قادة حماس بالدوحة

مع تعليق قطر جهود وساطتها بين حماس وإسرائيل حتى توافر ما اعتبرته "الجدية اللازمة" في المفاوضات، تتصاعد التكهنات بشأن مستقبل تواجد المكتب السياسي للحركة الفلسطينية في الدوحة.

وفي الوقت الذي نقلت فيه تقارير إعلامية عدة عن مسؤولين دبلوماسيين، أن قطر تتجه لإغلاق المكتب السياسي لحماس، لأنه "لم يعد يخدم الغرض منه"، أكد المتحدث باسم الخارجية القطرية، أن هذه التقارير "غير دقيقة".

وتأتي هذه التطورات بعد أشهر من الجهود القطرية في الوساطة بين الطرفين، والتي أثمرت في نوفمبر 2023 عن هدنة مؤقتة أتاحت تبادل الرهائن والمعتقلين. غير أن المفاوضات لم تحرز تقدما ملموسا منذ ذلك الحين، مما دفع الدوحة لإعلان تعليق وساطتها، السبت.

في ضوء هذه المستجدات، تكشف رحلة المكتب السياسي لحركة حماس بين ثلاث عواصم عربية خلال العقود الماضية تعقيدات العلاقة بين الحركة والدول المضيفة. فمنذ التسعينيات، تنقل مقر الحركة بين عمان ودمشق والدوحة، وفي كل محطة واجهت الحركة تحديات أدت في النهاية إلى إغلاق مكاتبها، مما يطرح تساؤلات بشأن حول استدامة وجودها في العاصمة القطرية، والخيارات المتاحة أمامها في حال تكرر سيناريو المغادرة الاضطرارية.

حماس والأردن

بدأت العلاقة الرسمية بين حماس والأردن مطلع التسعينيات، حيث سمح الأردن للحركة بتعيين ممثل لها في عمان هو محمد نزال، وأتاح لقيادات الحركة مثل موسى أبو مرزوق وأعضاء المكتب السياسي الإقامة وممارسة نشاطهم السياسي والإعلامي.

وتأثر قرار التقارب مع حماس آنذاك، بتوتر العلاقة الأردنية مع منظمة التحرير الفلسطينية في ذلك الوقت، على خلفية انفرادها بمسار المفاوضات مع الجانب الإسرائيلي، وفقا لمركز الدراسات المستقل "الزيتونة".

وشهدت العلاقة بين الجانبين تحولا بعد توقيع معاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية في وادي عربة عام 1994، حيث طلب من الناطق باسم الحركة إبراهيم غوشة تخفيف حدة التصريحات الإعلامية. وفي عام 1995، طلب من رئيس المكتب السياسي موسى أبو مرزوق مغادرة الأردن، قبل أن يسمح له بالعودة عام 1997 بعد اعتقاله في الولايات المتحدة، وفقا للمصدر ذاته.

الجيش الإسرائيلي قتل "مهاجمَين عبرا من الأردن إلى الأراضي الإسرائيلية" جنوب البحر الميت.
الإخوان والأردن بعد "عملية البحر الميت".. ما وراء "الحادثة الاستثنائية"
رغم أن "عملية البحر الميت" التي حصلت قبل 3 أيام استهدفت الجانب الإسرائيلي وأسفرت عن إصابة جنديين بجروح طفيفة كان لنتائجها وقعا أكبر داخل الأردن، وهو ما انعكس لحظة الإعلان عنها والكشف عن منفذيها وما صدر لاحقا من مواقف "ملتبسة" ورسمية قال مراقبون إنها ستفرض "تحديات وتداعيات".

وشكلت محاولة اغتيال خالد مشعل عام 1997 في عمان نقطة تحول في العلاقة بين الطرفين، حيث أدى تدخل الملك حسين إلى الإفراج عن الشيخ أحمد ياسين وعدد من المعتقلين الفلسطينيين مقابل إطلاق سراح عملاء الموساد. 

لكن العلاقة دخلت منعطفا حادا عام 1999 بعد وفاة الملك حسين، حيث قامت السلطات الأردنية بإغلاق مكاتب الحركة في عمان وإصدار مذكرات اعتقال بحق ستة من قياداتها، انتهت بإبعاد أربعة منهم إلى قطر، بعد أن اتهمتها بالقيام بأنشطة غير مشروعة داخل المملكة.

