تترك تركيا وراءها "الانتخابات التاريخية" بفوز رجب طيب إردوغان بولاية رئاسية جديدة، وفي وقت تنتظر البلاد القسم الذي سيؤديه الرئيس التركي خلال الأيام المقبلة، تتجه أنظار الشارع إلى السياسات الجديدة التي سيتخذها، على صعيد السياسة الخارجية والداخلية، وفي مقدمتها الاقتصاد.
ويعتبر الملف الاقتصادي الخاص بالبلاد، ومسار الهبوط الذي تعيشه الليرة وارتفاع معدلات التضخم وأوضاع متضرري كارثة الزلزال، أحد أبرز التحديات التي سيواجهها إردوغان في المرحلة المقبلة، ولاسيما أنه أطلق وعودا كثيرة في هذا الصدد.
وهبطت الليرة التركية لمستوى قياسي جديد عند 20.2 مقابل الدولار، الثلاثاء. وجاء ذلك استمرارا لمسار هبوط كانت قد دخلته في فترة ما قبل الانتخابات، وما بعد الإعلان عن نتائج جولة الإعادة.
وفي غضون ذلك، كانت نسب التضخم قد وصلت عن شهر أبريل الماضي إلى 44 بالمئة، بينما تحدث اقتصاديون وخبراء، الثلاثاء، بناء على أرقام، عن تضاؤل احتياطات البنك المركزي التركي من العملات الأجنبية.
ونقلت وكالة "رويترز" عن خبراء مصرفيين قولهم إن صافي احتياطيات النقد الأجنبي لدى البنك المركزي انخفض إلى -2.5 مليار دولار الأسبوع الماضي.
وأوضح الخبراء الأربعة في حديثهم أن "انخفاض صافي الاحتياطيات إلى السالب هو الأول من نوعه منذ عام 2002".
وكان إردوغان أوضح في خطابه من على الشرفة في المجمع الرئاسي بأنقرة، ليلة الأحد، أن "المسألة الأهم في الأيام المقبلة تتمثل بحل مشكلات زيادة الأسعار الناجمة عن التضخم".
وأضاف أن حكومته "ستسخر كافة إمكاناتها في الفترة المقبلة لنهضة الاقتصاد وتأهيل مناطق الزلزال"، دون أن يحدد بالتفصيل ما إذا كان سيظل ماضيا في سياسته السابقة أم سيتخذ نهجا مختلفا، بناء على "فريق اقتصادي جديد"، نشرت الكثير من الأخبار حول أسمائه.
ما المتوقع اقتصاديا؟
وكان عام 2022 شهد تطبيق النموذج الاقتصادي المبتكر من جانب الحكومة، الذي قام على فكرة "غير تقليدية"، وهي أن الفائدة هي سبب التضخم، على خلاف النظرية الاقتصادية التي تقول إن معالجة التضخم تتطلب رفع أسعار الفائدة.
وبموجب السياسة غير التقليدية، استمر البنك المركزي التركي بتخفيض أسعار الفائدة بشكل متسلسل، بدءا من الحد الأول 19 ووصولا إلى تثبيتها عند 8.5 بالمئة، أي فئة "الآحاد"، وهو الوعد الذي كرره إردوغان مرارا، وحققه.
لكن ما سبق انعكس على قيمة الليرة التركية، بعدما تأثرت سابقا وفق خبراء بسلسلة الإقالات التي اتخذها إردوغان، واستهدفت محافظي البنك المركزي ووزراء الخزانة والمالية.
وفي الوقت الحالي، وبحسب التقويم الانتخابي سيتم إعلان نتيجة الانتخابات الرئاسية النهائية يوم الخميس (الأول من شهر يونيو)، وبموجب القانون، يجب أن يؤدي إردوغان اليمين في غضون ثلاثة أيام.
وذكرت وسائل إعلام تركية، الثلاثاء، أن إردوغان سيؤدي اليمين في البرلمان، الجمعة، ليتجه بعد ذلك إلى الإعلان عن تشكيلة الحكومة الجديد، مساء اليوم المذكور.
ومن المتوقع بعد ذلك أن يؤدي نائب الرئيس المعين أو نواب الرئيس والوزراء الجدد اليمين في البرلمان يوم السبت (أي في اليوم التالي).
من جهتها أشارت صحيفة "صباح" المقربة من الحكومة إلى أن إردوغان سيحدد "فريق الثقة والاستقرار" للفترة الجديدة في الاقتصاد، يوم الاثنين على أبعد تقدير.
وبينما يسود الكثير من الفضول بشأن أسماء الوزراء الجدد، ظهر اسم محمد شيمشك الذي شغل مناصب مهمة جدا مثل نائب رئيس الوزراء ووزارة المالية في حكومات حزب "العدالة والتنمية" السابقة، في المقدمة.
وكان اسم شيمشك تردد على لسان إردوغان قبل الانتخابات، بعدما قال إنه "شكّل فريقا لتعزيز السياسات الاقتصادية، بتنسيق شيمشك"، وهو ما لم يؤكده الأخير رسميا.
