احتجاجات سابقة في تونس

تتصاعد وتيرة التحركات الاحتجاجية في تونس تزامنًا مع أول أشهر العام الجديد، حيث تكتسب مطالب المحتجين طابعًا اجتماعيًا وسياسيًا، في خطوة تزيد من حجم الضغوط على الحكومة التونسية.

فالأساتذة والمدرسون النواب قاطعوا استئناف الدروس في المؤسسات التربوية منذ الاثنين الماضي، لدفع وزارة التربية إلى تسوية أوضاعهم المهنية.

ويأتي الإضراب قبل يوم من تنفيذ عائلات "شهداء وجرحى الثورة" وقفة احتجاجية رفضًا لضم ضحايا الثورة وجرحاها مع بقية ضحايا القوات الحاملة للسلاح، وللمطالبة بكشف الحقيقة ومحاسبة من ثبت تورطهم في قتل واستهداف المحتجين.

بالإضافة إلى ذلك، تعتزم الشبكة التونسية للحقوق والحريات (تضم أحزابًا ومنظمات وجمعيات) تنفيذ "تحرك وطني" في 14 يناير 2025، تنديدًا بما تعتبره ترديًا في الأوضاع الاجتماعية والحقوقية في البلاد.

وفي السياق ذاته، دعا الحزب الدستوري الحر (معارض) أنصاره إلى تنظيم "مسيرة وطنية سيرفع فيها العلم التونسي دون شعارات حزبية، للتنديد بتردي الأوضاع السياسية والحقوقية والاجتماعية والاقتصادية" في 18 يناير الجاري، وفق بلاغ صادر عن الحزب أواخر ديسمبر الماضي.

وتأتي هذه الاحتجاجات في ظل صعوبات اقتصادية ومالية تواجهها البلاد، مما يفتح النقاش بشأن أسباب تصاعد وتيرة الاحتجاجات ومدى قدرة الحكومة التونسية على استيعاب مطالب المحتجين.

عجز مستمر

تعليقًا على هذه التطورات، يرى المحلل السياسي خالد كرونة أن عوامل الاحتجاج الاجتماعي تكمن في عجز الحكومات المتعاقبة عن مباشرة إصلاحات جذرية تُحدث تغييرًا عميقًا في هياكل الاقتصاد المتدهورة.

ويعزو كرونة ذلك إلى غياب برنامج حقيقي، واستمرار الاعتقاد بأن المنظومة الاقتصادية القائمة لا تزال قابلة للحياة، وأن كل ما ينبغي فعله هو فقط تخليصها من الفساد.

وقال كرونة، لموقع "الحرة"، إنه كان من المفترض منذ سنوات مباشرة تفكيك مراكز هيمنة عائلات متنفذة على مقدرات البلد التي حولته إلى اقتصاد ريعي يملأ جيوبها عبر الاستحواذ على القطاعات ذات القيمة المضافة العالية، وعلى المؤسسات البنكية.

كما أشار بأصابع الاتهام إلى استمرار الهيمنة البيروقراطية والعوائق القانونية التي تمنع المبادرة الاقتصادية رغم الإجراءات القليلة التي تم اتخاذها.

واعتبر أن محاولة تخفيف أعباء الدين الخارجي ورفع شعار التعويل على الذات دون بديل تنموي حقيقي سيكون دائمًا سببًا لتصاعد الأزمة المالية والاقتصادية والاجتماعية، لا سيما مع استمرار تراجع قيمة العملة في السوق العالمية وارتفاع كلفة المواد المستوردة، فضلاً عن غياب أي تشاركية مع الأطراف والمنظمات الوطنية لتطويق بعض جوانب الأزمة.

وأضاف أن "الاحتجاج يأخذ بُعدًا سياسيًا أيضًا تبعًا للأوضاع الحقوقية التي باتت مؤشرًا على انسداد الأفق وترابط الأزمتين السياسية والاقتصادية".

وتبعًا لذلك، يعتبر كرونة أن من العسير التنبؤ بالمدى الذي يمكن أن تبلغه الاحتجاجات الاجتماعية، مشيرًا إلى أن "نزع فتيل الأزمة يمر حتمًا بإشراك الأطراف الاجتماعية والتخلي عن التردد في السير نحو إصلاحات جوهرية تُعد السبيل الوحيد لتخفيف أعباء الناس وضمان بعض الرفاه".

عدم القدرة على مجابهة الرهانات

وفي تقييمه لمدى قدرة الحكومة التونسية على تلبية المطالب الاجتماعية، يرى أستاذ الاقتصاد بالجامعة التونسية، رضا الشكندالي، أنها غير قادرة على مواجهة الضغوط في ظل الإجراءات التي تضمنها قانون المالية لسنة 2025، والتي اكتست طابعًا جبائيًا لا اقتصاديًا، وتفتقر إلى رؤية اقتصادية شاملة.