وبعد ذلك، اقتصرت العلاقة على قنوات تواصل أمنية محدودة وزيارات إنسانية محددة للقادة الفلسطينيين، مثل السماح لمشعل بحضور جنازة والده عام 2009. كما شهدت الفترة اللاحقة توترات أمنية، حيث اتهم الأردن الحركة بتهريب أسلحة عام 2006، وحكم على عدد من الأردنيين بتهم تتعلق بنشاطات مرتبطة بالحركة.

حماس في سوريا

بعد الخروج من الأردن، وجدت حماس في سوريا ملاذا جديدا، حيث استقبلت دمشق أعضاء المكتب السياسي للحركة واتخذتها مقرا رئيسيا لمكتبها السياسي، واستمر هذا الترتيب لأكثر من عقد، حتى مغادرتها عام 2012.

وجاء قرار الخروج من سوريا في أعقاب اندلاع الثورة السورية في مارس 2011 وتصاعد العنف ضد المتظاهرين، مما وضع حماس في موقف صعب بين الحفاظ على علاقتها مع النظام السوري الذي استضافها لسنوات، وبين موقفها من الأحداث في سوريا.

وتوزعت قيادات حماس بعد مغادرة سوريا بين عدة دول، حيث انتقل رئيس المكتب السياسي خالد مشعل ومساعدوه إلى قطر، بينما استقر نائبه موسى أبو مرزوق في مصر.

يحيى السنوار واسماعيل هنية
بعد اغتيال السنوار.. حماس بين تيّارين إخواني وإيراني
عندما أضرم محمد البوعزيزي النار بنفسه في يناير 2011، فيما اعتبره البعض شرارة انطلاق ثورات ما سميّ بـ"الربيع العربي"، لم يكن في حسبانه أبداً أن ما أقدم عليه سيؤثر تأثيراً عميقاً على تاريخ المنطقة العربية، وبطريقة غير مباشرة على مستقبل حركة "حماس" في الأراضي الفلسطينية والشتات حتى يومنا هذا.

وقد أوضح أبو مرزوق، آنئذ، في تصريحات نقلتها هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي"، أن الحركة لم تعد قادرة على ممارسة مهامها في سوريا بسبب الأوضاع المضطربة، مؤكدا أن موقف حماس يقوم على رفض الحل الأمني الذي اتبعه النظام السوري واحترام إرادة الشعب السوري.

وأكد إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحماس في غزة هذا الموقف، عندما أعلن تأييده للسوريين في نضالهم من أجل الحرية والديمقراطية.

الانتقال إلى العاصمة القطرية

بعد مغادرة سوريا، انتقلت قيادة حماس إلى قطر في عام 2012، حيث أصبحت الدوحة المقر الرئيسي الجديد للمكتب السياسي للحركة بالخارج، وتواصل فيه عملياته حتى اليوم.

وأكد مسؤول قطري، في بداية الحرب بغزة، أن تأسيس مكتب حماس في قطر جاء "بالتنسيق مع الحكومة الأميركية، إثر طلبها أن يكون لها قناة تواصل" مع الحركة. 

وأوضح أن المكتب لعب دورا مهما "في وساطات تم تنسيقها مع العديد من الإدارات الأميركية لإرساء وضع مستقر في غزة وإسرائيل".

وعلى مدى سنوات من احتضان قادة حماس، قدمت قطر دعما ماليا لقطاع غزة الذي تسيطر عليه الحركة وتحاصره إسرائيل منذ 2007، وأكد مسؤولون في الدوحة أن ذلك يتم "بالتنسيق الكامل مع إسرائيل والأمم المتحدة والولايات المتحدة".

وفي أعقاب أحداث السابع من أكتوبر، حذر وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، خلال زيارته للدوحة من العلاقات الوثيقة مع حماس، قائلا إنه "لا يمكن أن تستمر الأمور كالمعتاد مع حماس". غير أن رئيس الوزراء القطري وزير الخارجية محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، دافع عن مكتب الحركة، مؤكدا أنه يستخدم لغرض "التواصل وإرساء السلام والهدوء في المنطقة".

