تتجه الأزمة السياسية في تونس إلى مرحلة جديدة من التعقيد والانسداد، بعد قرار الرئيس قيس سعيّد، الجمعة، بإحداث لجنة للإعداد لمشروع تنقيح دستور "جمهوريّة جديدة" عبر "حوار وطني" وأقصى منه الأحزاب السياسيّة في البلاد.
وتتكون اللجنة، التي يرأسها أستاذ القانون صادق بلعيد، من عمداء القانون والعلوم السياسية. وقالت الجريدة الرسمية إنه يتعين على اللجنة تقديم تقريرها في 20 يونيو إلى رئيس البلاد.
ويتهم المعارضون الرئيس التونسي بمحاولة تعزيز "حكم الرجل الواحد". ويرفض سعيد هذه الاتهامات ويقول إنه ليس ديكتاتورا وإنه يريد تغيير تونس بعد "عقد من الخراب".
ويرى عضو شورى حركة النهضة، جلال الورغي، أن هذا القرار "يكرس رؤية سعيد للانفراد بالسلطة، والمسار الانفرادي الذي اتبعه منذ قرارات 25 يوليو".
وأضاف الورغي في حديثه مع موقع "الحرة" أن هذه الخطوة "تزيد من عزل الرئيس التونسي عن الشعب والأحزاب"، مشيرا إلى أن سعيد "بدأ قويا في 25 يوليو، وكان حوله الكثير من الأحزاب والقوى، لكن الآن الكل انفض من حوله".
"خرق للقانون"
وقال النائب بالبرلمان المنحل عن حزب الدستوري الحر، وسام الشعري، إنهم يرفضون هذا القرار، ويعتبرونه "خرقا واضحا للقانون والدستور" في البلاد.
وأضاف الشعري في حديثه مع موقع "الحرة" أن هذا القرار يعتبر "إلغاء لحق الشعب في كتابة دستوره"، مطالبا القضاء بالتدخل لوقف "اختطاف الدولة" من جانب الرئيس سعيد.
من جانبه، قال المحلل السياسي والأكاديمي، خالد عبيد، إن هذا القرار "خاطئ؛ لأنه يؤكد أن الرئيس قيس سعيد يريد أن يمضي لوحده في خارطة الطريق".
وأضاف عبيد في حديثه مع موقع "الحرة" أن هذا القرار يزيد من قناعة العديد من التونسيين بأن سعيد "يريد أن يتصرف لوحده وينفرد بالقرار دون أن يرجع لأهل الخبرة والنصيحة"، مشيرا إلى أنه يريد أن يمضي في مشروعه الذي يستبعد الأحزاب من المشهد السياسي.
وأكد أنه كان يجب إشراك الأحزاب التي ساندت حراك وقرارات 25 يوليو على الأقل في هذه اللجنة. وقال عبيد إن رفض القوى المدنية وفي مقدمتها الاتحاد العام للشغل لقرارات سعيد "يضيق الدائرة عليه"، مؤكدا أنه إذا واصل بهذه الطريق "فقد لا ينجح في تمريرة خارطة طريقه"، بحسب رأيه.
وبحسب المرسوم الجمهوري، تتفرّع هيئة إعادة الدستور لجان ثلاث، هي "اللجنة الاستشاريّة للشؤون الاقتصاديّة والاجتماعيّة" و"اللجنة الاستشاريّة القانونيّة" و"لجنة الحوار الوطني".
وتقوم "اللجنة الاستشاريّة للشؤون الاقتصاديّة والاجتماعيّة" بتقديم مشاريع إصلاحات اقتصاديّة واجتماعيّة تضمّ المنظّمات الكبرى في البلاد، من بينها الاتّحاد العام التونسي للشغل (المركزيّة النقابيّة) والرابطة التونسيّة للدفاع عن حقوق الإنسان ويرأسها عميد المحامين إبراهيم بودربالة الداعم لقرارات سعيّد. أمّا "اللجنة الاستشاريّة القانونيّة" فتضمّ أكاديميّين يُعيّنون بمرسوم رئاسي.
وفي أول رد فعل على تعيين الرئيس هيئة استشارية لإعداد دستور جديد واقتراح إصلاحات اقتصادية وسياسية قال الاتحاد العام التونسي للشغل إنه يرفض المقترحات.
"قرار استثنائى"
وفي المقابل، يقول المحلل السياسي نزار الجليدي إنه "قرار غير مقبول سياسيا، ولا يمكن وضع تصور لجمهورية جديدة بمعزل عن الأحزاب"، لكنه أكد أنه قرار "استثنائي في ظروف استثنائية يستمد شرعيته من الشعب فهو قرار صادر باسمه".
ويرى الجليدي في حديثه مع موقع "الحرة" أن هذه لجنة استشارية تقنية لوضع تصور للجمهورية الجديدة، وتضم عددا محدودا من الخبراء في مختلف المجالات، وأشار إلى أن الحوار المنتظر إطلاقه من طرف رئاسة الجمهورية سيكون نقاشا حول مخرجات هذه الهيئة والدستور المقترح من طرفها لاعتماده رسميا وطرحة للاستفتاء.
وقال إن هذا القرار "يحظى بدعم شعبي كبير، خاصة بعد انعدام الثقة في المنظومة الحزبية".
