تزامنا مع اتهامات جديدة من الرئيس، قيس سعيّد، لبعض منظمات المجتمع المدني بتلقي "تمويلات مشبوهة"، أوقفت السلطات التونسية، خلال اليومين الماضيين، ثلاثة ناشطين حقوقيين يعملون في الجمعيات العاملة بمجال الهجرة والدفاع عن المهاجرين.
وأمر القضاء التونسي، الثلاثاء، بالتحفظ على سعدية مصباح وهي ناشطة بارزة ورئيسة منظمة "منامتي" التي تناهض العنصرية وتدافع عن حقوق المهاجرين، بعد يوم واحد فقط من إصدار بطاقة إيداع بالسجن، في حق رئيس "مجلس اللاجئين التونسي" ونائبه.
وقالت وسائل إعلام محلية، إن القضاء بدأ سلسلة تحقيقات تشمل منظمات تدافع عن المهاجرين، في خطوة يصفها منتقدون بأنها تهدف إلى "التضييق على عمل هذه الجماعات ووقف أنشطتها"، في خضم تصاعد الجدل بشأن أوضاع المهاجرين بالبلاد.
غموض
المحامية التونسية، حميدة الشايب، أكدت أنه جرى خلال الأيام القليلة الماضية إيقاف رئيسة جمعية "منامتي" ورئيس "المجلس التونسي للاجئين"، ونائبه، بينما يجري التحقيق مع جمعية "تونس أرض اللجوء".
وتضيف الشايب في تصريح لموقع "الحرة"، أن "الاستجوابات لا تزال جارية، والتهمة الموجهة تتمثل في مساعدة المهاجرين من دول أفريقيا جنوب الصحراء في التوطين والبقاء بتونس وارتكاب مخالفات مالية".
وأوضحت جمعية "منامتي" في بيان، "أن فرقة أمنية، أوقفت، الاثنين، الرئيسة سعدية مصباح بعد تفتيش منزلها هي وعائلتها، ومن ثم اقتيادها مع مدير المشاريع زياد روين إلى مقر الجمعية الذي وقع تفتيشه أيضا، كما تم التحقيق معهما لساعات متأخرة من الصباح، من ثم تم اطلاق سراح زياد روين والاحتفاظ بسعدية مصباح على ذمة التحقيق".
كما أكدت الجمعية، رفضها أن "نكون كبش فداء وشماعة لغياب مقاربة وحلول وطنية لمسألة الهجرة غير المنظمة"، مطالبة بالإفراج الفوري وإيقاف كل المتابعات في حق "منامتي" ومصباح.
وبينما لم تعلن السلطات التونسية بعد أسباب القرار، رجح بسام الطريفي، رئيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، أن "يكون البحث في إطار التثبت من التمويلات التي تتلقاها الجمعية"، وذلك في تصريحات لإذاعة "إكسبرس أف أم".
بدورها، كشفت المحامية التونسية، أن الفرقة الأمنية المختصة بالجرائم المالية والمتشعبة هي التي تحقق مع مصباح، كاشفة أن هذه الأخيرة ستبقى "رهن التحقيق لمدة 5 أيام، ولا نزال لا نعرف مآل التحقيقات، حيث تبقى الأمور غامضة، وننتظر نتائج التحقيق".
وتأتي التطورات الأخيرة في وقت تعاني فيه تونس من أزمة هجرة محتدمة بسبب تدفق الآلاف من المهاجرين من دول أفريقيا جنوب الصحراء على البلاد، سعيا للعبور إلى السواحل الأوروبية في رحلات بالقوارب عبر البحر المتوسط.
والثلاثاء، أصدر القضاء التونسي بطاقة إيداع بالسجن في حق رئيس المجلس التونسي ونائبه، على خلفية "نشر طلب عروض لإيواء مهاجرين بالنزل التونسية".
وكشف عميد قضاة التحقيق بالمحكمة الابتدائية بتونس، أن القرار يأتي بعد فتح تحقيق من النيابة العمومية بشأن "تكوين وفاق لمساعدة شخص على دخول تونس"، كاشفا أنه "تم الاستماع للمتهمين يوم الجمعة الماضي واحتجازهما 48 ساعة، قبل تمديد فترة الاحتجاز ثم إيداعهما السجن، الثلاثاء".
وأثار نشر المجلس التونسي للاجئين، وهي منظمة غير حكومية تأسست عام 2016، طلب عروض على إحدى الصحف في 2 مايو الجاري، موجه لفائدة النزل التونسية لإيواء لاجئين، جدلا في الأوساط التونسية. وكان الموضوع في صلب نقاشات نواب بالبرلمان، الأسبوع الماضي.
في هذا الجانب، أوضح الناطق باسم المحكمة، أن الجمعية تأسست بأهداف مساعدة طالبي اللجوء لا المهاجرين غير النظاميين، مشيرا إلى وجود فرق بين الفئتين. كما لفت إلى أن التحقيق سيشمل شبهات اختلاس وسوء تصرف داخل الجمعية.
بدورها، اعتبرت الشايب، أن النشطاء الحقوقيين بتونس "يواجهون تهما خطيرة بسبب دفاعهم عن المهاجرين الأفارقة جنوب الصحراء"، مشيرة إلى أن "هناك تضييقا على عمل الجمعيات، بداية بمحاولة تغيير المرسوم المتعلق بالجمعيات، مرورا بإغلاق مكاتب وصولا إلى الإيقافات الأخيرة".
وتوضح المحامية التونسية أن "التهم كلها ترتبط بموضوع حصول الجمعيات على أموال من أوروبا بصفة خاصة، ومساعدة المهاجرين على البقاء على الأراضي التونسية"، مشيرة إلى أن الواجب الإنساني والذي تأسست لأجله هذه الجمعيات يتمثل في الدفاع عن حقوق المهاجرين وحرية تنقلهم واحترام كرامتهم الإنسانية.
