اعتبرت منظمات حقوقية، الخميس، أن السلطات التونسية "صعّدت قمعها" ضد الإعلام وحرية التعبير خلال الأسابيع الأخيرة والتي شهدت سجن صحفيين وأصحاب مؤسسات إعلامية بموجب "المرسوم عدد 54" المثير للجدل، ما دفع فعاليات حقوقية وسياسية إلى المطالبة بإلغائه أو إصلاح بنوده.
وقبل الانتخابات الرئاسية التونسية المتوقع إجراؤها في الخريف، قالت "هيومن رايتس ووتش" و"منظمة العفو الدولية"، في بيان مشترك، إن السلطات التونسية شدّدت "قمع حرية التعبير مما أدى إلى تقلُّص غير مسبوق للفضاء المدني منذ ثورة 2011.
متابعات بـ"المرسوم 54"
وقضت محكمة تونسية، الأربعاء الماضي، بسجن كل من المحلل والمعلق السياسي مراد الزغيدي ومقدّم البرامج التلفزيونية، والإذاعية برهان بسيّس، سنة على خلفيّة تصريحات تنتقد السلطات.
ووجهت إليهما تهمة "استعمال شبكة وأنظمة معلومات واتصال لإنتاج وترويج وإرسال وإعداد أخبار وإشاعات كاذبة بهدف الاعتداء على حقوق الغير والإضرار بالأمن العام".
وقال الناطق باسم المحكمة الابتدائية في تونس، محمد زيتونة، لوكالة فرانس برس، الاثنين، إن النيابة العامة فتحت تحقيقا إضافيا في حق كل من الزغيدي وبسيّس "في شبهات غسل الأموال والإثراء غير المشروع".
وبدأت الملاحقات القضائية ضدهما استنادا لقانون المرسوم 54، الذي أصدره الرئيس قيس سعيد، في العام 2022، لـ"مكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال"، لكنه تعرض لانتقادات واسعة من قبل منظمات حقوقية.
وتظاهر العشرات من الصحفيين والإعلاميين في تونس العاصمة، الاثنين، احتجاجا على "قمع" الحريات، مطالبين بإطلاق سراح المسجونين وإلغاء المرسوم 54. كما نظمت نقابة الصحفيين، الاثنين، مؤتمرا صحفيا لأقارب الصحفيين المسجونيين.
وقال عضو المكتب التنفيذي للنقابة الوطنية للصحفيين التونسيين، عبد الرؤوف بالي، إن "النقابة تعتبر هذا المرسوم سيف مسلط على رقاب الصحفيين وفيه اعتداء حتى على القوانين المنظمة لقطاع الإعلام".
وأوضح بالي في تصريح لموقع "الحرة"، أن "المرسوم يلغي أي ضمانات للصحفيين ويعاملهم كمجرمين".
وأشار المتحدث ذاته إلى أن "العقوبات التي ينص عليها ثقيلة جدا ولم تحصل في تاريخ الصحافة التونسية من خمس إلى عشر سنوات سجن".
"أحكام قاسية"
واعتبرت المنظمتان في بيانهما الصادر الخميس، أن "المرسوم عدد 54 لسنة 2022 "ينتهك الحق في الخصوصية، ويفرض أحكاما قاسية لجرائم متعلقة بالتعبير معرّفة بشكل فضفاض ومبهم".
وخلال أزيد من عام، حوكم أكثر من 60 شخصا، بينهم صحفيون ومحامون ومعارضون للرئيس سعيّد، على أساس هذا النصّ، حسب النقابة الوطنيّة للصحفيين التونسيّين.
وبحسب إحصاء هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية، تعرض أكثر من 70 شخصا، بينهم منافسون سياسيون، ومحامون، وصحفيون، ونشطاء، ومدافعون عن حقوق الإنسان، ومستخدمو شبكات التواصل الاجتماعي لـ"ملاحقات تعسفية منذ نهاية 2022".