وحاليا، تحتضن قطر على أراضيها القيادة السياسية لحركة حماس، من بينهم عضو المكتب السياسي والمتحدث باسم الحركة حسام بدران، والقيادي، محمد أحمد عبد الدايم نصرالله.

كما أشار تقرير لـ"معهد دول الخليج العربي" في واشنطن، إلى وجود الرئيس السابق للمكتب السياسي للحركة خالد مشعل، وعضوي المكتب موسى أبو مرزوق وفتحي حماد في قطر.

مسارات المستقبل 

منذ هجوم السابع من أكتوبر واندلاع الحرب في غزة، تصاعد النقاش بشأن وجود قادة حماس في قطر. وخلال الأيام الأخيرة تزايدت المؤشرات على أن الدوحة تعيد النظر في علاقاتها مع حماس.

أمام هذا الوضع، تبرز ثلاثة مسارات محتملة لمستقبل تواجد قادة الحركة في الدوحة: البقاء في قطر، المغادرة الجزئية، أو المغادرة الكلية، وفقا لمعهد "ستراتيجيكس".

يعتبر مسار البقاء في قطر الأكثر ترجيحا في الوقت الراهن، خاصة في أعقاب إعلان وزارة الخارجية القطرية أن التقارير المتعلقة بمكتب حماس في الدوحة "غير دقيقة"، ويرتبط هذا المسار بتقديم الحركة مرونة في مباحثات التهدئة وإطلاق سراح الرهائن، إضافة إلى استمرار الحاجة لدور قطر في الوساطة بين حماس وإسرائيل والولايات المتحدة.

أما المسار الثاني، وهو المغادرة الجزئية، فيتمثل في الإبقاء على الحد الأدنى من العلاقات الرسمية من خلال إبقاء عدد من القادة غير المتهمين بشكل مباشر في هجمات 7 أكتوبر. وينسجم هذا الخيار مع سياسات الحركة الخارجية في توزيع قيادتها ومكاتبها على أكثر من عاصمة، وفقا للمصدر ذاته

المسار الثالث، وهو المغادرة الكلية، ويشمل إغلاق مكاتب حماس في قطر ومغادرة كافة قادتها. ويرتبط هذا الخيار بوصول مباحثات التهدئة إلى طريق مسدود، بشكل معه الحركة عبئا على الدوحة وتهدد علاقاتها مع حلفائها.

وفي حال تحقق سيناريو المغادرة، تبرز، وفق لمعهد "ستراتيجيكس" عدة وجهات محتملة أمام الحركة.

 ويبقى أبرز هذه الوجهات، الجزائر التي تربطها علاقات جيدة مع حماس منذ 2016، وتضم مكتب تمثيل رسمي يتولى مسؤوليته القيادي في حماس محمد عثمان، بالإضافة إلى إقامة القيادي، سامي أبو زهري، في الجزائر العاصمة، علاوة على حماس بعلاقات وثيقة مع حركة مجتمع السلم الجزائرية، وهي أحد فروع جماعة الاخوان المسلمين، وفقا للمصدر ذاته.

بالإضافة إلى البلد المغاربي، تبرز تركيا التي تضم تمثيلا رسميا للحركة التي ترتبط بعلاقات وثيقة مع حزب العدالة والتنمية الحاكم، وتضم حتى اليوم تمثيلا رسميا لحماس، حيث يقيم فيها عدد من قادة حماس المهمين على رأسهم وزير داخلية حماس السابق وعضو مكتبها السياسي، فتحي حماد.

ويشير المصدر ذاته، إلى أن خسارة حزب العدالة والتنمية الانتخابات المحلية الأخيرة لأسباب منها موقف الرئاسة التركية تجاه الحرب، قد يسهم ذلك في محاولاتها مراجعة موقفها والموافقة على خطوات لاستعادة شعبية الحزب محليا.

