مراسم رفع العلم  التونسي داخل إحدى المدارس الإبتدائية بتونس
مراسم رفع العلم التونسي داخل إحدى المدارس الإبتدائية بتونس

تصاعدت وتيرة العنف والتنمر في مؤسسات التعليم بتونس بشكل بات يثير قلق المجتمع التونسي، وسط انتقادات للسلطة بالفشل في تطويق هذه الظواهر.

وقد عرفت البلاد أواخر شهر نوفمبر الماضي حادثة انتحار مدرس بإحدى المؤسسات التربوية حرقا على خلفية تعرضه لحملة تنمر من قبل تلاميذه، قبل أن يتعرض مدرس آخر في ديسمبر الجاري إلى "العنف الشديد" من قبل تلميذ أثناء الإشراف على مراقبة الامتحانات بأحد المعاهد الثانوية بمحافظة بن عروس بتونس.

كما شهدت انطلاقة العودة المدرسية في 15 سبتمبر 2024 مقتل تلميذ بمحيط معهد ثانوي عقب تعرضه للعنف من قبل شابين منقطعين عن الدراسة، في حادثة شغلت الرأي العام في تونس بخصوص تنامي العنف في الوسط التربوي.

وتشير إحصائيات رسمية إلى أن تونس سجلت في الفترة ما بين 2022 و2023 نحو 24 ألف حالة عنف في الوسط المدرسي وارتفع هذا العدد بنسبة 19 % خلال الموسم الدراسي الحالي.

تنامي العنف والتنمر في مؤسسات التعليم بالبلاد فتح النقاش في الأوساط التونسية بشأن الأسباب والتداعيات رافقه جدل بشأن ما يعتبره المهتمون بالشأن التوبوي فشل السلطة في تطويق هذه الظواهر.

أسباب عديدة

في حديثه عن أسباب تنامي العنف والتنمر في الفضاء التربوي بتونس، يؤكد الكاتب العام للجامعة العامة للتعليم الثانوي (أكبر نقابة تعليم في تونس) محمد الصافي أنها عديدة ومتنوعة ويأتي في مقدمتها تخلي الأسرة في المجتمع التونسي عن دورها في الإحاطة وتأطير أبنائها لأسباب اقتصادية واجتماعية وسياسية.

ويضيف الصافي لـ "الحرة" بأن هناك تطبيع مع العنف كرسته ظواهر عديدة منها ما يبث في وسائل الإعلام وأيضا انفتاح الناشئة على العالم الآخر ليصبح العنف جزء لا يتجزأ من الحياة اليومية للتونسيين إذ لا يمر يوم دون تسجيل حالة عنف داخل المؤسسات التربوية.

ويشدد على ما اعتبره وضعا مأزوما داخل مؤسسات التعليم بتونس وصل إلى حد وضع تلاميذ لأفعى داخل قاعة التدريس بإحدى المؤسسات التربوية بمحافظة توزر جنوب غربي البلاد مؤكدا أن هذه الظواهر تعكس فشلا ذريعا في تطويقها والحد منها.

وتشير إحصائيات قدمتها وزارة الداخلية في نوفمبر الماضي إلى ارتفاع عدد القضايا المتعلقة بالعنف في فضاء المؤسسات التربوية من 1947 قضية سنة 2021 إلى 2231 قضية في 2023 لافتة إلى أن جل القضايا تورط فيها أطفال أعمارهم أقل من 18 سنة.

تدهور منظومة التعليم 

من جانبه، يرى رئيس الجمعية التونسية لأولياء التلاميذ (غير حكومية) رضا الزهروني أن المنظومة التربوية في تونس تدهورت بشكل حاد، وتراجعت معها القيمة الاعتبارية للتعليم وانخفضت جودته مقارنة بفترة السبعينات والثمانينات.

ويوضح الزهروني في حديثه لـ"الحرة" بأن هذا التراجع اللافت فضلا عن تنامي ظواهر عديدة من بينها العنف والمخدرات أدى إلى ارتفاع نسب الانقطاع عن الدراسة حيث باتت تسجل المؤسسات التربوية انقطاع نحو 100 ألف تلميذ سنويا.

ويرجع المتحدث الأسباب في ذلك، إلى تدهور العلاقة بين المدرس والتلميذ من ناحية وإلى محاولات إصلاح منظومة التعليم بطرق اعتبرها ظرفية ولا تعالج الأزمة من جذورها من ناحية ثانية، مشددا على أهمية تشريك مختلف المتدخلين في الشأن التربوي في عملية الإصلاح التي تنطلق من مرحلة التعليم في طوره الابتدائي ثم الإعدادي وصولا إلى مرحلة الثانوي.

ويتفق الكاتب العام للجامعة العامة للتعليم الثانوي محمد الصافي مع الآراء الداعية إلى أهمية اتخاذ تدابير صارمة لحماية الهيئات التعليمية من الاعتداءات، فضلا عن ضرورة تعزيز التوعية بقيم الاحترام المتبادل في الأوساط المدرسية.

