تونس- احتجاجات
احتقان متصاعد في تونس

تحاول تونس الخروج من الانسداد السياسي الذي أفرزه الخلاف بين رئاسة الجمهورية والحكومة، لكن البلاد تعيش أزمة أكثر تعقيدا، جراء وضع اقتصادي هش، وتفشي وباء كورونا، وتراجع فرص "العيش الكريم" مع ارتفاع نسب البطالة.

حالة الاحتقان في البلاد التي انطلقت منها شرارة ثورات الربيع العربي، تعيد التذكير بظروف عاشها التونسيون قبل أكثر من 10 سنوات، وأدت إلى اندلاع "ثورة الياسمين"، إثر إضرام البوعزيزي للنار في جسده.

فما الذي يحدث في تونس؟

غضب

خلال الـ 48 ساعة الأخيرة فقط، انتفض تونسيون غضبا لوفاة شرطي مصاب بكورونا أمام مستشفى بمدينة القيروان وسط تونس، ولسجن أحد الباعة المتجولين.

وتداول مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي فيديو صادم للحظات اختناق واحتضار الشرطي قبل دقائق من وفاته. 

كما أثار اعتقال أحد الباعة المتجولين، استياء الشباب الذين تضامنوا معه على مواقع التواصل الاجتماعي، ما أعطى انطباعا بأن الأوضاع تدفع نحو شرارة "ثورة ثانية".

وكانت الشرطة التونسية قد أوقفت البائع المتجول الذي يبيع البطيخ على شاحنته، إثر انتشار مقطع مصور له على منصات التواصل الاجتماعي، وهو يرمي البطيخ أمام أحد مراكز الحرس الوطني بولاية بن عروس شمالي البلاد، احتجاجا على ما قال إنه ابتزاز من رجال الأمن ومحاولات لإجباره على دفع غرامة مالية.

أزمة صحية

إلى ذلك، تعيش تونس أزمة صحية خانقة، بسبب تداعيات وباء فيروس كورونا، الذي أجبرها على إعادة إغلاق أربعة ولايات منذ الأحد، لمواجهة الارتفاع الملحوظ في عدد الإصابات بفيروس كورونا، بينما وتيرة التلقيح لا تزال بطيئة للغاية.

والجمعة، كشفت الناطقة الرسمية باسم وزارة الصحة، نصاف بن علية في مؤتمر صحفي، أن معدل الوفيات اليومي جراء كورونا، بلغ خلال الأسبوع الفائت  83 وفاة يوميا، وقالت: "عدد الوفيات فاق كل التوقعات". 

ونهاية إبريل الفائت بلغ المعدل 89 وفاة في اليوم.

"العيش الكريم"

جائحة كورونا كذلك، كانت السبب وراء تراجع فرص العيش الكريم في تونس، إذ فقد الكثير من العاملين بالأجرة اليومية مناصبهم، وسط تراجع مداخيل قطاع السياحة، إثر الإغلاق العام الذي فرضته عديد الدول.

كما أن الكثير من أصحاب المشاريع الصغيرة والمتوسطة، خسروا ولم تعوضهم الدولة، وفق المحلل السياسي، بدر السلام الطرابلسي.

وفي حديث لموقع "الحرة" كشف الطرابلسي أن تونس تعيش وضعا "أكثر تعقيدا من الوضع الذي أدى إلى ثورة الشارع على بن علي قبل 10 أعوام".

الرجل ذكّر بأن الشعب ثار في 2011 من أجل الكرامة، بينما "كان الوضع الإقتصادي أفضل بكثير مما هو عليه الآن" وفق تعبيره.

وإزاء انسداد الآفاق وارتفاع البطالة، تضاعفت أعداد المهاجرين غير القانونيين من تونس في اتجاه السواحل الإيطالية وسجلت أرقاما قياسية منذ العام 2011.

ويُشكل المهاجرون التونسيون أكبر عدد بين جنسيات المهاجرين الذين وصلوا الى إيطاليا العام الماضي (حوالى 38 في المئة).

وتفيد أرقام وزارة الداخلية الإيطالية أن 12883 تونسيا وصلوا إلى إيطاليا في العام 2020، أي قرابة خمسة أضعاف مقارنة بعددهم في العام 2019.

