في خضم الأوضاع الهشة التي تعيشها سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد، لا تزال أحداث الساحل السوري التي جرت في مارس الماضي اختباراً حقيقياً لمدى التزام الحكومة الانتقالية بمبادئ العدالة وحقوق الإنسان، وفق العديد من المنظمات الحقوقية المحلية والدولية.
فبعد شهر من تشكيل "اللجنة الوطنية المستقلة للتحقيق وتقصي الحقائق في أحداث الساحل" بقرار من الرئيس الانتقالي أحمد الشرع، لا تزال الأسئلة بشأن مصداقيتها وفعاليتها تطفو على السطح، وسط تصاعد الانتهاكات وتضارب الروايات بين الأطراف المختلفة.
وقد أعلنت اللجنة، التي شُكلت في 9 مارس بعد أحداث دامية طالت المدنيين في محافظات اللاذقية وطرطوس وبانياس، أنها ستقدم "تقريراً أولياً"، لكنها لم تنهِ مهمتها بعد.
وأوضح الناطق الرسمي باسم اللجنة، ياسر الفرحان، أن التحقيقات مستمرة بسبب "حساسية القضية وتعقيدها"، مشيراً إلى أن اللجنة تجمع الأدلة والشهادات وتفحص التكييف القانوني للأحداث.
ولكن تلك المبررات لم تقنعجميع الأوساط الحقوقية، فرامي عبد الرحمن، مدير المرصد السوري لحقوق الإنسان، شكك في مصداقية اللجنة، قائلاً في تصريح خاص لموقع "الحرة":"اللجنة لا علاقة لها من قريب أو بعيد بتقصي الحقائق، والدليل على ذلك أنها لم تلتقِ حتى بعشرة بالمئة من أهالي وذوي الضحايا".
وأضاف: "هي تسعى إلى تمييع الأمور وإطالة عمر عملها على أمل أن تحدث حالة فتور لدى المجتمع الدولي وينتهي كل شيء."
وشدد عبد الرحمن أن توثيق الانتهاكات لا يزال جارياً، مشيراً إلى أن المرصد لايزال ينشر حتى الآن شهادات مصورة من قرية واحدة فقط، مما يطرح تساؤلات حول قدرة اللجنة على جمع الأدلة الكافية في وقت قصير على حد قوله.
هل وقعت "جرائم حرب"؟
واندلعت الأحداث بدايةً في 6 مارس، عندما شنّت جماعات مسلحة موالية للنظام السابق هجمات على مواقع أمنية، ما أدى إلى ردّ عنيف شمل، بحسب منظمات حقوقية، عمليات قتل ممنهجة ضد مدنيين علويين.
وقد أصدرت منظمة العفو الدولية أصدرت تقريراً في 4 أبريل وصفَت فيه الأحداث بأنها "جرائم حرب"، مستندةً إلى أدلة مرئية وشهادات شهود عيان.
وردّ الفرحان على هذه الاتهامات بالتشكيك في منهجية "العفو الدولية"، قائلاً: "تصنيف الجرائم كجرائم حرب يتطلب إثبات الركن المعنوي والمادي. نحن نبحث في جميع الاحتمالات، بما فيها تحرّك بعض الأفراد بدوافع طائفية أو استغلال الفوضى من قبل عصابات".
لكن الشبكة السورية لحقوق الإنسان كشفت في تقريرها المتعلق بشهر مارس عن مقتل 1562 شخصاً، بينهم 102 طفل و99 سيدة، في عمليات عنف طالت مختلف المناطق، مع تركيز كبير على الساحل السوري.
وأشار التقرير إلى أن 889 من الضحايا قُتلوا على يد "القوى المسلحة المشاركة في العمليات العسكرية بالساحل"، بينما سقط 445 ضحية برصاص جماعات موالية للنظام السابق.
من جانبه، أشار عبد الكريم الثلجي، الإعلامي والحقوقي السوري، في تصريح لموقع "الحرة" إلى أن "عمل اللجنة خطوة بالغة الأهمية في مسار ترسيخ العدالة الانتقالية في سوريا ما بعد سقوط نظام الأسد. فوجود قضاة محترفين، وخبراء جنائيين، ومحامين حقوقيين، يؤكد الجدية والمهنية في مقاربة الانتهاكات، بعيدًا عن الانتقائية أو التسييس".
وأضاف الثلجي: "ننوه لضرورة إطلاق هيئة العدالة الانتقالية في سوريا، الذي سبب تأخرها لتحرك المجرمين والقيام بأعمال عنف تزعزع الاستقرار من خلال نشاط الفلول الأخير".
ورأى أن "العدالة الانتقالية تمهّد الطريق نحو السلم الأهلي والمصالحة المجتمعية عبر تقصي الحقائق وكشف الأدلة عن مرتكبي الجرائم طيلة 14 عامًا، من خلال إنشاء محاكم وطنية أو دولية أو مختلطة بين الوطنية والدولية".
