مزارعون في تونس يجنون محصول زيتون - AFP
مزارعون في تونس يجنون محصول زيتون - AFP

مُحاطا بالحرّاس والعمال والمسؤوليين المحليين والمصورين، ظهر الرئيس قيس سعيد، الخميس الفائت، في "هنشير الشعال" وسط أشجار زيتون فقدت نضارتها بفعل سنوات الجفاف الطويلة التي عاشتها تونس.

لم يتأخر الرئيس سعيد كثيرا في الإفصاح عن أسباب زيارته إلى "هنشير الشعال"بمحافظة صفاقس (جنوب) الذي تصفه تقارير إعلامية بأنه "أكبر غابة زيتون" في إفريقيا، ليقول في مطلع مقطع فيديو نشرته الرئاسة  إن "هناك استياء عميقا من طرف المافيا من الغيث النافع لأن نيتهم كانت التفريط فيه". 

 

وأعادت زيارة الرئيس إلى "هنشير الشعال"، الذي يضم حوالي 400 ألف شجرة زيتون، إلى الواجهة النقاشات حول وضعية ما يعرف محليا بـ"الأراضي الدولية"، المصطلح الذي يطلقه التونسيون على الأراضي التي تمتلكها الدولة.

شبهات وتحقيقات

وعقد الرئيس سعيد، أثناء زيارته إلى "هنشير الشعال"، اجتماعا مع مسؤولين محليين أشار فيه إلى "إهمال طال الأراضي الزراعية والمعدات الفلاحية والآبار وقطعان الأغنام والأبقار"، قائلا "سنواصل حرب تحرير تونس من كل اللوبيات.. دخلنا مرحلة جديدة وكل من استولى على مليم واحد من أموال الشعب سيتحمل مسؤوليته".

ساعات بعد انتهاء زيارة الرئيس، باشر القضاء تحقيقات في شبهات فساد بـ"هنشير الشعال"،  ليتم استدعاء ثم توقيف رجل الأعمال المعروف في قطاع تصدير زيت الزيتون، عبد العزيز المخلوفي، الذي يرأس أيضا النادي الرياضي الصفاقسي، أحد أكبر الأندية الرياضية تونس.

 

ومع استمرار التحقيقات، أمرت النيابة العامة، الأحد، بتوقيف وزير الفلاحة الأسبق، سمير بالطيب، وعدد من معاونيه على خلفية الملف ذاته.

وشغل بالطيب، وهو أستاذ جامعي، منصب وزير الفلاحة في حكومة يوسف الشاهد التي خلفت حكومة الحبيب الصيد عام 2016.

ومع توقيف المخلوفي وبالطيب وعدد من معاونيه، طالب نشطاء على منصات التواصل الاجتماعي بفتح "جميع" ملفات "الأراضي الدولية" الممتدة في معظم محافظات البلاد.

ما الأراضي الدولية؟

تتكون "الأراضي الدولية" الفلاحية في تونس قرابة 500 ألف هكتار، وهي مساحات متأتية أساسا من  من تصفية الأحباس والأراضي المسترجعة من المعمرين بعد استقلال تونس عن فرنسا ربيع العام 1956.

وللإشراف على هذه المساحات الشاسعة، أنشأت الديوان الوطني للأراضي الفلاحية، وهو مؤسسة حكومية تدير أزيد من 150 ألف هكتار من الأراضي بمختلف مناطق البلاد، تستغل أساسا في مجال غراسة الزّياتين والأشجار المثمرة والزراعات الكبرى والمراعي. 

ويخول القانون للديوان تأجير مساحات زراعية للقطاع الخاص بهدف إقامة استثمارات داخلها في قطاع زراعات الحبوب أو تربية الماشية أو الأشجار المثمرة.

لكن عادة ما تواجه العقود المبرمة بين الطرفين أسئلة على وسائل الإعلام حول قيمتها المالية وشفافية معطياتها وطرق وإدارتها.

 

وبالفعل، تعلن السلطات باستمرار عن استرجاع أراضي وعقارات فلاحية من خواص بسبب تجاوزات قانونية أو إشكاليات إدارية.

وفي تقرير سابق لها، ذكرت صحيفة "الصباح" المحلية أن وزارة أملاك الدولة تمكنت، خلال الفترة الممتدة من 2011 إلى الربع الأول من العام 2021، من استرجاع أكثر من 86 ألف هكتار  من خلال قرارات إخلاء وتنفيذ أحكام قضائية غيرها من الآليات القانونية..