وأوضح الشكندالي أن الدولة رفعت الضريبة على دخل الكفاءات التونسية، خاصة الأطباء والمهندسين والأساتذة الجامعيين، وخفضت في المقابل الضريبة على دخل الشرائح الاجتماعية الضعيفة، بهدف تكريس ما سمته بالعدالة الاجتماعية.

إلا أن هذا الإجراء، وفق الشكندالي، أدى إلى نتيجة عكسية، حيث زادت نفقات هذه الفئة نتيجة لجوء بعض المهن الحرة إلى رفع أسعار خدماتها.

وأضاف أن توجه الحكومة نحو تمويل نفقات الدولة عبر سياسة الاقتراض الداخلي سيؤدي إلى "تصحر السيولة على مستوى الاستثمار الخاص"، مما سيؤدي بدوره إلى انسداد الأفق الاقتصادي وعدم تحقيق نسبة النمو المرجوة والمقدرة بأكثر من 3٪ هذا العام.

وأشار الشكندالي إلى أن الأزمة الاجتماعية في تونس تعود إلى ما وصفه بتفضيل الحكومات المتعاقبة منذ الثورة عام 2011 للانتقال السياسي على حساب الانتقال الاقتصادي، منتقدًا سياسات الحكومة في معالجة هذا الملف.

وتشير المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية الصادرة عن المعهد الوطني للإحصاء (حكومي) لعام 2024، إلى أن نسبة البطالة في تونس بلغت 16٪، فيما سجل النمو الاقتصادي للربع الثالث من نفس العام نسبة 1.8٪، بينما وصلت نسبة التضخم خلال ديسمبر الماضي إلى 6.2٪.

المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب فرع تونس تقاضي تونس أمام لجنة مناهضة التعذيب بالأمم المتحدة
المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب فرع تونس تقاضي تونس أمام لجنة مناهضة التعذيب بالأمم المتحدة

أعلنت المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب فرع تونس، رفع شكاية ضد الدولة التونسية، إلى لجنة الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب في جنيف على خلفية ما اعتبرته "عدم قدرة الدولة على الوفاء بالتزاماتها في التحقيق مع مرتكبي جرائم التعذيب وسوء المعاملة وتتبعهم قضائيا والتعويض للضحايا".

وفي هذا الصدد، قالت المستشارة القانونية للمنظمة العالمية لمناهضة التعذيب إيناس لملوم إن الشكوى ضد الدولة التونسية تتعلق بانتهاكها لحق رد الاعتبار لستّة من ضحايا التعذيب وسوء المعاملة في فترة الثمانينات والتسعينات، لافتة إلى أن منهم من توفّي جراء التعذيب فيما يزال آخرون على قيد الحياة.

وأضافت لملوم لموقع "الحرة" أنه منذ انبعاث الدوائر القضائية المتخصصة في العدالة الانتقالية في 2018، ما يزال ضحايا التعذيب ينتظرون صدور أحكام تنصفهم وتنصف عائلاتهم مشيرة إلى أنه رغم مرور أكثر من 6 سنوات على انتصاب هذه الدوائر ورغم تسجيل تقدم في بعض الملفات إلاّ أن عدم إصدار أحكام قضائية يعني عدم حصول العدالة المرجوة.

وأرجعت سبب عدم البتّ في ملفات الضحايا إلى ما اعتبرتها صعوبات تواجهها الدوائر الجنائية، أهمها حركة نقل القضاة وعدم اكتمال تركيبة هذه الدوائر بسبب عدم تلقي القضاة لتكوين خاص في العدالة الانتقالية وفق ما يقتضيه القانون.

وشددت على أن تأجيل الجلسات القضائية على امتداد السنوات الفارطة تعتبره المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب "تأجيلا ممنهجا الهدف منه عدم استصدار أحكام قضائية لفائدة ضحايا التعذيب في تونس فضلا عن تعمد مرتكبي الانتهاكات الغياب عن الجلسات وهو ما يعد ضربا لمسار العدالة الانتقالية القائمة أساسا على كشف الحقيقة والمحاسبة.

وبحسب تقارير حقوقية فإن حوالي مائتي ملف محال على 13 دائرة قضائية مختصة، فيما لم يتم بعد الفصل في أي من هذه الملفات، التي أحالتها "هيئة الحقيقة والكرامة" (هيئة مستقلة) على القضاء بعد أن أوكلت لها مهمة التحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبت في تونس بين عامي 1955 و2013. 

تعذيب وقتل

رشاد جعيدان، سجين سياسي سابق، تعرض للتعذيب وسوء المعاملة عند إيقافه سنة 1993 وكذلك عدة مرات خلال فترة سجنه حتى إطلاق سراحه سنة 2006، وهو أحد الستة المتقدمين بشكاية ضد الدولة التونسية لدى لجنة الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب في جنيف.