ونوه إلى أن "هناك تجارب دولية في هذا الإطار. وأيضًا من خلال جبر الضرر وإنصاف وتعويض الضحايا وتخليد ذكراهم، بعدها تأتي مرحلة الاستقرار والسلم الأهلي، ليعيش الشعب بنحبة وسلام. فلا عدالة بلا محاسبة المجرمين، وهي جزء لا يتجزأ من بداية الثورة إلى اليوم".
وأكد الثلجي أن "عمل اللجنة في الميدان، واستعدادها للتعاون مع الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية الدولية، يعكس شفافية غير مسبوقة كما كان يفعل نظام الأسد، وإرادة حقيقية لمحاسبة كل من تورط في العنف، أياً كانت الجهة التي ينتمي إليها. هذا النوع من العمل المؤسسي، القائم على الأدلة والتحقيقات، هو حجر الزاوية لأي مصالحة وطنية مستدامة".
أخطاء وإشارات استفهام
وفي سياق ذي صلة، اعتبر رئيس الشبكة السورية لحقوق الإنسان في حديثه إلى موقع "الحرة" أن "الانتهاكات ارتكبت من طرفين: الأول فلول النظام السابق، الذين قتلوا عناصر أمنية ومدنيين في الساحل، والثاني فصائل مسلحة وأفراد مدنيين وعناصر من قوات الأمن العام، الذين ارتكبوا انتهاكات بحق مدنيين بالإضافة إلى قتلهم مسلحين من فلول النظام".
وشدد على أن "اللجنة بحاجة إلى وقت أطول بسبب اتساع نطاق عملها، الذي يشمل عشرات القرى والبلدات والمدن في الساحل. كما أنني لست مع فكرة نشر تقرير أولي، لأن المفترض أن يصدر تقرير واحد نهائي يضم كافة النتائج والاستنتاجات التي توصلت إليها اللجنة."
وأشار عبد الغني إلى أن "اللجنة وقعت في أخطاء إعلامية خلال إحاطاتها لوسائل الإعلام، حيث لم يكن من المناسب تقديم تفاصيل مكثفة أو الإجابة على أسئلة الصحفيين قبل انتهاء التحقيقات، خاصة أنها كشفت معلومات كان يجب عدم نشرها أثناء سير التحقيق."
وأضاف: "المفترض بلجان التحقيق أن تمتنع عن التصريحات الإعلامية حتى تنتهي من عملها، ثم تعلن النتائج عبر بيان صحفي موحد، دون الدخول في تعليقات حول تقارير منظمات أخرى، مثل منظمة العفو الدولية."
كما أثار تساؤلات حول "ضعف التنسيق بين اللجنة والمنظمات الحقوقية السورية والخبراء المستقلين، وهو ما يضع علامات استفهام حول منهجية عملها." ولفت إلى أن "تشكيل اللجنة يضم قضاة ومحامين، وليس محققين متخصصين، وهو فارق جوهري يؤثر على طبيعة التحقيقات ودقتها".
وفي المقابل، رأى مدير المرصد السوري لحقوق الإنسان، رامي عبد الرحمن أن "بناء الأوطان لا يتم عبر الإجرام، وما نراه حتى اليوم هو استمرار للجرائم ليس فقط من قبل عناصر منفلتة، بل حتى من داخل مؤسسات الأمن العام نفسها، فهناك فجوة كبيرة بين تصريحات الرئيس الشرع حول العدالة والمصالحة، وبين الممارسات الفعلية لقواته على الأرض."
وأضاف عبد الرحمن بلهجة حادة: "في الوقت الذي لم يتوقف فيه القتل في الساحل السوري، نلاحظ صمتاً مريباً من مفتي الجمهورية الذي لم يصدر أي فتوى تحرّم استهداف المدنيين من الطائفة العلوية، مما يعطي انطباعاً بالتواطؤ أو التسامح مع هذه الجرائم."
وتابع بالقول: "الأخطر من المجازر نفسها هو دور ما أسميهم (شبيحة مواقع التواصل) الذين يعملون على تبرير المجازر وتزييف الحقائق ونشر الأكاذيب. هؤلاء ليسوا أقل خطراً من القتلة أنفسهم، بل ربما أكثر، لأنهم يغذون الكراهية الطائفية ويهدمون أي أمل بالمصالحة الوطنية."
وأكد أن "هذه الحملات المنظمة من التحريض الطائفي تشكل تهديداً مباشراً ليس فقط للاستقرار الاجتماعي، بل حتى لشرعية الرئيس الشرع نفسه، حيث يتم توظيفها لتمرير أجندات عنف خارج نطاق القانون."