بعد أكثر من ست سنوات على انطلاق عمل الدوائر القضائية المتخصصة في العدالة الانتقالية بتونس، لم يتم بعد، البث في أي ملف قضائي يتعلق بإنصاف ضحايا حقبة الاستبداد في البلاد ورد الاعتبار لهم.
فبعد ثورة عام 2011، أقرت الحكومة التونسية قانونا في أواخر 2013 يتعلق بإرساء العدالة الانتقالية وتنظيمها وأحدثت بمقتضاه "هيئة الحقيقة والكرامة" (هيئة مستقلة) أوكلت لها مهمة التحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبت في تونس بين عامي 1955 و2013.
وتهدف الهيئة التي نشرت تقريرها النهائي في الجريدة الرسمية التونسية في 2020 إلى إرساء المسار الديمقراطي في تونس، وكشف الحقيقة بشأن انتهاكات حقوق الإنسان المرتكبة في الماضي، ومحاسبة المسؤولين عنها، واستعادة حقوق الضحايا وكرامتهم، والحفاظ على الذاكرة، وتيسير المصالحة الوطنية.
في المقابل، ورغم إرساء دوائر قضائية مختصة في العدالة الانتقالية انطلقت أعمالها في 29 مايو 2018، إلا أن هذا المسار القضائي الطويل لم يفصل بعد في أي ملف من الملفات المعروضة عليه، وهو ما فتح النقاش في الأوساط الحقوقية بشأن أسباب تعثر العدالة الانتقالية في هذا البلد المغاربي.
شغور في تركيبة الدوائر
تعليقا على هذا الموضوع، يقول الكاتب العام للشبكة التونسية للعدالة الانتقالية (حقوقية غير حكومية) حسين بوشيبة، إن حوالي مائتي ملف محال على 13 دائرة قضائية مختصة، إلا أنه لم يتم الفصل في أي من هذه الملفات بسبب استمرار الشغور في تركيبة هذه الدوائر أفضى إلى تأخير الجلسات القضائية.
ويضيف بوشيبة في حديثه لـ"الحرة": إن ما هو معلن هو أن تأجيل الجلسات سببه تقني ومرده عدم اكتمال النصاب في جل الدوائر المختصة بسبب النقل القضائية، فبعد سنة بيضاء خلال العام الماضي في مجال العدالة الانتقالية، يتواصل هذا العام تأجيل الجلسات باستمرار.
وبخصوص تعامل السلطة مع هذا الملف، يرى المتحدث أن "هناك ضبابية حول مستقبل الدوائر المتخصصة في العدالة الانتقالية يستوجب من وزارة العدل النظر في هذا الإشكال " مستطردا بالقول: "في تقديرنا السبب يتجاوز الجانب التقني".
ويوضح في هذا السياق، بأن هناك قناعة لدى السلطة الحالية بضرورة الذهاب في مقاربة موازية قوامها إنشاء مؤسسات أخرى مثل مؤسسة فداء التي تعنى بالإحاطة بضحايا الإرهاب من العسكريين والأمنيين وشهداء وجرحى الثورة، وهو ما من شأنه أن لا ينصف ضحايا الانتهاكات التي ارتكبت في حق عدد من التونسيين منذ فترة ما بعد الاستقلال.
ويشدد في ذات الصدد، على أن تواصل مسار العدالة هو في صالح تونس، مؤكدا أنه "ضروري لتجاوز مرحلة التجاذبات ورد الاعتبار للضحايا".
وبحسب إحصائيات كشفت عنها هيئة الحقيقة والكرامة في عام 2018 فإن 57 ألفا و599 ملفا للضحايا تم قبوله، أحالت منهم الهيئة 472 ملفا على الدوائر المتخصصة في العدالة الانتقالية.
غياب الإرادة السياسية
من جانبه، يرجع الرئيس السابق لجمعية "الكرامة للحقوق والحريات" (حقوقية غير حكومية) العلمي الخضري أسباب "تعثر" ملف العدالة الانتقالية بتونس، إلى ما اعتبره "غياب الإرادة السياسية للحكومات التونسية المتعاقبة بعد الثورة في معالجة ملفات ضحايا الاستبداد، فضلا عن بقاء هذا المسار محل تجاذبات سياسية متواصلة إلى اليوم، وفقه.
