مسافرون في مطار قرطاج بتونس
آلاف الخريجين التونسيين يغادرون البلد للعمل في الخارج

يعكف مجموعة من نواب البرلمان تونس على إعداد مبادرة تشريعية تتعلق بالحد من هجرة الكفاءات التونسية إلى الخارج، عبر فرض تعويضات مالية على الأطراف المستفيدة، وتشمل المهاجر وبلد المهجَر، في خطوة أثارت مواقف متباينة.

وفي هذا الخصوص، يقول رئيس لجنة التربية والتكوين المهني والشباب والرياضة بالبرلمان، فخر الدين فضلون، لـ"الحرة" إن مشروع القانون يعنى أساسا بالأطباء والمهندسين الذين تصل كلفة تعليمهم وتكوينهم بالمؤسسات التونسية إلى نحو 34 ألف دولار، والهدف منه "استرجاع ما يمكن استرجاعه من كلفة التكوين".

ويضيف فضلون أنه، فضلا عن إعداد المبادرة التشريعية التي سيناقشها البرلمان لاحقا، سيتم التوجه إلى إضافة فصل جديد في قانون المالية لسنة 2025 يحمّل الراغب في هجرة تونس، سواء كان طبيبا أو مهندسا يرغب في العمل في الخارج، تسديد نسبة من قيمة تكاليف تكوينه في تونس، تُوزع على امتداد فترة تتجاوز 5 سنوات.

وتكشف إحصائيات رسمية قدمها المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية الحكومي التابع للرئاسة التونسية، مطلع يوليو الماضي، أن نحو 3 آلاف مهندس تونسي يغادرون البلاد سنويا، فيما بلغت نسبة الكفاءات الطبية المهاجرة نحو 4 آلاف مهاجر في الثلاث سنوات الفارطة.

وتأتي المبادرة التشريعية في ظرف تشهد فيه تونس صعوبات اقتصادية واجتماعية وتتجاوز فيه نسب البطالة 16 في المئة، الأمر الذي خلف تباينا في المواقف بشأن دوافع هذه الخطوة وتبعاتها على الكفاءات التونسية.

وقف نزيف 

ويؤكد رئيس لجنة التربية والتكوين المهني والشباب والرياضة أن الدافع الرئيسي لتوجه البرلمان لسن قانون جديد هو الحد من نزيف هجرة الكفاءات التونسية التي تفاقمت بشكل لافت في الأعوام الأخيرة، وتسببت في تسجيل نقص حاد في اختصاصات الهندسة والطب.

ويوضح أن كلفة تكوين الأطباء والمهندسين "يتكبدها التونسيون من دافعي الضرائب بمختلف شرائحهم"، في المقابل "لا يستفيدون من خدماتهم في تونس"، لافتا إلى "النقص الحاد" في أطباء الاختصاص في المؤسسات الصحية التونسية.

لكن المتحدث يستدرك موضحا "نحن لسنا ضد سفرهم وبحثهم عن موطن شغل في الخارج، لكن عليهم أن يعطوا الدولة حقها، أي أن يسددوا نسبة من كلفة التكوين العالي الذي تلقوه والذي كلّف المجموعة العامة الكثير من الأموال، وتستفيد من خبراتهم فقط دول المقصد".

ويتابع في السياق ذاته موضحا أن هذه المبادرة التشريعية "ليست بدعة"، على اعتبار أن المؤسسة العسكرية في تونس تفرض تعويضا ماليا على إطاراتها التي ترغب في المغادرة، وذلك ككلفة تكوين داخل هذه المؤسسة.

وسبق أن اقترح المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية، في دراسة تحت عنوان "هجرة مهنيي الصحة: رهانات المنظومة الصحية في تونس"، فرض تعويضات في شكل اقتطاعات من الرواتب أو ضرائب توظف على أجور المغادرين باتفاق مع بلد المهجَر، فضلا عن شرط الحد الأدنى لعدد سنوات العمل في بلد المنشأ، والتزام الخدمة المدنية بالمناطق ذات الأولوية.

"مبادرة غريبة"

في المقابل، أثارت هذه الخطوة من البرلمان استنكار الهياكل النقابية في تونس، بينها عمادة الأطباء، إذ يؤكد عميد المهندسين التونسيين كمال سحنون لـ "الحرة" أنها "مبادرة غريبة لا ترتقي إلى مناقشتها على مستوى العمادة".