وبقيت هذه القضية مثار جدل وتكهنات، إلى أن عاد الحديث عنها من جديد بعد فوز إردوغان واللقاء الذي عقده، ليلة الاثنين مع الاقتصادي المذكور، بحسب ما ذكرت "بلومبيرغ" ووسائل إعلام تركية.
وأجرى إردوغان وشيمشك في لقاء ليلة الاثنين "تقييمات لبرنامج الاقتصاد الجديد وفريقه"، بحسب "صباح" وصحيفة "حرييت"، كما ناقشا "خريطة الطريق الاقتصادية للحكومة الجديدة".
ولم يصدر أي تعليق رسمي من كلا الطرفين، لكن الناطق باسم الرئاسة التركية، إبراهيم قالن، قال للصحفيين إنه "بمجرد أن يصبح شيمشك في مجلس الوزراء الجديد سيواصل المساهمة في سياساتنا الاقتصادية".
وإلى جانب هذا الاقتصادي تطرقت وسائل إعلام مقربة من الحكومة إلى أسماء أخرى من المتوقع أن تنخرط في الفريق الاقتصادي الجديد لإردوغان.
ومن بينهم الموظفون الاقتصاديون في "العدالة والتنمية" جودت يلماز ومصطفى إليتاش وفيدات دميروز، الذين تم استبعادهم من البرلمان بسبب حكم الثلاث فترات.
وذُكر أيضا اسم وزير الخزانة والمالية السابق لطفي إلفان، الذي استقال أواخر العام 2021، بعدما وجه له إردوغان انتقادا ضمنيا لمعارضته سياسة خفض سعر الفائدة.
من هو شيمشك؟
ولد شيمشك، في يناير 1967 في منطقة أريكا في باتمان، وبعد تخرجه من جامعة أنقرة، قسم الاقتصاد، أكمل درجة الماجستير في جامعة إكستر في إنكلترا.
يقول هذا السياسي، الذي فتح عينيه على الحياة بالفقر في قرية أريكا التابعة لمنطقة جركوش في باتمان، في سيرته الذاتية على موقعه على الإنترنت: "في بعض الأحيان يكون من حسن الحظ أن نبدأ حياة مليئة بالفقر والمتاعب".
عاد شيمشك إلى تركيا عام 1993، بعد حصوله على درجة الماجستير في العلوم المالية والاقتصاد من جامعة إكستر، وبعدها عمل خبيرا اقتصاديا في السفارة الأميركية لدى أنقرة.
ثم عمل بعد ذلك كخبير اقتصادي أول في سفارة الولايات المتحدة لدى أنقرة لنحو أربع سنوات، ثم كباحث بعد انتقاله إلى نيويورك، في عام 1997، لدى قسم تحليل الأسهم في بنك الاستثمار الدولي "UBS"، ومن ثم في "ميريل لينش"، أحد البنوك الاستثمارية الرائدة في العالم، وفق صحيفة "حرييت".
بالإضافة إلى عمله بصفته وزير المالية، شغل شيمشك في السابق منصب محافظ صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في تركيا، بين عامي 2007-2009، وكان عضوا في مجلس التنسيق لوكالة إسطنبول لعام 2010 كعاصمة للثقافة الأوروبية، بين عامي 2008-2011.
وفي عام 2012، حين شارك شيمشك بنشاط في إدارة الاقتصاد، بلغت حصة الأجانب في سوق السندات المقومة بالليرة ذروتها، إذ وصلت إلى حوالي 25 في المئة. وتظهر بيانات الخزانة أنها استقرت عند 0.8 بالمئة في نهاية يناير، وفق "رويترز".
وظل شيمشك نائبا لرئيس الوزراء، حتى عام 2018. ورغم تردد اسمه كثيرا بعدما التقى إردوغان في مقر حزب "العدالة والتنمية"، قبل الانتخابات، أعلن في بيان لاحق أنه "لا ينوي العودة إلى السياسة".
ويُنظر إلى هذا الاقتصادي الكبير على أنه اسم يطبق قواعد اقتصاد السوق الحر والسياسات الاقتصادية التقليدية، على خلاف ما يسير فيه الرئيس التركي، منذ أواخر عام 2021، بعدما أعلن المضي بنموذج اقتصادي فريد وغير تقليدي.
ويقوم هذا النموذج على أن الفائدة هي سبب التضخم، وأنه يجب خفضها، وهو ما حصل لتصل إلى حد 8.5 بالمئة.
"خيار صديق الأسواق"
ومن غير الواضح ما إذا كان اسم شيمشك سيكون حاضرا في الفريق الاقتصادي الجديد لإردوغان بالفعل في المرحلة المقبلة. ومع ذلك يتوقع الكثير من الخبراء ووسائل الإعلام أن يتخذ هذه الخطوة.
وكتب المدير العام السابق لبنك "زراعات" الحكومي، تشينول بابوتشوجو عبر "تويتر"، الثلاثاء إن "شيمشك على عرض تولي الاقتصاد، ويتم النظر الآن في واحدة من 3 مهام ستوكل له".