مراجعة شاملة

وفي هذا الخصوص، يدعو محمد الصافي إلى مراجعة شاملة لمنظومة التربية والتعليم بناء على حوار اجتماعي تشارك فيه كافة الهياكل والأطراف المعنية بالشأن التربوي فضلا عن السعي إلى إعادة القيمة الاعتبارية لمؤسسات التعليم العمومية في المخيال الجمعي.

وفي سبتمبر 2023 أطلقت وزارة التربية التونسية استشارة وطنية لإصلاح نظام التربية والتعليم البحث العلمي تركزت أساسا حول التربية في مرحلة الطفولة المبكرة والإحاطة بالأسرة برامج التدريس ونظام التقويم والزمن المدرسي والتنسيق بين أنظمة التربية والتكوين المهني والتعليم العالي، غير أن هذه الاستشارة لم تقدم بعد مخرجاتها.

وسبق للرئيس التونسي قيس سعيد أن شدد في خطاباته على أهمية إحداث المجلس الأعلى للتربية والتعليم، قبل أن يمضى في سبتمبر المنقضي على مرسوم يتعلق بضبط تركيبة هذا المجلس واختصاصاته وطرق سيره، وذلك بعد مداولة مجلس الوزراء، وبعد إعلام لجنة التربية والتكوين المهني والبحث العلمي والشباب والرياضة بمجلس نواب الشعب.

المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب فرع تونس تقاضي تونس أمام لجنة مناهضة التعذيب بالأمم المتحدة
المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب فرع تونس تقاضي تونس أمام لجنة مناهضة التعذيب بالأمم المتحدة

أعلنت المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب فرع تونس، رفع شكاية ضد الدولة التونسية، إلى لجنة الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب في جنيف على خلفية ما اعتبرته "عدم قدرة الدولة على الوفاء بالتزاماتها في التحقيق مع مرتكبي جرائم التعذيب وسوء المعاملة وتتبعهم قضائيا والتعويض للضحايا".

وفي هذا الصدد، قالت المستشارة القانونية للمنظمة العالمية لمناهضة التعذيب إيناس لملوم إن الشكوى ضد الدولة التونسية تتعلق بانتهاكها لحق رد الاعتبار لستّة من ضحايا التعذيب وسوء المعاملة في فترة الثمانينات والتسعينات، لافتة إلى أن منهم من توفّي جراء التعذيب فيما يزال آخرون على قيد الحياة.

وأضافت لملوم لموقع "الحرة" أنه منذ انبعاث الدوائر القضائية المتخصصة في العدالة الانتقالية في 2018، ما يزال ضحايا التعذيب ينتظرون صدور أحكام تنصفهم وتنصف عائلاتهم مشيرة إلى أنه رغم مرور أكثر من 6 سنوات على انتصاب هذه الدوائر ورغم تسجيل تقدم في بعض الملفات إلاّ أن عدم إصدار أحكام قضائية يعني عدم حصول العدالة المرجوة.

وأرجعت سبب عدم البتّ في ملفات الضحايا إلى ما اعتبرتها صعوبات تواجهها الدوائر الجنائية، أهمها حركة نقل القضاة وعدم اكتمال تركيبة هذه الدوائر بسبب عدم تلقي القضاة لتكوين خاص في العدالة الانتقالية وفق ما يقتضيه القانون.

وشددت على أن تأجيل الجلسات القضائية على امتداد السنوات الفارطة تعتبره المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب "تأجيلا ممنهجا الهدف منه عدم استصدار أحكام قضائية لفائدة ضحايا التعذيب في تونس فضلا عن تعمد مرتكبي الانتهاكات الغياب عن الجلسات وهو ما يعد ضربا لمسار العدالة الانتقالية القائمة أساسا على كشف الحقيقة والمحاسبة.

وبحسب تقارير حقوقية فإن حوالي مائتي ملف محال على 13 دائرة قضائية مختصة، فيما لم يتم بعد الفصل في أي من هذه الملفات، التي أحالتها "هيئة الحقيقة والكرامة" (هيئة مستقلة) على القضاء بعد أن أوكلت لها مهمة التحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبت في تونس بين عامي 1955 و2013. 

تعذيب وقتل

رشاد جعيدان، سجين سياسي سابق، تعرض للتعذيب وسوء المعاملة عند إيقافه سنة 1993 وكذلك عدة مرات خلال فترة سجنه حتى إطلاق سراحه سنة 2006، وهو أحد الستة المتقدمين بشكاية ضد الدولة التونسية لدى لجنة الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب في جنيف.