بين التخوين ورفض التضييق
وتتزامن القرارات القضائية الأخيرة مع تصريحات للرئيس التونسي، قيس سعيّد، هاجم فيها منظمات تدافع عن حقوق المهاجرين.
وقال سعيّد، الاثنين، خلال اجتماع لمجلس الأمن القومي، إن "الجمعيات التي تتباكى اليوم وتذرف الدموع في وسائل الإعلام تتلقى بدورها أموالا طائلة من الخارج". وأضاف "الذين يقومون على هذه الجمعيات أكثرهم خونة وعملاء، وعلى الهيئة المكلفة بالتحاليل المالية أن تقوم بدورها".
وأشار سعيّد مرارا إلى "التمويلات المشبوهة" للمنظمات الناشطة في بلاده، داعيا إلى التحقيق فيها.
وسبق أن كرّمت الخارجية الأميركية، سعيدة مصباح المعروفة بدفاعها منذ عقود عن حقوق الأقلية من ذوي البشرة السوداء في بلادها بجائزة سنوية في مجال مكافحة العنصرية، وذلك نظير نضالها في هذا المجال.
ونددت "جمعية النساء الديمقراطيات"، بإيقاف سعدية مصباح، واعتبرته تضييقا واستهدافا متواصلا للمجتمع المدني.
وقالت الجمعية في بيان، إن "ما يمس اليوم السلم الاجتماعية في تونس في علاقة بالمهاجرين وتواتر أحداث العنف، هو نتيجة غياب كلّي لمقاربة واضحة في معالجة هذا الملف مع الاكتفاء فقط بمقاربة أمنية وجعل تونس شرطي حدود تطبيقا لإملاءات الاتحاد الأوروبي وإيطاليا تحديدا".
رئيس المرصد التونسي لحقوق الإنسان، مصطفى عبد الكبير، عبّر من جهته، على أن الموقف المبدئي للمنظمة التي يرأسها "هو التضامن مع كل النشطاء الموقوفين على خلفية نشاطهم السياسي والحقوقي".
ويضيف عبد الكبير في تصريح لموقع "الحرة"، أن السلطات التونسية لجأت إلى متابعة والتدقيق في نشاط المنظمات العاملة في مجال الدفاع عن المهاجرين في ظل الجدل المثار بشأن موضوع الهجرة، وتزعم أن تلك الجمعيات "أساءت توظيف التمويل الخاص بنشاطها الحقوقي والمخول لها بالقانون".
ويشير إلى أن السلطات الأمنية والقضائية، ترى أنه "تم استعمال الأموال في غير مكانها"، بينما ترى جهات أخرى أنها "توقيفات سياسية بسبب نشاطهم في المجال، وتمت بشكل غير قانوني".
ويلفت عبد الكبير إلى التباين الحاصل في مواقف التونسيين بشأن القرارات الأخيرة خاصة في ظل الجدل المثار بشأن الهجرة وحضور المهاجرين بالبلاد.
ويشدد الفاعل الحقوقي، أنه ما على السلطات التونسية إلا أن تثبت ادعاءاتها بشأن التجاوزات وذلك باتباع كل الخطوات القانونية لحماية حقوقهم كنشطاء، أخذا بعين الاعتبار أن نشاطهم الحقوقي والجمعوي مكفول قانونيا ودستوريا، مشيرا إلى أنه إذا غابت الاثباتات الحقيقية فالأمر لا يعدو أن يكون "حدّا من حريات هؤلاء النشطاء".
"خطان متوازيان"
وتعد تونس، إلى جانب ليبيا، نقطة الانطلاق الرئيسية لآلاف المهاجرين الذين يحاولون عبور البحر المتوسط نحو سواحل إيطاليا.
وشهدت الأشهر الماضية، تكرار صدامات بين مهاجرين غير نظاميين وسكان أحياء في ولاية صفاقس، الذين يحتج عدد منهم على ارتفاع أعداد المهاجرين بمدينتهم.
وتضاعفت أعمال العنف بعد خطاب ألقاه الرئيس سعيد، في فبراير من العام الماضي، انتقد فيه التواجد الكبير لمهاجرين غير قانونيين في بلاده، متحدثا عن مؤامرة لتغيير "التركيبة الديموغرافية" في تونس.
في هذا الجانب يقول الباحث السياسي التونسي، نزار الجليدي، إن "بعض المنظمات لا تتوانى أن تصيح بأعلى صوت بأنها أمام تضييق الحكومة بشأن موضوع المهاجرين، إلا أن هناك خطان متوازيان ولا يلتقيان بين العمل المدني الحقوقي والعمل السياسي.
ويقول الجليدي في حديثه لموقع "الحرة"، إن موضوع الهجرة يرتبط بقضايا الأمن الوطني والقومي للبلد، والسلم الاجتماعي والحياة المدنية"، مستغربا مما اعتبره "موقف المنظمات المدفوعة الأجر التي تتباكى مدعية أنها تتعرض للهرسلة (التضييق)".
ويضيف أن "واقع الحال، أن "العمل الحقوقي والمدني بتونس هو الأفضل بكامل المنطقة الأفريقية والشرق أوسطية"، معتبرا أن "جرعة الديمقراطية التي يتمتع بها العمل المدني بتونس تدفع بعض المنظمات لاستغلالها من أجل لعب دور الدولة وتعويضها".
ويقول إنه "لا يمكن لعمل المنظمات والجمعيات المدنية والحقوقية أن يعوض عمل الدولة، ولا يمكن للحكومة أن تستفز الأولى أو تضيّق عليها، لكننا اليوم أمام قضية أعمق تتعلق بأمن البلاد القومي".