ويقول الخضري لـ"الحرة": رغم أن الغاية من إثارة هذا الملف عقب الثورة التونسية هو وضع حد لانتهاكات حقوق الانسان ورد الاعتبار لمن ظلموا في عهدات الحكم السابقة، إلا أن المحاصصات الحزبية التي طغت على مراكز صنع القرار في تونس، وتطبيع الأحزاب الحاكمة مع منظومات الفساد في ذلك الوقت، جعل مسارالعدالة الانتقالية متعثرا ولم يشهد أي بوادر انفراج.
ويعتبر أن ما رافق هذا المسار من "حملات شيطنة مارسها الإعلام وبعض القوى المضادة للثورة بإيهام الرأي العام بأن حجم التعويضات سيكون عبئا ثقيلا على الدولة أثر على كل المساعي لإنصاف الضحايا وتفكيك منظومة الفساد في البلاد" لافتا إلى أن " اليأس بدأ يدب في نفوس عائلات الضحايا بعد مرور سنوات طويلة دون تحقيق أي تقدم في هذا المسار".
ويتفق الوزير السابق لحقوق الانسان والعدالة الانتقالية (2013/2014) سمير ديلو مع إجماع بعض الحقوقيين على غياب الإرادة السياسية في معالجة ملف العدالة الانتقالية، مؤكدا لـ"الحرة" أن السبب في ذلك "هو عدم توفّر الإرادة الصادقة لإنجاحه بعد انتخابات 2014 ثمّ تحوّلها إلى رغبة لوأده بعد 25 يوليو2021".
ويقول ديلو: إن مسار العدالة الانتقالية ليس فقط نصوصا قانونية ومؤسسات، بل بالدرجة الأولى توافقا وطنيا على طيّ صفحة الماضي بأخف الأضرار دون تشفّ ولا طمس للحقائق، ولكن إذا كانت السّلطة أو قوى فاعلة فيها لا تريد كشف الحقيقة كاملة لسبب من الأسباب فليس أيسر من تعطيل المسار برمته".
ويرى الوزير السابق " أن ما يحصل اليوم من تعمد ترك دوائر العدالة الانتقالية منقوصة التركيبة هو حكم على هذا المسار بالموت البطيء".
"ورقة تفاوض"
"ينبغي الإقرار بأن مسار العدالة الانتقالية في تونس متعثر منذ انطلاقه رغم اتفاق المختصين حول شمول القانون المنظم له ورياديته، بيد أن العوائق وضعت من قوى كثيرة في طريق المسار لعدة أسباب أهمها تحول هيئة الحقيقة والكرامة إلى ورقة تفاوض بين الأحزاب الداعمة لهذا المسار والمنظومة السابقة التي تهدف العدالة إلى تفكيكها"، هذا ما يراه المحلل السياسي خالد كرونة.
ويوضح كرونة في حديثه لـ"الحرة" : "بأن داعمي مسار العدالة الانتقالية فضلوا جعل الهيئة ورقة تفاوض مع المنظومة دون أن يكونوا جادين في المضي قدما نحو تحقيق الأهداف المفترضة، في المقابل سارعت المنظومة القديمة حماية لنفسها عبر أذرع كثيرة إلى وصم المسار واعتباره عدالة انتقامية وعملت على تفجير الهيئة في سياق المناورة الدفاعية".
وكانت النتيجة عمليا أن تقرير هيئة الحقيقة والكرامة لم يقدم إلا في آخر يوم ضمن الآجال الدستورية وأنه لم ينشر في الرائد الرسمي إلا في عام 2020 قبل أن تطفو قضية التزوير التي أثارتها عضو الهيئة ضد رئيستها، يستطرد المتحدث.
وتبعا لذلك، يؤكد المحلل السياسي "أن العدالة الانتقالية في تونس مشروع قبر تبعا لكون العناصر الأساسية المؤلفة للمنظومة المستهدفة ما تزال هي نفسها تقبض على الأجهزة في الدولة وترسم بوجه عام سياساتها ولم تحصل القطيعة المرجوة التي تقود نظريا إلى محاسبة تتلوها مصالحة".
يشار إلى أن بطاقة إيداع بالسجن صدرت في أغسطس الماضي، ضد رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة سهام بن سدرين، بسبب شكاية من أحد أعضاء الهيئة موضوعها تدليس التقرير الختامي للهيئة في ارتباط بملف تعويضات الدولة التونسية بالبنك الفرنسي التونسي.