احتقان سياسي

هذا الوضع، سببه الاحتقان السياسي، وفق الطرابلسي، الذي وصف المشهد التونسي على مستوى صناع القرار بـ"المتصلب" بسبب تمسك الفاعلين، كلٌ بموقفه، على حساب التنمية التي تبقى رهينة اتفاق سياسي، لم يحصل بعد.

الطرابلسي قال في الصدد: "الأطراف السياسية لا تسير في اتجاه الحل، كل طرف يريد أن يفرض أجندته السياسية ورؤيته، بينما تبقى الفئات الفقيرة والمتوسطة، هي الأكثر تضررا من هذا الانسداد" ثم تابع "في تونس اليوم لا يوجد لا دعم ولا تعويض في حال الخسارة".

جانب من احتجاجات في تونس العاصمة في 12 يونيو 2021

ومضى يقول: "إذا تواصل الوضع على هذا المنوال، والتصلب وعدم التنازل فإن الوضع سيذهب نحو الانفجار وعدم الاستقرار وربما انتفاضة ثانية بشكل وأهداف ربما أكثر راديكالية من 2010".

وكشف في سياق حديثه أن تونس تعيش نوعا من الطبقية "إذ هناك عائلات تحكم البلاد بطريقة ريعية وتختزل كل القوانين لخدمة نفوذها، على حساب  باقي الفئات الكادحة".

الوضع مختلف.. "تونس 2021 ديمقراطية"

لكن عضو هيئة الحقيقة والكرامة، عادل معيز، يرى بأن الوضع الآن مختلف، بالرغم من اعترافه بوجود أزمة متعددة الأوجه في تونس، تستوجب تكفلا سريعا.

وهيئة الحقيقة والكرامة، هي هيئة استحدثت خلال ولاية الرئيس، منصف المرزوقي، في 2014، مهمتها الإشراف على مسار العدالة الانتقالية في إطار الانتقال الديمقراطي في تونس بعد الثورة.

وتولت، ذات الهيئة، لسنوات، الكشف عن الحقيقة في مختلف الانتهاكات ومساءلة ومحاسبة المسؤولين المتورطين فيها.

معيز قال في اتصال مع موقع "الحرة" إن بالإمكان استدراك الوضع بالتكفل السريع بانشغالات المواطنين، خصوصا ما تعلق بالوضع الاجتماعي والأمن الغذائي.

وأشار في السياق إلى أن الفرق بين تونس في 2011 وتونس في 2021 وجود سلطة وهيئات منتخبة ديمقراطيا، وليس سلطة دكتاتورية، كما كان الوضع في عهد الرئيس زين العابدين بن علي.

لكنه أكد على ضرورة الاستعجال في التكفل بانشغالات المواطنين "وإلا سينفجر الوع إما في الخريف أو خلال الشتاء المقبل" إن استمر الوضع كما هو عليه.

الرئيس التونسي قيس سعيد عقد اجتماعا مع رئيس الحكومة بعد أربعة أشهر من الخلافات العميقة بشأن الصلاحيات
بيان "الإصلاحات السياسية".. هل تدخل الأطراف التونسية في حوار لحل الأزمة العميقة؟
بعد أربعة أشهر من الجمود السياسي التونسي، ونشوب خلافات عميقة بين رأسي السلطة التنفيذية، دعا الرئيس التونسي قيس سعيد، الثلاثاء، بعد اجتماع مع رئيس الحكومة هشام المشيشي، إلى حوار وطني، ما دعا إلى التساؤل حول مدى إمكانية الخروج من الأزمة. 

وبعد نحو أربعة أشهر من الجمود السياسي، وخلافات عميقة بين رأسي السلطة التنفيذية، دعا الرئيس التونسي قيس سعيّد، الأسبوع الماضي، إلى حوار وطني.

جاء ذلك بعد لقاء موسع جمعه برئيس الحكومة، هشام المشيشي، ورؤساء حكومات سابقين في محاولة لإيجاد مخرج للأزمة التي تعيشها البلاد.