تحدث جعيدان لـ "الحرة" عن مراحل التعذيب التي تعرض لها في فترة التسعينات قائلا: تعرضت إلى شتى أنواع التعذيب عند اعتقالي في 1993، من ذلك الصعق بالكهرباء وقلع الأظافر والكي بالسجائر ووضع العصي في أماكن حساسة من جسمي (المؤخرة) كان مشهدا سرياليا مهينا لم تراع فيه حرمة الجسد والذات البشرية".

ويتابع في السياق ذاته بأنه رغم مرور أكثر من 6 سنوات على إيداع ملفه لدى القضاء إلا أنه مازال يترقب مآلاته مؤكدا بالقول" العدالة الانتقالية في تونس في حالة إنعاش والضحايا لم ينصفهم القضاء، الأمر الذي اضطرني إلى اللجوء إلى لجنة الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب".

من جانبه، أكد رضا بركاتي أن شقيقه نبيل بركاتي توفي تحت التعذيب في مركز أمن تابع لمحافظة سليانة بالشمال الغربي لتونس في 8 مايو 1987 عقب اعتقاله في أبريل من نفس السنة.

ويوضح بركاتي لـ "الحرة" بأن ملف شقيقه تتابعه الدوائر القضائية المختصة في العدالة الانتقالية منذ يوليو 2018 ورغم انعقاد 22 جلسة قضائية في الغرض إلا أنه لم يصدر بعد أي حكم قضائي.

وبخصوص دوافع مقاضاة تونس في ملف ضحايا التعذيب، قال المتحدث، إن المعاهدات والاتفاقيات الدولية التي وقعت عليها الدولة التونسية تسمح بمقاضاتها أمام المؤسسات القضائية الدولية مشيرا إلى أن السلطة الحالية تحاول بكل الطرق تعطيل مسار العدالة الانتقالية في البلاد وعدم إنصاف عائلات الضحايا.

وسبق للرئيس التونسي قيس سعيد أن أرسى في 2022 "مؤسسة فداء" بهدف الإحاطة بضحايا الاعتداءات الإرهابية من العسكريين وأعوان قوات الأمن الداخلي والديوانة وبأولي الحق من شهداء الثورة وجرحاها في خطوة اعتبرها حقوقيون سعي إلى تجاهل ملف العدالة الانتقالية في البلاد.

"تهميش وضبابية"

في سياق متصل، يرى الكاتب العام لـ"لشبكة التونسية للعدالة الانتقالية" (حقوقية غير حكومية) حسين بوشيبة أن ملف العدالة الانتقالية وقع تهميشه وتجاهله من قبل السلطات التونسية وسط ضبابية في تعامل أصحاب القرار معه رغم شرعيته.

وقال بوشيبة في حديث لموقع "الحرة": للأسف السلطة تتغاضى عن هذا الملف جهلا أو تهميشا، وسعت إلى إرساء مؤسسات بديلة ليس لها أي أثر إيجابي في إنصاف عائلات ضحايا سوء المعاملة والتعذيب في البلاد مشددا على أن الضحايا باتوا يشعرون بالإحباط والخيبة تجاه قضاء بلادهم.

وأشار إلى أن هنالك نحو 204 ملف معروض على الدوائر القضائية المختصة في العدالة الانتقالية تتضمن انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان وفساد مالي.

وطالب الحقوقي، رئاسة الدولة ووزارة العدل التونسية بالتحرك لمعالجة ملفات ضحايا الاستبداد في فترة ما قبل الثورة التونسية في 2011 معتبرا أن "الحسم في هذا الملف يفتح الباب لمصالحة وطنية حقيقية تدعم المسار الانتقالي الذي تعيشه تونس".

"تدليس التقرير الختامي"

رغم أن هيئة الحقيقة والكرامة (هيئة دستورية) التي وقع إرساؤها عقب الثورة لمتابعة ملف العدالة الانتقالية بتونس قد أنهت أعمالها ونشرت تقريرها النهائي في الجريدة الرسمية التونسية في 2020، إلا أن رئيستها السابقة سهام بن سدرين تقبع في سجن النساء بمحافظة منوبة المحاذية لتونس العاصمة بتهمة "تدليس التقرير الختامي للهيئة." 

وكان قاضي التحقيق الأول بالقطب القضائي الاقتصادي والمالي بتونس قد أمر في أغسطس الماضي بالإيقاف التحفظي ضد بن سدرين التي ترأست الهيئة بين 2014 و2018 بعد أن تم التحقيق معها بناء على شكاية من عضو سابقة بهيئة الحقيقة والكرامة أفادت بأن التقرير النهائي، المنشور في الجريدة الرسمية، يختلف عن النسخة المقدمة إلى الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي.

في المقابل، تندد منظمات حقوقية محلية ودولية بما تعتبره "مظلمة سياسية" تتعرض لها الرئيسة السابقة لهيئة الحقيقة والكرامة سهام بن سدرين، والتي تخوض منذ نحو أسبوع إضرابا عن الطعام داخل السجن في قضية تعتبرها "كيدية".