ولا يزال 40 منهم على الأقل خلف القضبان حتى ماي 2024، علما أن معظمهم محتجزون على خلفية ممارسة حقوقهم المحمية دوليا، وفقا للمنظمتين.
ويقول النقابي التونسي، إنه "لا يهم أن تكون نقلت خبرا صحيحا أم لا، المهم ألا يشتكيك أحد بسبب كشف معطياته أو التشهير به أو غيرها".
وفي الأسابيع الأخيرة، تم اعتقال محامين وناشطين من جمعيات تساعد المهاجرين، الأمر الذي أثار قلق العديد من المنظمات غير الحكومية الدولية والاتحاد الأوروبي وفرنسا والولايات المتحدة.
وردا على ذلك، أدان الرئيس التونسي "التدخل الأجنبي السافر" في الشؤون الداخلية لبلاده.
وقال سعيّد، خلال لقاء جمعه بوزيرة العدل، إن "لا تراجع اليوم عن الحريات، وأن حرية التعبير مضمونة، بالدستور"، مضيفا "لا نتتبع أيا كان من أجل فكره وهو حر في التعبير عنه ".
وأضاف أنه "لم يقع إلى حد اليوم تتبع أي أحد من أجل رأيه"، قائلا: "نرفض قطعيا أن يرمى بأحد في السجن من أجل فكره، المضمون في الدستور وأكثر من الدول الأخرى، ومن يتظاهرون أمام المسرح هم محميون بالأمن، لكنهم يشتكون من المساس بحرية التعبير ".
مبادرة لـ"تنقيح المرسوم"
وعلى صعيد متصل، دعا 57 نائبا من مختلف الكتل البرلمانية ومن المستقلين، الأربعاء، مكتب البرلمان التونسي، إلى استعجال النظر في مبادرة تشريعية قدمت إلى هذا المكتب في فبراير الماضي، من أجل تنقيح المرسوم 54.
وقال مقرر لجنة الحقوق والحريات وأحد الموقعين على طلب استعجال النظر، محمد علي النائب عن "كتلة الخط الوطني السيادي"، لوكالة أنباء تونس، إن "النواب الـ57 أودعوا طلبهم بمكتب الضبط بالمجلس، الذي عليه أن يحيل مقترح مبادرتنا على لجنة الحقوق والحريات وفق ما يقتضيه القانون الداخلي الذي يمنح النواب حق عرض مقترحات قوانين شرط أن تكون مقدمة من 10 نواب على الأقل".
في هذا السياق، قال بالي، إن الملاحقات على معنى المرسوم 54 مستمرة منذ صدوره، وطالت العديد من الصحفيين ورغم المطالبات بتعديله حتى من قبل نواب في البرلمان، ليس هناك أي قرار سياسي للقيام بتلك التنقيحات".
وكان نحو 40 نائبا أودعوا، في 20 فبراير الماضي، مقترح قانون لتعديل المرسوم ولم يحصلوا على أي "رد مكتوب من مكتب المجلس رغم عرض الطلب على أنظاره في أكثر من مناسبة الى حين لجوء أعضاء المكتب إلى التصويت على إمكانية تمريره الى لجنة الحقوق والحريات "، وفقا لمحمد علي الذي اعتبر أن "الأمر غير ذي معنى وغير قانوني".
وشدّد النائب في تصريحه على أنه "ليس من حق مكتب البرلمان مصادرة حقّ النواب أو ممارسة الرقابة القبلية او التصويت على تمرير أية مبادرة تشريعية مقدمة من النواب على التصويت الداخلي بين أعضاء المكتب".
وقبل أيام صرح النائب محمد علي خلال تظاهرة نظمتها نقابة الصحفيين التونسيين أن المبادرة التشريعية المقترحة منذ 20 يناير الماضي لتنقيح المرسوم عدد 54 تشمل الفصول 5 و9 و10 و12 و21 و22 و23.
