اعتماد من رأس الدولة أو ملكها، "وبذلك يتم تجاوز عقبات إدارية وقانونية"، بحسب الدبلوماسي السوري السابق الذي كان سفير سوريا الأسبق في السويد.
ويعتقد الباحث الدسوقي أن مسألة تنظيم البعثات الدبلوماسية في الخارج لا سيما استبدال السفراء يشكل "تحديا أمام الحكومة الانتقالية"، بالأخص وزارة الخارجية المطالبة بتفعيل عملها كجهاز مؤسساتي يمثل الدولة السورية في الخارج، ويدافع عن مصالحها.
وتتمثل هذه التحديات أولا، بتوفير الموارد المالية اللازمة لتشغيل البعثات الدبلوماسية في الخارج، بحسب الباحث.
وتذهب التحديات ثانيا باتجاه ضرورة تعيين سفراء جدد تبعا لمعيار الكفاءة وليس الولاء الذي كان متبعا في التعيينات السابقة داخل سوريا، وما يتطلبه ذلك من القائمين على الإدارة السورية الانفتاح على شخصيات من خارجها، وما قد يثيره ذلك من خلافات وتنافس تحتاج إدارتها إلى حنكة.
كما أشار الدسوقي إلى تحديات أخرى تكمن باستكمال الحكومة الانتقالية الاعتراف السياسي بها من قبل الدول، بما يساعدها على الإقدام على هذه الخطوة (تغيير البعثات الدبلوماسية).
وأكد العمادي أن دور وزارة الخارجية في سوريا هام جدا في هذه المرحلة.
وقال إنه ورغم قيام الوزير الشيباني بجهد واضح مع الدول الهامة، فإن وزارة الخارجية تعتبر "مؤسسة هامة ولها مهام عديدة لا يمكن لشخص واحد أو مجموعة أشخاص القيام بها".
علاوة على ذلك، فإن الخبرة العملية المطلوبة في العمل الدبلوماسي لا يمكن الحصول عليها أكاديميا أو بالمراسلة، بل بالعمل الطويل في وزارات الخارجية وسفاراتها، وهذه الخبرات العملية متوفرة لدى الكثيرين من السوريين المنشقين عن وزارة الخارجية وغيرهم، وفقا لحديث الدبلوماسي السوري السابق.