ويؤكد سحنون أن مشروع هذا القانون يتعارض مع ما جاء في دستور البلاد من مجانية التعليم باعتباره حقا دستوريا لكل التونسيين، مرجحا أن لا يوقع الرئيس التونسي قيس سعيد عليه إذا تمت المصادقة عليه من قبل البرلمان.

ويقول في هذا الخصوص "تونس ليست سجنا، وهذه المبادرة التشريعية تستهدف الكفاءات التونسية بدل دعمها، وهي لن تساهم في دعم الموارد المالية للدولة على اعتبار أن جل الكفاءات المهاجرة تغادر البلاد بمبادرات خاصة وليس عبر مكاتب التوظيف التابعة للدولة وليسوا مطالبين برخص للخروج".

وعن تبعات مشروع القانون، يعتبر عميد المهندسين أنه "سيؤدي إلى عدم عودة الكفاءات التونسية المهاجرة لأرض الوطن والمساهمة في بعث مشاريع تساعد على النهوض الاقتصادي في البلاد"، مشددا على ضرورة العمل على تحسين الوضع المادي والمعنوي للمهندسين وتحسين مناخ الاستثمار في تونس.

وتقدر عمادة المهندسين في تونس عدد خريجي الجامعات الهندسية في البلاد سنويا بنحو 8500 مهندسا، فيما يناهز عدد الذين غادروا تونس في الفترة ما بين 2015 و2020 أزيد من 39 ألف مهندس.

تونس: قرابة نصف العاملين بلا حقوق والخسائر بمئات الملايين
حذرت منظمة "العمل ضد الإقصاء" غير الحكومية من ارتفاع عدد العاملين في قطاعات الاقتصاد غير المنظم في تونس إلى أكثر من مليون ونصف المليون عامل، ما يكبد الدولة خسائر فادحة جراء نزيف التهرب الضريبي، رغم تباين الأرقام التي ترصد الظاهرة.

موقف عمادة الأطباء في تونس من هذا القانون لم يختلف عن موقف عمادة المهندسين، إذ يقول كاتب عام عمادة الأطباء، نزار العذاري، لـ "الحرة" إن الإجراءات الردعية التي تضمنتها المبادرة التشريعية "تعد سالبة للحرية وستزيد في تعميق أزمة هجرة الكفاءات من تونس خاصة في اختصاص الطب".

ويشير العذاري إلى أن فرض تعويضات مالية على الأطباء الذين يرغبون في العمل بالخارج "سيجعل الشبان في تونس ينفرون من شعبة الطب، فضلا عن غلق أبواب العودة أمام الراغبين في بعث مشاريع في البلاد".

ويتابع في السياق ذاته موضحا أن عمادة الأطباء ستعمل على تقديم مقترحات جديدة بخصوص الحد من ظاهرة هجرة الكفاءات الطبية، لافتا إلى تسجيل مغادرة 1300 طبيب لتونس في 2024 أغلبهم من الأطباء الشبان.

مسؤولية الدولة 

وفي خضم الجدل المثار في أعقاب هذه الخطوة البرلمانية، يرى المحلل السياسي مراد علالة أن هذا التوجه هو "تشجيع للدولة التونسية على التنصل من مسؤولياتها في توفير فرص الانتداب وتحسين ظروف العمل وتطوير مناهج التعليم والتكوين حتى تتناغم مع سوق الشغل واحتياجاته".

ويصف علالة في حديثه لـ"الحرة" الحلول المقترحة في معالجة هجرة الأدمغة بـ"الترقيعية"، كاشفا أن الغرض منها هو "السعي إلى تضييق الخناق على الكفاءات التونسية بدل الاستفادة منها".

وتبعا لذلك، يدعو المتحدث السلطات التونسية إلى معالجة ظاهرة الهجرة بإبرام اتفاقيات تعاون وشراكة مع البلدان الأوروبية وغيرها بهدف دعم البنية التحتية لمؤسسات التعليم العالي لـ"ضمان جودة التكوين وتقاسم أعبائه"، مشيرا أن هناك أزمة تشغيل في البلاد يرافقها تعويل الدولة على تحويلات التونسيين بالخارج من العملة الصعبة لتجاوز صعوباتها المالية.

وتحتل المداخيل المتأتية من تحويلات التونسيين بالخارج الرتبة الأولى في توفير العملة الصعبة للبلاد، إذ بلغت خلال الأشهر الستة الأولى من العام 2024 نحو 1.3 مليار دولار متقدمة على مداخيل القطاع السياحي الذي احتل الرتبة الثانية.