وتستأثر محافظات باجة وسليانة، وهي مناطق متخصصة أساسا في زراعة الحبوب، بالنصيب الأكبر من الأراضي الدولية المسترجعة.

قضية الصحراء فرضت توتراً مستمراً في المغرب العربي
قضية الصحراء فرضت توتراً مستمراً في المغرب العربي. (AFP)

رخصت الحكومة المغربية، بداية نوفمبر الفارط، توريد كميات من زيت الزيتون، لسد النقص في هذه المادة التي توصف بالأساسية في المطبخ المغربي. لكن على عكس ما جرت عليه العادة، فإن الكميات المستوردة ومن ضمنها نحو 10 آلاف طن من البرازيل، غاب عنها هذه السنة زيت الزيتون التونسي.

هذا الغياب يعد مظهراً جديداً يدل على فتور العلاقات بين الرباط وتونس، منذ الأزمة الدبلوماسية التي اندلعت بين البلدين، في صيف عام 2022، عقب استقبال الرئيس التونسي، قيس سعيد، لرئيس جبهة البوليساريو، إبراهيم غالي، على هامش اجتماعات الدورة الثامنة لندوة طوكيو الدولية للتنمية في أفريقيا، "تيكاد"، التي انعقدت في تونس.

واعتبرت الرباط حينها أن الخطوة التونسية "عدائية وغير مبررة"، وبادرت إلى سحب سفيرها كخطوة احتجاجية، قابلتها تونس بخطوة مماثلة، وسحب سفيرها لدى المغرب هي الأخرى.

حادث دبلوماسي

يقول أستاذ القانون الدستوري في جامعة محمد الخامس بالرباط، الدكتور رشيد لزرق، إن المغرب اختار أن يكون معيار علاقاته الخارجية مدى احترام الفاعلين الدوليين لوحدته الترابية، وأن اختياراته التجارية لا تشذ عن هذه القاعدة، وبالتالي فإن اعتراف الفاعلين الدوليين بسيادة الرباط على الصحراء الغربية، هو من أبرز محددات العلاقات الخارجية للمغرب، إن لم يكن أهمها.

ويرى لزرق في حديث للحرة أن الأزمة الاقتصادية التي تمر بها تونس في السنوات الأخيرة، جعلتها "مضطرة لأن ترضخ" لطلبات جارتها الجزائر، حسب قوله. وهو ما يعتبر خروجاً عن تقاليد السياسة الخارجية التونسية، ليس فقط بشأن النزاع في الصحراء الغربية، بل بحكم التطور التاريخي لكل منهما، والذي اتسم باتباعهما تجربة ليبرالية عقب الاستقلال، وهو ما لم يحدث في الجزائر.

ويضيف لزرق أن الموقف التونسي كان نتيجة "قلة الخبرة السياسية للرئيس سعيد، الذي لم يفهم طبيعة العلاقات بين البلدين، وكذلك طبيعة شخصيته التي جعلته يتعامل بمزاجية مع هذا الموضوع الحساس بالنسبة للمغرب، حسب قوله. لكنه يرى أن هذه العلاقات مرشحة للتطور في ضوء التحديات الدولية القادمة.

أما الباحث والمحلل السياسي التونسي، منذر ثابت، الذي تحدث إلى الحرة، فيرى أن كلاً من تونس والمغرب ينتميان إلى نفس المجال الجيوسياسي، وذلك بحكم انتمائهما إلى العالم الحر، ومعاداة المعسكر الاشتراكي، عقب الاستقلال في خمسينيات القرن الماضي.

وبخصوص قضية الصحراء الغربية، فيرى ثابت أنه رغم "الحادث" الدبلوماسي الذي رافق لقاء الرئيس سعيد بزعيم البوليساريو، فإنه لا يوجد دليل على أي توجه رسمي للاعتراف بها، وأن الموقف التونسي لا يزال بصدد التشكل، وهو ما يفسر البطء الذي اتسمت به الدبلوماسية التونسية مؤخراً.