وهذه المهام هي إما "نائب الرئيس المسؤول عن الاقتصاد" أو "مستشار الرئيس لشؤون الاقتصاد" أو وزير الخزانة والمالية.
وأضاف بابوتشوجو: "لا يهم من هو قائد الاقتصاد، من هو وزير الخزانة والمالية، من هو رئيس البنك المركزي. لن يتغير شيء ما لم تتخذ القرارات بعقل مشترك".
وتطرقت وسائل إعلام مقربة من الحكومة إلى ما سبق. وذكرت صحيفة "حرييت" أن "محمد شيمشك هو اسم يختلف عن السياسات الاقتصادية الحالية إلى جانب كونه اسما يتمتع بائتمان عالٍ في الأسواق الدولية".
وأضافت الصحيفة أن اجتماع إردوغان معه ليلة الاثنين "سار بشكل جيد"، وأنه "يقال إذا تولى شيمشك إدارة الاقتصاد في الفترة الجديدة سيتم تشكيل فريق جماعي يشارك فيه لطفي إلفان وجودت يلماز".
ويرى الأستاذ الجامعي، الباحث الاقتصادي، مخلص الناظر، أن "النموذج الاقتصادي الذي تم اتباعه في تركيا خلال الفترة الماضية من المستحيل فعليا أن يستمر في المرحلة المقبلة".
ويقول لموقع "الحرة": "إذا استمرت ذات السياسة ستشهد البلاد سيناريو الأرجنتين وربما نعود لفترة التسعينيات، حين تسببت رئيسة الوزراء آنذاك تانسو تشيلر بأزمة كبيرة، نتيجة الفكرة القائمة على ودائع الليرة المحمية".
و"تتوقع بورصة إسطنبول تأثيرا كبيرا لاسم شيمشك خلال المرحلة المقبلة، وهو ما انعكس على أسهم البورصة وقطاع البنوك، صباح الثلاثاء، التي سجلت ارتفاعا كبيرا".
ويضيف الناظر: "شيمشك يعرف بلقب صديق الأسواق التي تشهد ارتياحا عندما يكون موجودا".
والاقتصادي المتوقع أن يكون له دور بارز في اقتصاد تركيا المقبل "صاحب فكر اقتصادي ليبرالي حر"، ورغم أن وجوده سيكون مهما فإنه لن تكون بيده "عصا سحرية".
ومع ذلك يتابع الناظر: "وجوده واتباعه سياسة نقدية واضحة سيشجّع الاستثمار الأجنبي لتركيا"، فيما "لن يتحقق ذلك إلا إذا أعطيت له مساحة حرة للعمل، من خلال رسم قرارات اقتصادية دون أي تدخلات".
ويعتقد رجل الأعمال التركي، علاء الدين شنكولر، أن "شيمشك ولطفي إلفان لن يستمرا بنفس المنهج الخاص بإردوغان ووزير المالية نور الدين نباتي".
ويقول لموقع "الحرة": "أظن أن السياسية الاقتصادية الخاصة بالحكومة التركية ستتغير مع هذين الاسمين وفي حال انخراطهما في المشهد"، مضيفا: "هكذا أتوقع وأتمنى ذلك".
"البراعة بالأدوات"
وبحسب صحيفة "فاينانشال تايمز" البريطانية، يجادل العديد من الاقتصاديين بأن سياسات إردوغان المتمثلة في خفض أسعار الفائدة، والتدابير الطارئة لدعم العملة، لا يمكن أن تستمر مع انخفاض احتياطيات العملة التركية بسرعة.
وأوضح الخبير الاقتصادي، ليام بيتش، من وكالة كابيتال إيكونوميكس في لندن أنه "لا يمكن لتركيا أن تستمر في معدلات فائدة منخفضة للغاية وسياسة مالية فضفاضة للغاية تحرق جميع أنواع احتياطيات العملات الأجنبية لفترة أطول بكثير".
بدوره قال يلكر دوماك، من بنك "سيتي جروب": "بعد الانتخابات، ستتجه كل الأنظار إلى تركيبة الفريق الاقتصادي ومصداقية الاستجابة السياسية الأولية". لكنه حذّر من أنه سيكون "تحديا متزايدا" للبنك المركزي التركي للإبقاء على أسعار الفائدة أقل بكثير من التضخم، "لا سيما خلال الربع الأخير من العام وما بعده".
ويعتقد الباحث الناظر أن "أحد طلبات شيمشك لقيادة دفة الاقتصاد هو ترك الليرة إلى قوة العرض والطلب، بمعنى أن تصل إلى قيمتها الحقيقة والمحددة بحوالي 24 – 25".
وتشير البيانات التي صدرت قبل الانتخابات إلى "تآكل احتياطات البنك المركزي"، وهو ما يراه الناظر "تحديا أمام شيمشك".
ويوضح: "لا يمكن التدخل الآن إلا عن طريق احتياطي الذهب"، وأنه "سواء شيمشك أو أي شخص آخر سيكون له أدوات محدودة، فيما تمكن البراعة باختيارها وترتيبها، من أجل عملية الإصلاح وتخفيف الضرر".