من جانب آخر، تظهر مؤشرات حديثة صادرة عن المعهد الوطني للإحصاء الحكومي أن نسبة البطالة في تونس تبلغ 16 في المئة، خلال الثلاثي الثالث من 2024، فيما تجاوزت نسبة السكان إلى حدود يناير من هذا العام 11 مليونا و887 ألف نسبة.

قضية الصحراء فرضت توتراً مستمراً في المغرب العربي
قضية الصحراء فرضت توتراً مستمراً في المغرب العربي. (AFP)

رخصت الحكومة المغربية، بداية نوفمبر الفارط، توريد كميات من زيت الزيتون، لسد النقص في هذه المادة التي توصف بالأساسية في المطبخ المغربي. لكن على عكس ما جرت عليه العادة، فإن الكميات المستوردة ومن ضمنها نحو 10 آلاف طن من البرازيل، غاب عنها هذه السنة زيت الزيتون التونسي.

هذا الغياب يعد مظهراً جديداً يدل على فتور العلاقات بين الرباط وتونس، منذ الأزمة الدبلوماسية التي اندلعت بين البلدين، في صيف عام 2022، عقب استقبال الرئيس التونسي، قيس سعيد، لرئيس جبهة البوليساريو، إبراهيم غالي، على هامش اجتماعات الدورة الثامنة لندوة طوكيو الدولية للتنمية في أفريقيا، "تيكاد"، التي انعقدت في تونس.

واعتبرت الرباط حينها أن الخطوة التونسية "عدائية وغير مبررة"، وبادرت إلى سحب سفيرها كخطوة احتجاجية، قابلتها تونس بخطوة مماثلة، وسحب سفيرها لدى المغرب هي الأخرى.

حادث دبلوماسي

يقول أستاذ القانون الدستوري في جامعة محمد الخامس بالرباط، الدكتور رشيد لزرق، إن المغرب اختار أن يكون معيار علاقاته الخارجية مدى احترام الفاعلين الدوليين لوحدته الترابية، وأن اختياراته التجارية لا تشذ عن هذه القاعدة، وبالتالي فإن اعتراف الفاعلين الدوليين بسيادة الرباط على الصحراء الغربية، هو من أبرز محددات العلاقات الخارجية للمغرب، إن لم يكن أهمها.

ويرى لزرق في حديث للحرة أن الأزمة الاقتصادية التي تمر بها تونس في السنوات الأخيرة، جعلتها "مضطرة لأن ترضخ" لطلبات جارتها الجزائر، حسب قوله. وهو ما يعتبر خروجاً عن تقاليد السياسة الخارجية التونسية، ليس فقط بشأن النزاع في الصحراء الغربية، بل بحكم التطور التاريخي لكل منهما، والذي اتسم باتباعهما تجربة ليبرالية عقب الاستقلال، وهو ما لم يحدث في الجزائر.

ويضيف لزرق أن الموقف التونسي كان نتيجة "قلة الخبرة السياسية للرئيس سعيد، الذي لم يفهم طبيعة العلاقات بين البلدين، وكذلك طبيعة شخصيته التي جعلته يتعامل بمزاجية مع هذا الموضوع الحساس بالنسبة للمغرب، حسب قوله. لكنه يرى أن هذه العلاقات مرشحة للتطور في ضوء التحديات الدولية القادمة.

أما الباحث والمحلل السياسي التونسي، منذر ثابت، الذي تحدث إلى الحرة، فيرى أن كلاً من تونس والمغرب ينتميان إلى نفس المجال الجيوسياسي، وذلك بحكم انتمائهما إلى العالم الحر، ومعاداة المعسكر الاشتراكي، عقب الاستقلال في خمسينيات القرن الماضي.

وبخصوص قضية الصحراء الغربية، فيرى ثابت أنه رغم "الحادث" الدبلوماسي الذي رافق لقاء الرئيس سعيد بزعيم البوليساريو، فإنه لا يوجد دليل على أي توجه رسمي للاعتراف بها، وأن الموقف التونسي لا يزال بصدد التشكل، وهو ما يفسر البطء الذي اتسمت به الدبلوماسية التونسية مؤخراً.

