لا تزال النسبة المتدنية التي حظيت بها الانتخابات التشريعية في تونس، تحظى بجدل واسع في الشارع، رغم أن الحكومة سعت بوسائل مختلفة لزيادة نسبة المشاركة في الجولة الثانية.
ومساء الاثنين، قلل الرئيس التونسي، قيس سعيد، من شأن انخفاض نسبة المشاركة في الانتخابات البرلمانية، معتبرا أنها "يجب أن تقرأ بشكل مختلف".
وتكررت في الجولة الثانية من الانتخابات البرلمانية التونسية، الأحد، نسبة المشاركة المنخفضة التي شهدتها الجولة الأولى في ديسمبر، حيث لم تتجاوز 11.3 في المئة بحسب نتائج أولية، أعلنتها هيئة الانتخابات، التي عينها سعيد نفسه.
ودعت أحزاب المعارضة سعيد إلى الاستقالة بعد ما وصفته "بالفشل الكبير" في الانتخابات قائلة إن الانتخابات البرلمانية والرئاسية المبكرة ستكون السبيل الوحيد للخروج من الأزمة.
لكن سعيد رفض اتهامات من وصفهم "بالخونة"، معتبرا أن الإقبال المتدني للغاية في الانتخابات البرلمانية يظهر أن التونسيين لم يعد لديهم ثقة في البرلمان، بسبب "العبث" الذي حصل فيه خلال العقد الماضي، رافضا اعتبار ذلك دليلا على تراجع شعبيته.
"حزينة لقلة الوعي"
وأعربت أُنس الطبيب (30 عاما) أنها تتفق مع رؤية سعيد في أن "التجربة السيئة للبرلمان السابق قبل حله جعلت ثقة الناس تنعدم في المؤسسات الديمقراطية"، معبرة عن حزنها لـ"قلة وعي الشعب الذي فرط في صوته والمشاركة في حدث تاريخي" بحسب قولها.
وشاركت الطبيب، وهي مهندسة ديكور، في الانتخابات بجولتها الأولى، ولم تشارك في الثانية بسبب التزامات مهنية، ولبعد المسافة بين مركز الاقتراع وبين المدينة التي تسكن فيها حاليا، "ولأنه فاز بالجولة الأولى اثنان، كنت أريد أن يصبح أحدهما عضوا في البرلمان في النهاية". بحسب ما صرحت به لموقع "الحرة".
لحسن حظ الطبيب، فقد ترشح 8 أشخاص بدائرتها في مدينة بن عروس، الكائنة في ولاية تحمل نفس الاسم، في حين لم يتقدم إلا مرشح واحد في دوائر أخرى.
وتقول: "لم أكن أعرف أيا من المرشحين، لكنني سألت أصدقائي عنهم، حتى تكونت لدي فكرة جيدة عن ثلاثة منهم، فشاركت في الجولة الأولى على أمل أن يفوز واحد، وعندما أصبحت الجولة بين اثنين من الثلاثة، كنت أريد أن يفوز أيا منهما، لكنني كنت أريد التصويت أيضا لزيادة النسبة العامة للمصوتين".
"لم أجد من يمثلني"
وعلى عكس الطبيب، كانت سارة بغاشا (28 عاما) تعرف المترشحين في دائرتها "صفاقس 2" جيدا وقريبة منهما، بحسب قولها,
لكنها تصفهما بأنهما كانا "ضعيفين للغاية لدرجة أنني لم أكن مقتنعة بأن أيا منهما يمكن أن يمثلني في البرلمان، مما أدى إلى مقاطعتي للانتخابات برمتها".
وقالت لموقع "الحرة": " لم أكن قد اتخذت قرارا بمقاطعة الانتخابات في البداية مهما كانت الظروف حين أعلن الرئيس عن إجراء انتخابات نيابية، لكن عندما علمت أسماء المترشحين ضحكت، أحدهما محامي سابق والآخر رجل أعمال، وتساءلت عن كيفية أن يرشحا أنفسهما للبرلمان، خاصة أنني أعرفهما ومطلعة على حياتهما المهنية جيدا، ولم أشعر أنني قادرة على منح أيا منهما صوتي وهما ليس لديهما أي مشروع".