وتهم بالخصوص الفصل 24 والذي قال إن "الفصل الذي يثير إشكالا حقيقيا ويعتبر الموضوع الرئيسي للتنقيح، بالنظر إلى أحكامه المشددة واستعماله للتضييق على حرية التعبير "، حسب تقديره موضحا أن فكرة تقديم المبادرة لتنقيح المرسوم عدد 54 كانت "لإخراج النقاش حوله من الفضاء العام وإدخاله في مساره التشريعي الطبيعي والحقيقي".
"المأخذ الوحيد"
وينص الفصل 24، على أنه "يعاقب بالسجن مدة خمسة أعوام وبخطية (غرامة) قدرها خمسون ألف دينار (حوالى 16 ألف دولار أميركي) كل من يتعمّد استعمال شبكات وأنظمة معلومات واتّصال لإنتاج، أو ترويج، أو نشر، أو إرسال، أو إعداد أخبار أو بيانات أو إشاعات كاذبة أو وثائق مصطنعة أو مزوّرة أو منسوبة كذبا للغير بهدف الاعتداء على حقوق الغير أو الإضرار بالأمن العام أو الدفاع الوطني أو بث الرعب بين السكان".
ويعاقب بنفس العقوبات المقررة بالفقرة الأولى "كل من يتعمد استعمال أنظمة معلومات لنشر، أو إشاعة أخبار، أو وثائق مصطنعة ،أو مزورة أو بيانات تتضمن معطيات شخصية أو نسبة أمور غير حقيقية بهدف التشهير بالغير أو تشويه سمعته أو الإضرار به ماديا أو معنويا أو التحريض على الاعتداء عليه أو الحث على خطاب الكراهية".
وتضاعف "العقوبات المقررة إذا كان الشخص المستهدف موظفا عموميا أو شبهه".
الباحث السياسي التونسي، نزار الجليدي، يشير إلى أن "هذا القانون عبارة عن مرسوم رئاسي صدر خلال فترة الإجراءات الاستثنائية التي سنّها الرئيس في يوليوز 2021"، مشيرا إلى أن "صدوره كان وليد ظروفه التي أعتقد أن الكثير منها زال الآن، وخاصة الفوضى في صفحات التواصل الاجتماعي وفي الإعلام وجاء للحفاظ على حماية الدولة واسترجاع هيبة مؤسساتها".
ويضيف الجليدي في تصريح لموقع "الحرة"، أن استمرار العمل به واستعماله من السادة القضاة بنفس فلسفة ظروف إقراره وهو خطأ برأيي وجب تصحيحه بعيدا عن شيطنة القانون برمته والدعوات الجوفاء لإلغائه".
ويوضح الجليدي أن القانون يحتوي على 36 فصلا "اجتهد المشرّع لأن تكون متماهية مع الدستور وحامية للدولة وموظفيها وأسرارها"، لافتا إلى أن "الفصل 24 يبقى المأخذ الوحيد عليه، إذ يعتبر حقوقيون وإعلاميون أنها تحد من حرية التعبير".
ويؤكد الباحث التونسي على أن "هذا القانون في جوهره مهم ولايشكّل خطرا على الحريّات"، إنما يشكل "خطرا على من يمسون حرية الغير في عرضهم و أشخاصهم".
غير أنّه يستدرك، موضحا أن "تعسّف القضاة أحيانا في استعماله جعله بالفعل سيفا مسلطا على الرقاب والألسن".
وبالتالي يشدد على "ضرورة إدخال بعض التنقيحات عليه لرفع الحرج على السلطة والقضاة حيث تعتبر المعارضة والذين سيترشحون للانتخابات الرئاسية أن هذا القانون، وخاصة الفصل 24 منه لن يمكنهم من القيام بحملاتهم بصفة طبيعية، وأنّ كل نقد للسلطة خلال حملاتهم يمكن أن يجعلهم تحت طائلة الفصل المذكور".