وذكر التقرير، لبنان كوجهة أخرى محتملة، مشيرا إلى أنها تضم تمثيل رسمي لحماس، ويقيم فيها عدد من قادتها المهمين، منهم أسامة حمدان، وخليل الحية، ونائب رئيس مكتبها السابق صالح العاروري الذي قتل في غارة إسرائيلية مطلع العام الجاري، بالإضافة إلى  قيادات عسكرية وقواعد تنظيمية للحركة في المخيمات الفلسطينية.

 كما ترتبط حماس بعلاقات وثيقة مع الجماعة الإسلامية، الفرع اللبناني لجماعة الاخوان المسلمين، ولديها شبكة علاقاتها واسعة مع حزب الله، وهو ما يجعل من لبنان خياراً مطروحا، وفقا للمصدر ذاته.

وتبقى إيران وجهة أخرى محتملة، حيث يعود التواجد والتمثيل الرسمي لحركة حماس في طهران إلى تسعينيات القرن الماضي.

غير أن المركز يشير إلى أن   الإقامة في طهران "لا تعد خيارا مفضلا لأسباب جغرافية وسياسية، حيث أن إيران بعيدة جغرافيا وذات مصالح ونفوذ قد تؤثر سلبا على سياسات الحركة مستقبلا، وذلك بالرغم من العلاقات السياسية والعسكرية والمالية بين الطرفين".

وفي وقت سابق من هذا العام، نفى القيادي بحماس، موسى أبو مرزوق الشائعات حول احتمال انتقال القيادة السياسية للجماعة من قطر إلى العراق أو سوريا أو تركيا، مشيرا إلى أن "أي انتقال محتمل، وهو غير حاصل حاليا، سيكون إلى الأردن". 

كيف تصل إسرائيل إلى هذه الدقة في إصابة أهدافها؟ وما هي الاستراتيجية والأهداف؟
كيف تصل إسرائيل إلى هذه الدقة في إصابة أهدافها؟ وما هي الاستراتيجية والأهداف؟

طائرة تحلّق في الأجواء. صاروخ لا تراه لكن تشاهد أثره: سيارة تتحول في ثوان إلى حطام، أو شقة سكنية تتحول إلى كتلة لهب.

الهدف كادر أو قيادي في حزب الله.

والمشهد يتكرر.

في لبنان، تهدئة معلنة.. هذا على الأرض.

لكن في السماء، تواصل الطائرات الإسرائيلية المسيّرة التحليق وتنفيذ ضربات دقيقة تخلّف آثاراً جسيمة، ليس في ترسانة الحزب العسكرية فقط، بل في البنية القيادية كذلك.

وفيما يحاول الحزب امتصاص الضربات، تتوالى الأسئلة: كيف تصل إسرائيل إلى هذه الدقة في إصابة أهدافها؟ أهو التقدّم التكنولوجي المحض، من ذكاء اصطناعي وطائرات بدون طيار؟ أم أن هناك ما هو أخطر؟ اختراقات بشرية داخل صفوف الحزب تُستغلّ لتسهيل تنفيذ الضربات؟ وما هي الاستراتيجية الإسرائيلية هنا والأهداف؟

"اختراق بشري"

استهداف تلو الآخر، والرسالة واضحة: اليد الإسرائيلية طويلة بما يكفي لتصل إلى أي نقطة في لبنان، والعين الإسرائيلية ترى ما لا يُفترض أن يُرى.

يصف القائد السابق للفوج المجوقل في الجيش اللبناني، العميد المتقاعد جورج نادر العمليات الإسرائيلية الأخيرة بأنها "بالغة التعقيد، تعتمد على تناغم نادر بين التكنولوجيا المتقدّمة والاختراق الاستخباراتي البشري"، مشيراً إلى أن "تحديد هوية القادة الجدد الذين حلّوا مكان المُغتالين يتم عبر تقنيات متطوّرة تشمل بصمات العين والصوت والوجه"، متسائلاً "من أين حصلت إسرائيل على أسماء القادة والكوادر الجدد؟ الجواب ببساطة: عبر اختراق بشري فعّال".

ويتابع نادر "حتى الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، المعروف بتشدده الأمني وإقامته في مواقع محصّنة، لم يكن بمنأى عن محاولات التتبّع، إذ تحدّثت تقارير استخباراتية دولية عن اختراق بشري ساعد في تحديد موقعه".