"احتجاج على سعيد"
أما سعد بن لعمار (42 عاما) فكان قد قرر مقاطعة الانتخابات برمتها "احتجاجا على سياسة قيس سعيد في إدارة البلاد منذ أن سيطر على كل السلطات بيده قبل عام ونصف، واعتراضا على تغيير الدستور ونظام الحكم في البلاد".
وقال بن لعمار لموقع "الحرة": "لماذا أذهب للانتخابات وأنا أعلم أن هذا البرلمان لن تكون له صلاحيات، ولن يستطيع تشكيل حكومة، أو تغيير الدستور، أو حتى إصدار قوانين لها علاقة بالاقتصاد".
وحل سعيد، الذي انتُخب بأغلبية ساحقة عام 2019، البرلمان العام الماضي، بعد تجميد عمله في صيف 2021. وبعد ذلك سيطر على معظم السلطات وأعاد كتابة الدستور ومرر نسخة جديدة صاغها بنفسه العام الماضي من خلال استفتاء.
ورغم الانتقادات الواسعة لخطواته الفردية، قال سعيد إنه سيمضي قدما ولن يتراجع خطوة للوراء.
وأضاف أن أفعاله كانت قانونية وضرورية لإنقاذ تونس من ركود اقتصادي ومشاحنات سياسية مستمرة لسنوات، ووصف خصومه بالخونة ودعا إلى اتخاذ إجراءات ضدهم.
وعزا بن لعمار مشاهد مراكز الاقتراع شبه الفارغة من الناخبين إلى استياء الرأي العام من سيطرة سعيد على سلطات واسعة منذ منتصف عام 2021، وعلى تغيير الدستور ونظام الانتخابات، معتبرا أن "ممارسات قيس سعيد غير دستورية، ولا تحترم الحقوق ولا الحريات".
نظام جديد
وقال: "من المفترض أن يكون البرلمان ممثل الشعب ويعمل على إيصال صوته، كيف يكون منزوع الصلاحيات بهذا الشكل ولا يمكنه أن يفعل شيئا".
وكان النظام السابق يقضي بأن يكون للبرلمان سلطة اختيار الحكومات التي تضع سياسة الدولة وتدير شؤون البلاد اليومية. ولم يكن الرئيس مسؤولا بشكل مباشر إلا عن الشؤون الخارجية والدفاع.
لكن قواعد سعيد الجديدة تجعل البرلمان خاضعا للرئيس الذي يضطلع الآن بمسؤولية تشكيل الحكومة وإقالتها. وتحد القواعد أيضا من دور الأحزاب السياسية، إذ يجري إدراج أسماء المرشحين للبرلمان بأسمائهم فحسب، دون الإشارة إلى انتمائهم الحزبي.
وترى بغاشا أن النظام الجديد لا يشجع الناس على المشاركة، "حسب رأي ما كان يشجع الناس هو التنافس بين الأحزاب، ما بين الإسلامية وغيرها، لكن الانتخابات الأخيرة لم يكن فيها هذا المناخ من الحماس والتنافس".
وتضيف بغاشا: "قبل ذلك كان على الأقل لدينا خيار التصويت لقوائم على أساس الحزب، فيمكنني حينها انتخاب القائمة التي تتفق مع مبادئي إلى حد ما، حتى لو كان الأشخاص فيها عليهم بعض الملاحظات".
لكن الطبيب ترى أن معارضي النظام الجديد "قلة قليلة، معظمهم من النواب السابقين الذين أزيحوا من مناصبهم أو فقدوا أنصارهم"، معتبرة أنهم "كانوا يستخدمون البرلمان لمصالحهم الشخصية".