غلاء فاحش في اسعار المواد الأساسية في تونس

ووضع خلاف سياسي بين قيس سعيد والمشيشي البلاد داخل دوامة من التجاذبات، عطلت مسيرة التنمية، وفق متابعين.

وانتهجت البلاد في أعقاب ثورة 2011 نظاما سياسيا هجينا بين البرلماني والرئاسي ما ساهم في تعميق الخلافات بين رأسي السلطة فيما يتعلق بالصلاحيات الدستورية.

الرئيس التونسي، قيس سعيد (فرانس برس)
الرئيس التونسي، قيس سعيد (فرانس برس)

تزداد الضغوط السياسية في تونس من قبل الأحزاب الموالية والمعارضة لعقد حوار وطني يخرج البلاد من أزمتها، وسط تمسك الرئيس التونسي، قيس سعيد، برفض هذه الخطوة بذريعة أن الحوار "لا يكون مع من سرقوا البلاد ونهبوها".

آخر هذه الدعوات إلى حوار وطني جاءت من حزب "العمل والإنجاز"، وهو أحد مكونات جبهة الخلاص الوطني، إذ طالب في بيان له في 6 فبراير الجاري "كافة القوى السياسية إلى الحوار والتعاون من أجل إخراج البلاد من أزمتها متعددة الأبعاد، التي تهدد حاضرها ومستقبل أجيالها القادمة".

وقبل ذلك بأيام، طرحت "حركة حق" التونسية (تضم ثلاثة أحزاب) مبادرة وطنية دعت فيها إلى حوار وطني شامل يحقق انفراجا سياسيا في البلاد، مؤكدة ضرورة أن تكون هذه المبادرة وطنية جامعة تعيد بناء الثقة بين مختلف الأطراف وتفتح مسارا جديدا نحو الاستقرار والتنمية.

ومن بين الأحزاب الداعمة للنظام التي تتمسك بإجراء وطني، حزب التيار الشعبي الذي طالب، في يناير الماضي، السلطة "الخروج من حالة الانغلاق السياسي ومد جسور التواصل مع جميع الأحزاب والهيئات المهنية والمنظمات والفعاليات الشعبية والنخب الثقافية والإعلامية والأكاديمية الوطنية المناهضة للرجعية والهيمنة والمؤمنة بالديمقراطية والسيادة".

وتأتي هذه الدعوات في ظرف تشهد فيه البلاد ارتفاع نسق الاحتجاجات المطالبة بالتشغيل، وأزمة سياسية حادة، عمّقتها أحكام قضائية "ثقيلة" بالسجن في حق قيادات سياسية وأمنية وصحفيين. 

وفي رده على الطلبات المتزايدة للأحزاب ونواب البرلمان والمنظمات الوطنية من ضمنها الاتحاد العام التونسي للشغل بضرورة إجراء حوار وطني، أكد سعيد أن " الحوار لا يكون من سرقوا البلاد ونهبوها"، بعد أن  قال سابقا إن البلاد في حاجة إلى "وحدة وطنية صمّاء".

موقف الرئيس فتح جدالا بشأن أسباب تمسكه بعدم إجراء حوار وطني لتهدئة الأوضاع المحتقنة في البلاد، وتداعيات هذه الخطوة على هذا البلد المغاربي.

الاستفراد بالرأي

تعليقا على هذا الموضوع، يرى القيادي في "جبهة الخلاص الوطني" (ائتلاف حزبي معارض)، رياض الشعيبي، أن إصرار سعيد على رفض الحوار الشامل يعكس رغبة السلطة في إقصاء كل القوى السياسية في البلاد والاستفراد بالرأي وعدم الانصات لمختلف المطالب وعدم الانصات للمطالب السياسية والاجتماعية والاقتصادية لمختلف الفاعلة في تونس.

وقال الشعيبي، لموقع "الحرة"، إن المعارضة لا تستغرب من موقف النظام وتعتبر أن السلطة لاتزال ماضية في سياسة التعسف والاستبداد واعتقال المعارضين ومحاولة إقصاء كل رأي مخالف.

وأضاف أن " الأخطر من هذا الوضع، هو معاناة العشرات من المعتقلين منذ سنوات في السجون التونسية من أوضاع صحية واجتماعية صعبة، على خلفية قضايا مفبركة ولا أساس لها من الصحة".