ويرى أن "ما نشهده هو منظومة اغتيال متطوّرة ومتعددة الأبعاد، تمزج بين الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا المتقدمة والعمل البشري الدقيق. هذه الثلاثية تفسّر نجاح العمليات الأخيرة، والأثر العميق الذي تتركه في هيكلية حزب الله، سواء على المستوى العملياتي أو المعنوي".

من جانبه، يرى الباحث في الشأن السياسي نضال السبع أن هذه الاستهدافات "تعكس مزيجاً من التفوق التقني الإسرائيلي والاختراق الأمني الداخلي في بنية الحزب، وكما هو واضح فإن إسرائيل تمتلك قائمة أهداف تتعامل معها تباعاً، وفقاً لمعلومات دقيقة يتم تحديثها باستمرار، ما يتيح لها تنفيذ عمليات مدروسة بعناية شديدة، ويحدّ من قدرة حزب الله على المناورة أو استعادة توازنه سريعاً".

صمت وعجز

على الرغم من الضربات المتتالية التي تلقاها الحزب منذ 27نوفمبر الماضي، والتي أودت بحياة عدد كبير من كوادره، لم يقم بالرد، ويُفسّر نادر ذلك بـ"ضعف فعلي في القدرة على الرد، أكثر من كونه خياراً استراتيجياً".

ويقول نادر "ليس بالضرورة أن الحزب لا يريد الرد، بل الحقيقة أنه لم يعد يمتلك القدرة. هو يعاني من تراجع عملياتي ملحوظ، وتصدّع في هيكليته القيادية، يرافقه حصار سياسي داخلي وخارجي يزداد ضيقاً".

ويضيف "حتى لو قرّر الرد، فما الذي يمكنه فعله فعلاً؟ هل يملك القدرة على تنفيذ عملية نوعية تترك أثراً؟ المعطيات الحالية تشير إلى أن هذه القدرة باتت شبه معدومة، لا سيما بعد خسارته الغطاء السياسي الذي كان يوفره له بعض الحلفاء، ومع تزايد عزلته على الصعيدين العربي والدولي".

ويختم نادر بالقول "تصريحات الحزب تعكس حالة من التردد والارتباك. فتارةً يتحدّث عن التزامه بقرارات الدولة، وتارةً يلوّح بحق الرد. لكن الواقع على الأرض يقول إنه في وضع حرج: محاصر سياسياً، وعاجز عسكرياً، وأي مغامرة جديدة قد تكلّفه الكثير... وهو يعلم ذلك جيداً".

من جانبه، يرى السبع أن حزب الله لا يسعى حالياً إلى الرد، بل يركّز على "مرحلة إعادة التقييم والاستعداد"، مشيراً إلى أن الحزب "رغم الخسائر، لا يزال يحتفظ ببنية عسكرية كبيرة، تفوق في بعض جوانبها إمكانيات الجيش اللبناني نفسه، لكنه في المقابل، يقرأ المشهد اللبناني الداخلي بدقة، ويدرك حساسية التزامات الدولة تجاه المجتمع الدولي، ولا سيما مع توقف خطوط إمداده من سوريا، ما يدفعه إلى التريّث في اتخاذ قرار المواجهة".

خريطة استراتيجية تغيرت

يرى الباحث نضال السبع أن الإسرائيليين يشعرون بالتفوق. يضيف "عزز هذا الانطباع عدد من العوامل، أبرزها سقوط النظام السوري كحليف استراتيجي، والتقدم الميداني في غزة، وعجز الحزب عن تنفيذ ضربات نوعية، فضلاً عن ازدياد عزلته السياسية في الداخل اللبناني، لا سيما بعد انتخاب جوزاف عون رئيساً للجمهورية وتشكيل نواف سلام للحكومة".

يشبّه السبع ما يجري اليوم في لبنان بالمشهد الذي أعقب حرب يوليو 2006، "حيث توقفت العمليات العسكرية رسمياً، فيما بدأت إسرائيل التحضير لما وصفته آنذاك بـ(المعركة الأخيرة)، مستغلة فترة الهدوء الطويل لإعادة التموضع وتكثيف الجهوزية".