لكن في المقابل، يرى ثابت أن العلاقات التونسية مع جارتها الجزائر، لا يمكن اختزالها في المستوى الاقتصادي فقط، لأنها تشمل كذلك جملة من الملفات الساخنة على المستوى الإقليمي، مثل مكافحة الإرهاب والهجرة غير الشرعية، والتنسيق بشأن الأوضاع في ليبيا، التي تشهد تدخل عدد من الفاعلين الدوليين مثل مصر وتركيا وروسيا.

أما بخصوص اختيارات الرئيس التونسي، فيرى ثابت أن نظرته الإيديولوجية تتركز على مبدأ احترام السيادة الوطنية، لذلك لم يصدر أي تعليق سلبي من تونس بخصوص اختيار المغرب الانخراط في اتفاقيات أبراهام، والتطبيع الكامل لعلاقاته مع إسرائيل، واعتبر ذلك أمراً سيادياً، رغم الحساسية الكبيرة التي تكتسيها هذه المسألة وارتباطها بالأمن القومي للمنطقة.

ويقول ثابت إن المعيار الذي يعتمده الرئيس سعيّد في تحديد سياسته الخارجية، هو ما سماه "رفض الإملاءات والإسقاطات"، والبحث عن "نظام عالمي عادل"، فيما يمكن اعتباره إعادة إحياء لفكرة "تيار العالم الثالث".

تحديات تفرض تطوير العلاقات

يرى الدكتور، رشيد لزرق، أن هناك استحقاقات هامة على المستوى الدولي، تفرض على دول المنطقة تطوير علاقاتها، وأنه حتى بعد سحب السفراء من عاصمتي البلدين، فإن المبادلات التجارية لا تزال قائمة، وأن الوضع الراهن هو حالة شاذة في تاريخ العلاقات بين البلدين.

وبالعودة إلى عدم توريد زيت الزيتون التونسي، يقول لزرق إن المرآة العاكسة لمدى تحسن العلاقات بين الرباط وتونس ستكون العلاقات التجارية، وإن زيت الزيتون التونسي أقرب إلى مذاق المستهلك المغربي، لكن التغيير المطلوب لتطوير العلاقات بين البلدين يجب أن يأتي من تونس.

ويشرح لزرق أن المعنى المقصود بكلمة التغيير، هو التغيير "الماكروسياسي" القادم في العلاقات الدولية، في ظل التغيرات الجيوسياسية التي طرأت في الأشهر القليلة الماضية، ولعل أبرزها عودة دونالد ترامب إلى سدة الرئاسة في الولايات المتحدة. لذلك فإن طي ملف الصحراء قد يعطي دفعة لاتحاد المغرب العربي.

ويقول لزرق إن الإدارة الأميركية الجديدة سيكون لسياستها تأثير كبير على منطقة المغرب العربي والساحل والصحراء، وأن ترامب من المتوقع أن يدفع بطموحات اقتصادية وتجارية في هذه المنطقة، في مواجهة التمدد الصيني.

من جهته يرى المحلل السياسي التونسي، منذر ثابت، أنه من خلال الخبرة والتجربة التي تكونت خلال إدارة ترامب الأولى، خصوصاً فيما يتعلق باختياراته السياسية، في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والتي اتسمت بعدم مساندة الربيع العربي، وجعل الاصطفاف الواضح إلى جانب الولايات المتحدة أولوية في سياسته الخارجية، فإنه يتوقع تأثيراً كبيراً للإدارة الجديدة في البيت الأبيض على المنطقة.

ويضيف ثابت أنه يوجد نوع من الترقب لتطور الموقف بين المغرب والجزائر، ومدى انخراط دول عربية جديدة في التطبيع مع إسرائيل، كما أن إرساء وعي شعبي داعم لسياسة الولايات المتحدة في تونس، لا يمكن أن يتم إلا عبر دعم الخيارات الواقعية على المستوى المحلي، ما يمكن من بناء وعي براغماتي، حسب قوله.

أما الأولوية في تونس، حسب ثابت، فهي إعادة ترتيب البيت الداخلي، لذلك لم تصدر إشارات قوية بعد، تجاه الرباط أو غيرها من العواصم العربية والدولية، لكن ذلك لا يعني أن هناك قطيعة بين البلدين. 

ويضيف أنه من المفارقات أن المستفيدين من الحدود التي رسمت أثناء الفترة الاستعمارية، هم الذين يزايدون على بقائها، رغم أن الاندماج في فضاء أكبر مثل اتحاد المغرب العربي، يزيل الإشكالات القائمة.