ومثل تحدث الرئيس، عزت الطبيب المشاركة المتدنية في جولتي الانتخابات إلى "عدم ثقة الناس في البرلمان بسبب تجربتهم السيئة مع المجلس السابق الذي كان عبارة عن "مسخرة"، على حد قولها.
ولطالما اتهم سعيد نوابا في البرلمان السابق بتلقي مبالغ طائلة مقابل تمرير القوانين. وقال إنه بات مسرحا للعراك والتوتر، وابتعد عن خدمة مصالح التونسيين.
ورفضت الطبيب، فكرة المعارضة بأن نسبة المشاركة الضعيفة بمثابة احتجاج شعبي على خطوات سعيد، وقالت: "نصف الناس لم يقرأوا الدستور الجديد أساسا، لم يعد يهمهم البرلمان ولا حتى الرئيس ولا الحكومة"، مضيفة أن "الشعب مهتم فقط حاليا بتدبير معيشته، ولم يعد تعنيه الأمور السياسية رغم أنها المفتاح لحل المشكلات الأخرى، سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية".
لكن بغاشا قالت إن "الرئيس نفسه كان يراهن على الجولة الثانية وارتفاع نسبة المشاركة في التصويت، لكن عندما لم يحدث ذلك أراد تبرير الفشل بأمور أخرى، بدلا من أن يراجع نفسه".
وأضافت: "لو كانت قد حدثت إصلاحات حقيقية، وكان هناك مناخ اجتماع سياسي واقتصادي مستقر، وليس هناك ارتفاع في الأسعار، كانت المشاركة ستكون أكبر. لكن في هذه الظروف، من الطبيعي أن تفشل الانتخابات، إذ جاءت في وقت غير مناسب تماما نعاني فيه من فقدان المواد الأساسية وغلاء المعيشة".
وفي الوقت الذي غابت فيه الطوابير عن مراكز الاقتراع في الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية، الأحد، كان التونسيون منشغلون بالوقوف أمام المتاجر القليلة التي تعرض مخزونا ضئيلا من السكر والأرز والدقيق والحليب للحصول بالكاد على ما يكفي عائلاتهم.
ومع نسبة تضخم تزيد عن 10 في المئة، ارتفعت بطالة الشباب إلى 37.8 في المئة في الربع الثالث من عام 2022، بعد أن كانت 35.4 في المئة في 2019، حين وصل سعيد إلى الحكم.
وقالت بغاشا: "كانت آمالنا بعد حل البرلمان أن تصير الحياة أفضل وأن تكون هناك محاسبة، ورغم أن أفكار قيس سعيد أعجبتني لكن مشروعه لم يأت بثماره والدليل الانتخابات الفاشلة وبات الشعب يخشى من الغد ومن ارتفاع الأسعار قبل شهر رمضان، ليس هناك حديث للناس سوى غلاء المعيشة".
وبدا أن العديد من التونسيين قد رحبوا في البداية بسيطرة سعيد على السلطة في 2021، بعد سنوات من الائتلافات الحاكمة الضعيفة التي بدت غير قادرة على إنعاش الاقتصاد المحتضر أو تحسين الخدمات العامة أو الحد من التفاوتات الصارخة.
لكن سعيد لم يقدم أي أجندة اقتصادية واضحة باستثناء التنديد بالفساد والمضاربين الذين لم يكشف عن أسمائهم، والذين ألقى باللوم عليهم في ارتفاع الأسعار.
وعلى مدى العقد الماضي، كان البرلمان قويا ومؤثرا وعين حكومات وقام بعزلها. ورغم التوتر السياسي الذي شهدته البرلمانات السابقة بعد الثورة، فقد كان لديها القدرة على عزل الرئيس ومحاسبة جميع المسؤولين.
وعلى عكس البرلمان السابق، سيكون للبرلمان الجديد المنتخب سلطات محدودة. وسيكون تشكيل الحكومات وإقالتها بيد رئيس الجمهورية.