يقول إن "حزب الله دخل مرحلة إعادة تقييم وتجهيز بعد سلسلة الضربات التي تلقاها في الأشهر الماضية، في حين تسعى إسرائيل إلى منعه من التقاط الأنفاس، عبر استمرارها في تنفيذ عمليات نوعية ودقيقة، تشبه إلى حدّ بعيد تلك التي نفذتها في الساحة السورية بعد العام 2011، عندما استباحت الأجواء السورية".

ويضيف أن "المشهد ذاته يتكرر اليوم في لبنان، حيث باتت الطائرات المسيّرة الإسرائيلية جزءاً من المشهد اليومي، تنفّذ عمليات اغتيال متتالية".

كسر البنية القيادية

لكن هل تؤثر هذه العمليات على بنية الحزب؟

يوضح السبع أن "الاستهدافات الأخيرة تطال كوادر داخل حزب الله، لكن الضربة الكبرى وقعت خلال حرب الشهرين، حين تعرّضت قيادات الصف الأول والثاني للاغتيال، أما اغتيال كوادر من الصف الثالث، فله تأثير محدود ولا يحدث خللاً جذرياً في الهيكل التنظيمي للحزب".

من جهته، يرى العميد المتقاعد جورج نادر أن أهداف إسرائيل من تصفية الكوادر العسكرية تلامس عمقاً استراتيجياً أكبر، موضحاً: "الرسالة الأساسية التي تبعث بها إسرائيل من خلال هذه العمليات هي التأكيد على قدرتها على استهداف أي عنصر أو قائد في حزب الله، وفي أي موقع داخل الأراضي اللبنانية، ما يكرّس واقعاً أمنياً جديداً تتحكم فيه بالمجال الجوي للبنان".

ويؤكد نادر أن وراء هذا الاستهداف "رسالة مباشرة مفادها أن لا أحد بمنأى، ما يترك أثراً نفسياً بالغاً على العناصر، ويقوّض شعورهم بالأمان".

خريطة استهدافات

رسمت إسرائيل، خلال السنوات الماضية، خريطة دقيقة لاستهداف قيادات حزب الله، عبر عمليات اغتيال شكّلت ضربة قاسية للحزب. ومن بين أبرز هذه العمليات، اغتيال ثلاثة من أمنائه العامين.

ففي 16 فبراير 1992، اغتيل عباس الموسوي، الأمين العام الأسبق لحزب الله، في غارة جوية استهدفت موكبه في جنوب لبنان.

وفي سبتمبر 2024، قتل حسن نصر الله، بصواريخ خارقة للتحصينات، في الضاحية الجنوبية لبيروت، وبعد أسابيع، في أكتوبر 2024، اغتيل هاشم صفي الدين، خلفية نصر الله، في عملية مماثلة.

وطالت الاغتيالات شخصيات بارزة في الجناح العسكري للحزب، أبرزهم عماد مغنية، الذي قُتل في فبراير 2008، إثر تفجير سيارة مفخخة في أحد أحياء دمشق، وفي مايو 2016، لقي مصطفى بدر الدين، خليفة مغنية مصرعه في تفجير استهدفه قرب مطار دمشق.

واغتيل فؤاد شكر، القائد البارز في وحدة "الرضوان"، في يوليو 2024، بواسطة طائرة استهدفته داخل مبنى سكني في الضاحية الجنوبية.

وفي سبتمبر 2024، لقي إبراهيم عقيل، عضو مجلس الجهاد والرجل الثاني في قيادة الحزب بعد مقتل شكر، المصير ذاته، إثر ضربة بطائرة استهدفته في الضاحية.

ويرى نادر أن "هذه الاغتيالات لا تكتفي بالتأثير الرمزي، بل تُحدث خللاً فعلياً في التراتبية القيادية داخل الحزب، إذ يصعب تعويض القادة المستهدفين بسرعة أو بكفاءة مماثلة، ما يربك الأداء الميداني والتنظيمي، ويجعل من عمليات الاغتيال أداة استراتيجية تستخدم لإضعاف حزب الله من الداخل".