ولفت إلى أن السلطة محرجة في هذا الملف ورغم ذلك لاتزال مصرة على تشديد الأحكام وتوسيع دائرة الاعتقالات.

وكانت جبهة الخلاص الوطني قدد نددت في بيان الأربعاء بتدهور الوضع الصحي للمعتقلين نور الدين البحيري ومنذر الونيسي، مشيرة إلى أنهما يرقدان بمستشفيات تونس العاصمة لتلقي العلاج.

وفي هذا الخصوص، يعتبر رياض الشعيبي أن ما يحدث يأتي في سياق "السياسة التنكيلية التي تنتهجها السلطة تجاه المعارضين"، مشددا على أن من مبررات رفض سعيد للحوار هو عدم فتح الملفات الحقوقية وإطلاق سراح المعتقلين.

في المقابل، اتهم سعيد في مناسبات عديدة خصومه السياسيين بـ"التآمر على أمن الدولة ومحاولة تفجير الأوضاع في البلاد"، وهي اتهامات تخللتها حملة اعتقالات واسعة طالت قيادات سياسية ورجال أعمال و صحفيين في تونس.

من جانبه، أكد أمين عام حزب "حراك 25 جويلية/يوليو" (داعم للسلطة)، محمود بن مبروك، أن الأحزاب المؤيدة للنظام طالبت بحوار وطني يقتصر على من يؤيدون خطوات الرئيس والمسار الذي انتهجه منذ إعلانه الإجراءات الاستثنائية في 25 يوليو 2021.

الرئيس في حوار مع الشعب

ويرجع بن مبروك، في حديثه لموقع "الحرة"، أسباب رفض سعيد لحوار وطني، إلى ما قال إنه " رفض للتحاور مع من كانوا سببا في تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في البلاد خلال العشرية السوداء" مؤكدا أن سعيد في "حوار مباشر ودائم" مع الشعب ويستمع إلى مشاغل التونسيين وتلبية احتياجاتهم.

ونفى المتحدث وجود أزمة سياسية في تونس، مشددا على أن سعيد أوفى بتعهداته السياسية من خلال إجراء كل المحطات الانتخابية في مواعيدها وإرساء برلمان في انتظار إجراء آخر استحقاق انتخابي يتعلق بالمجالس البلدية.

وتابع في هذا السياق، أن الحوار الذي تدعو إليه أحزاب المعارضة في تونس "يهدف إلى إعادة إحياء المنظومة السابقة التي رفضها الشعب وتجاوزها الزمن".

ولفت، في المقابل، إلى أن الأحزاب المؤيدة للسلطة في تواصل دائم مع النظام وتقدم مقترحاتها بشأن معالجة الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في البلاد.

وما بين مطالب الأحزاب وموقف النظام في تونس من الحوار الوطني، تصاعد نسق الحراك الاحتجاجي الاجتماعي في البلاد خلال يناير 2025 بنحو 181% مقارنة بنفس الفترة من السنة الماضية. 

وقفز من 137 تحركا احتجاجيا خلال يناير 2024 الى 386 تحركا احتجاجيا خلال يناير هذا العام، وفق احصائيات المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية (غير حكومي).

"أزمة متأصّلة"

من جانب آخر، يرى المحلل السياسي خالد كرونة أن الأزمة التي تعيشها تونس متأصّلة وليست ظرفية، وذلك في ظل عجز السلطة عن إيجاد حلول للقضايا الاقتصادية والاجتماعية.

ومن هذا المنطلق، قال كرونة في حديثه لـ "الحرة" إن أمر الحوار الوطني بات وراء ظهور التونسيين، وماهو إلّا مدخل اتخذته المعارضة لتحاول استعادة المبادرة السياسية في البلاد.

وتبعا لذلك، اعتبر المتحدث  "أن الاتجاه العام، يؤكد أن خواء برامج المعارضة وانكفاءها ضمن مربع الاحتجاج الحقوقي، سيترك المجال رحبا أمام السلطة لتستمر في رسم السياسات العامة رغم ضغوطات المديونية وتفشي البطالة وتزايد مؤشرات الفقر".