وذكر المتحدث باسم "تنسيقية تحالف أحرار" أحمد الهمّامي، في تصريحات سابقة لفرانس برس أن "الشعب كره الأحزاب التي كانت سببا في عشرية سوداء في تونس والمحاسبة هي أساس بناء الدولة الجديدة وندعو كل القوى في البلاد التسريع في موضوع المحاسبة".
كان سعيد أصدر في 25 يوليو الماضي، قرارا بحل الحكومة، وتجميد عمل البرلمان، وهو ما اعتبره حزب النهضة، الذي كان له أكبر الكتل البرلمانية، "انقلابا على الدستور وعلى الثورة". بينما قال سعيد إن أفعاله "دستورية وضرورية لإنقاذ تونس من سنوات الشلل السياسي والركود الاقتصادي الذي تسببت فيه نخبة فاسدة تخدم مصالحها الخاصة".
وأعلن سعيّد نهاية العام 2021 عن خارطة طريق سياسية تضمنت استشارة وطنية الكترونية انطلقت مطلع العام الحالي وانتهت في مارس الفائت وشارك فيها أكثر من 500 ألف تونسي قدموا مقترحاتهم وأجوبة على أسئلة تتعلق بالنظام السياسي في البلاد ومواضيع أخرى تشمل الوضع الاقتصادي والاجتماعي ووصفها الرئيس "بالناجحة".
ومن المنتظر أن تعمد لجنة إلى جمع مقترحات المواطنين ووضع الخطوط العريضة لاستفتاء على الدستور في 25 يوليو المقبل. وتنظم في 17 ديسمبر 2022 انتخابات نيابية جديدة تزامنا مع ذكرى ثورة 2011 التي أطاحت نظام الديكتاتور الراحل زين العابدين بن علي.
وتسارعت وتيرة تعزيز سعيد لسلطته هذا العام بعد حله المجلس الأعلى للقضاء وتهديده بفرض قيود على جماعات المجتمع المدني مما أعطى الرجل البالغ من العمر 64 عاما سيطرة شبه كاملة، بحسب رويترز.
وعين سعيد أيضا هذا الشهر هيئة انتخابات جديدة مسيطرا على واحدة من آخر الهيئات المستقلة في تونس ومثيرا شكوكا بشأن نزاهة الانتخابات. كما رفض فكرة حضور مراقبين دوليين لمراقبة الانتخابات، وقال "يطالبون بإرسال مراقبين أجانب وكأننا دولة محتلة".
ويعتقد عبيد أن هذه المخاوف "في غير محلها"، وقال: "الهيئة لم تكن مستقلة في الماضي، وكانت مخترقة من بعض الأحزاب"، مشيرا إلى أن اللجنة الحالية تبث مباشرة كل جلساتها، وتوضح لكل ما يحدث داخلها.
مظاهرات
وذكر عضو حزب الدستوري الحر إنهم سينظمون وقفة احتجاجية ضد هذا القرار أمام المحكمة الإدارية السبت القادم، تتحول إلى مسيرة شعبية تطوف العاصمة تونس
وتشهد تونس مظاهرات أسبوعية بين مؤيدة ومعارضة لسعيد، والأحد الماضي، شارك أكثر من ألفي تونسي في أول تظاهرة تنظمها "جبهة الخلاص الوطني" التي شكلتها مؤخرا خمسة أحزاب معارضة للرئيس قيس سعيّد وأبرزها خصمه اللدود حزب النهضة.
جاءت هذه المظاهرة بعد أسبوع من وقفة مؤيدة لسعيد، شارك فيها المئات من التونسيين، ودعوه إلى "محاسبة قضائية" للأحزاب السياسية، التي كانت في الحكم خلال السنوات العشر الفائتة.
وأكد عبيد أن هذه المظاهرات "محدودة ولا يمكن اعتبارها مقياسا للوضع السياسي في البلاد أو مقياسا لمدى شعبية الرئيس قيس سعيد".
ويعتقد الورغي أن سعيد بهذه الطريقة لن يستطيع المضي قدما في خارطة طريقه بدون التوافق مع الأحزاب، وأكد أنهم في حركة النهضة وغيرها من الأحزاب المعارضة سيصعدون الحراك الشعبي خلال الفترة القادمة، مشددا على رفضهم لأي محاولات لتأجيج العنف أو الصراع.
وأكد أن النهضة وغيرها من الأحزاب لن تشارك في انتخابات قادمة، كما استبعد أن تجرى هذه الانتخابات في موعدها.
فضلا عن المأزق السياسي، تغرق تونس في أزمة اقتصادية خطيرة مع تباطؤ النمو وازدياد البطالة وتسارع التضخم الذي تفاقمه الحرب في أوكرانيا والمديونية المفرطة التي دفعتها إلى طلب قرض جديد من صندوق النقد الدولي.
ويرى عبيد أن الذي سيحدد مصير خارطة الطريق ومستقبل قيس سعيد هو مدى قدرة الرئيس والحكومة على حلحلة الأزمة الاقتصادية في البلاد.
وقال الجليدي: " التونسيون لم تعد تعنيهم السياسة، ولا من يحكم أو يتحكّم بعد الانتصار على الاخوان إنما همهم اليوم هو القدرة الشرائية المتدنية والخدمات الاجتماعية التي تشهد تراجعا رهيبا، إضافة إلى التي أصبحت عاملا معرقلا للتنمية في البلاد".