لكن في المقابل، يرى ثابت أن العلاقات التونسية مع جارتها الجزائر، لا يمكن اختزالها في المستوى الاقتصادي فقط، لأنها تشمل كذلك جملة من الملفات الساخنة على المستوى الإقليمي، مثل مكافحة الإرهاب والهجرة غير الشرعية، والتنسيق بشأن الأوضاع في ليبيا، التي تشهد تدخل عدد من الفاعلين الدوليين مثل مصر وتركيا وروسيا.

أما بخصوص اختيارات الرئيس التونسي، فيرى ثابت أن نظرته الإيديولوجية تتركز على مبدأ احترام السيادة الوطنية، لذلك لم يصدر أي تعليق سلبي من تونس بخصوص اختيار المغرب الانخراط في اتفاقيات أبراهام، والتطبيع الكامل لعلاقاته مع إسرائيل، واعتبر ذلك أمراً سيادياً، رغم الحساسية الكبيرة التي تكتسيها هذه المسألة وارتباطها بالأمن القومي للمنطقة.

ويقول ثابت إن المعيار الذي يعتمده الرئيس سعيّد في تحديد سياسته الخارجية، هو ما سماه "رفض الإملاءات والإسقاطات"، والبحث عن "نظام عالمي عادل"، فيما يمكن اعتباره إعادة إحياء لفكرة "تيار العالم الثالث".

تحديات تفرض تطوير العلاقات

يرى الدكتور، رشيد لزرق، أن هناك استحقاقات هامة على المستوى الدولي، تفرض على دول المنطقة تطوير علاقاتها، وأنه حتى بعد سحب السفراء من عاصمتي البلدين، فإن المبادلات التجارية لا تزال قائمة، وأن الوضع الراهن هو حالة شاذة في تاريخ العلاقات بين البلدين.

وبالعودة إلى عدم توريد زيت الزيتون التونسي، يقول لزرق إن المرآة العاكسة لمدى تحسن العلاقات بين الرباط وتونس ستكون العلاقات التجارية، وإن زيت الزيتون التونسي أقرب إلى مذاق المستهلك المغربي، لكن التغيير المطلوب لتطوير العلاقات بين البلدين يجب أن يأتي من تونس.

ويشرح لزرق أن المعنى المقصود بكلمة التغيير، هو التغيير "الماكروسياسي" القادم في العلاقات الدولية، في ظل التغيرات الجيوسياسية التي طرأت في الأشهر القليلة الماضية، ولعل أبرزها عودة دونالد ترامب إلى سدة الرئاسة في الولايات المتحدة. لذلك فإن طي ملف الصحراء قد يعطي دفعة لاتحاد المغرب العربي.

ويقول لزرق إن الإدارة الأميركية الجديدة سيكون لسياستها تأثير كبير على منطقة المغرب العربي والساحل والصحراء، وأن ترامب من المتوقع أن يدفع بطموحات اقتصادية وتجارية في هذه المنطقة، في مواجهة التمدد الصيني.

من جهته يرى المحلل السياسي التونسي، منذر ثابت، أنه من خلال الخبرة والتجربة التي تكونت خلال إدارة ترامب الأولى، خصوصاً فيما يتعلق باختياراته السياسية، في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والتي اتسمت بعدم مساندة الربيع العربي، وجعل الاصطفاف الواضح إلى جانب الولايات المتحدة أولوية في سياسته الخارجية، فإنه يتوقع تأثيراً كبيراً للإدارة الجديدة في البيت الأبيض على المنطقة.

ويضيف ثابت أنه يوجد نوع من الترقب لتطور الموقف بين المغرب والجزائر، ومدى انخراط دول عربية جديدة في التطبيع مع إسرائيل، كما أن إرساء وعي شعبي داعم لسياسة الولايات المتحدة في تونس، لا يمكن أن يتم إلا عبر دعم الخيارات الواقعية على المستوى المحلي، ما يمكن من بناء وعي براغماتي، حسب قوله.

أما الأولوية في تونس، حسب ثابت، فهي إعادة ترتيب البيت الداخلي، لذلك لم تصدر إشارات قوية بعد، تجاه الرباط أو غيرها من العواصم العربية والدولية، لكن ذلك لا يعني أن هناك قطيعة بين البلدين. 

ويضيف أنه من المفارقات أن المستفيدين من الحدود التي رسمت أثناء الفترة الاستعمارية، هم الذين يزايدون على بقائها، رغم أن الاندماج في فضاء أكبر مثل اتحاد المغرب العربي، يزيل الإشكالات القائمة.