تحدث جعيدان لـ "الحرة" عن مراحل التعذيب التي تعرض لها في فترة التسعينات قائلا: تعرضت إلى شتى أنواع التعذيب عند اعتقالي في 1993، من ذلك الصعق بالكهرباء وقلع الأظافر والكي بالسجائر ووضع العصي في أماكن حساسة من جسمي (المؤخرة) كان مشهدا سرياليا مهينا لم تراع فيه حرمة الجسد والذات البشرية".

ويتابع في السياق ذاته بأنه رغم مرور أكثر من 6 سنوات على إيداع ملفه لدى القضاء إلا أنه مازال يترقب مآلاته مؤكدا بالقول" العدالة الانتقالية في تونس في حالة إنعاش والضحايا لم ينصفهم القضاء، الأمر الذي اضطرني إلى اللجوء إلى لجنة الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب".

من جانبه، أكد رضا بركاتي أن شقيقه نبيل بركاتي توفي تحت التعذيب في مركز أمن تابع لمحافظة سليانة بالشمال الغربي لتونس في 8 مايو 1987 عقب اعتقاله في أبريل من نفس السنة.

ويوضح بركاتي لـ "الحرة" بأن ملف شقيقه تتابعه الدوائر القضائية المختصة في العدالة الانتقالية منذ يوليو 2018 ورغم انعقاد 22 جلسة قضائية في الغرض إلا أنه لم يصدر بعد أي حكم قضائي.

وبخصوص دوافع مقاضاة تونس في ملف ضحايا التعذيب، قال المتحدث، إن المعاهدات والاتفاقيات الدولية التي وقعت عليها الدولة التونسية تسمح بمقاضاتها أمام المؤسسات القضائية الدولية مشيرا إلى أن السلطة الحالية تحاول بكل الطرق تعطيل مسار العدالة الانتقالية في البلاد وعدم إنصاف عائلات الضحايا.

وسبق للرئيس التونسي قيس سعيد أن أرسى في 2022 "مؤسسة فداء" بهدف الإحاطة بضحايا الاعتداءات الإرهابية من العسكريين وأعوان قوات الأمن الداخلي والديوانة وبأولي الحق من شهداء الثورة وجرحاها في خطوة اعتبرها حقوقيون سعي إلى تجاهل ملف العدالة الانتقالية في البلاد.

"تهميش وضبابية"

في سياق متصل، يرى الكاتب العام لـ"لشبكة التونسية للعدالة الانتقالية" (حقوقية غير حكومية) حسين بوشيبة أن ملف العدالة الانتقالية وقع تهميشه وتجاهله من قبل السلطات التونسية وسط ضبابية في تعامل أصحاب القرار معه رغم شرعيته.

وقال بوشيبة في حديث لموقع "الحرة": للأسف السلطة تتغاضى عن هذا الملف جهلا أو تهميشا، وسعت إلى إرساء مؤسسات بديلة ليس لها أي أثر إيجابي في إنصاف عائلات ضحايا سوء المعاملة والتعذيب في البلاد مشددا على أن الضحايا باتوا يشعرون بالإحباط والخيبة تجاه قضاء بلادهم.

وأشار إلى أن هنالك نحو 204 ملف معروض على الدوائر القضائية المختصة في العدالة الانتقالية تتضمن انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان وفساد مالي.

وطالب الحقوقي، رئاسة الدولة ووزارة العدل التونسية بالتحرك لمعالجة ملفات ضحايا الاستبداد في فترة ما قبل الثورة التونسية في 2011 معتبرا أن "الحسم في هذا الملف يفتح الباب لمصالحة وطنية حقيقية تدعم المسار الانتقالي الذي تعيشه تونس".

"تدليس التقرير الختامي"

رغم أن هيئة الحقيقة والكرامة (هيئة دستورية) التي وقع إرساؤها عقب الثورة لمتابعة ملف العدالة الانتقالية بتونس قد أنهت أعمالها ونشرت تقريرها النهائي في الجريدة الرسمية التونسية في 2020، إلا أن رئيستها السابقة سهام بن سدرين تقبع في سجن النساء بمحافظة منوبة المحاذية لتونس العاصمة بتهمة "تدليس التقرير الختامي للهيئة." 

وكان قاضي التحقيق الأول بالقطب القضائي الاقتصادي والمالي بتونس قد أمر في أغسطس الماضي بالإيقاف التحفظي ضد بن سدرين التي ترأست الهيئة بين 2014 و2018 بعد أن تم التحقيق معها بناء على شكاية من عضو سابقة بهيئة الحقيقة والكرامة أفادت بأن التقرير النهائي، المنشور في الجريدة الرسمية، يختلف عن النسخة المقدمة إلى الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي.

في المقابل، تندد منظمات حقوقية محلية ودولية بما تعتبره "مظلمة سياسية" تتعرض لها الرئيسة السابقة لهيئة الحقيقة والكرامة سهام بن سدرين، والتي تخوض منذ نحو أسبوع إضرابا عن الطعام داخل السجن في قضية تعتبرها "كيدية".