ما تزال أصداء خسارة المعارضة التركية للانتخابات حاضرة في المشهد السياسي للبلاد، وبينما بدأ رجب طيب إردوغان أولى خطوات ولايتة الرئاسية الثالثة، كسرت "رسائل تغيير" حالة من الصمت فرضها سياسيون منذ يوم 28 من مايو الماضي، وعلى رأسهم زعيم "حزب الشعب الجمهوري"، كمال كليتشدار أوغلو.
وهذه الرسائل كررها لمرتين عمدة إسطنبول، أكرم إمام أوغلو، بعد الإعلان عن النتائج الرسمية، وقرأها مراقبون على أنها "دعوة ضمنية" لكليتشدار أوغلو، لكي يتنحى عن كرسي رئاسة الحزب العلماني، في وقت أكد الأخير في بيان أنه "سيواصل النضال".
وينتمي إمام أوغلو لـ"حزب الشعب الجمهوري" الذي يتزعمه كليتشدار أوغلو، وكان قد وصل إلى كرسي رئاسة بلدية إسطنبول في عام 2019، ولطالما وصف الأخير العلاقة معه على أنها ضمن معادلة "الأب والابن".
لكن وبعد خسارة كليتشدار أوغلو أمام إردوغان وعجز تحالفه "الأمة" عن كسب الأغلبية في البرلمان تعالت أصوات تطالب بضرورة "التغيير"، وكان أول وأبرز من رددها إمام أوغلو.
وفي أول بيان مصور بعد الإعلان عن فوز إردوغان، قال إمام أوغلو: "لن نتوقع أبدا نتيجة مختلفة بفعل نفس الشيء"، مشيرا إلى ضرورة "إجراء تغيير"، في عبارة قرأها صحفيون أتراك على أنها تستهدف منصب كليتشدار أوغلو كزعيم لـ"حزب الشعب الجمهوري".
وعاد يوم الأربعاء ليتحدى عمدة إسطنبول رئيسه كليتشدار أوغلو بشكل غير مباشر بعد هزيمة الأخير، داعيا إلى "تغيير شامل في المعارضة الرئيسية"، ومضيفا: "للأسف خسرنا 3 انتخابات متتالية على مدار 9 سنوات، ومن غير الممكن أن نكرر الممارسات نفسها بعد هذه الانتخابات".
"رسائل وتفسيرات"
وقبل إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية لطالما تردد اسم إمام أوغلو كمرشح رئاسي لمنافسة إردوغان، وهو ما لم يتم بسبب الدعوى القضائية المرفوعة ضده، وبسبب إصرار كليتشدار أوغلو على خوض السباق.
ومع ذلك وبعدما ترشح زعيم "حزب الشعب" للرئاسة عمل إمام أوغلو بجانبه مع عمدة أنقرة، منصور يافاش، وأقدم الأول على قيادة حملته الانتخابية بعد الكشف عن نتائج الجولة الأولى، برفقة رئيسة الحزب في إسطنبول، جنان كفتانجي أوغلو.
لكن "رسائل التغيير" أثارت الكثير من التفسيرات في الأيام الماضية، وحتى أنها تحولت إلى الخبر الأساسي المتعلق بالمعارضة التركية في مرحلة ما بعد الانتخابات.
وانقسمت التفسيرات لدى المراقبين المحسوبين على أوساط المعارضة بين فكرة مفادها أن إمام أوغلو يقصد بكلماته كليتشدار أوغلو وأن عليه الرحيل لإحداث "التغيير الشامل".
في المقابل، كان هناك تفسيرات أخرى تشير إلى أن إمام أوغلو يقصد بالفعل رحيل كليتشدار أوغلو، في مسعى من جانبه للترشح لرئاسة "حزب الشعب الجمهوري"، بعدما سنوات طويلة من تمسك الأخير بهذا المنصب.
وبعد بدء أعمال البرلمان، ستكون أولى خطوات "تحالف الجمهور" الحاكم طرح اقتراح التعديل الدستوري الخاص بالحجاب ومؤسسة الأسرة، والذي تم تعليقه مؤخرا، بسبب كارثة الزلزال.
في المقابل، التقى كليتشدا أوغلو وإمام أوغلو يوم الأحد الماضي، وصرح الأخير أن "هناك حاجة للتغيير في حزب الشعب الجمهوري من أجل تغيير السلطة".
وذكر الصحفي المعارض في صحيفة "سوزكو"، إسماعيل سايماز، أن إمام أوغلو اقترح "قيادة التغيير"، وعقد المؤتمر الاستثنائي قبل الانتخابات المحلية في مارس 2024 والشروع في عملية ديمقراطية يمكن من خلالها تغيير جميع السلطات، بما في ذلك الرئاسة العامة لـ"الشعب الجمهوري".
لكن كليتشدار أوغلو، وبحسب الصحفي "أراد ترك المؤتمر العام إلى ما بعد الانتخابات المحلية"، الأمر الذي يعطي دلالة على أن "الأب والابن لم يتمكنا من التوافق"، حسب تعبير سايماز.
وأشار إلى أنه "عندما يتم تحديد موعد المؤتمر للحزب، سيكون إمام أوغلو مرشحا للرئاسة، وكليتشدار أوغلو لا يفكر بالانسحاب".
ومن غير الواضح ما إذا كان إمام أوغلو يطمح لرئاسة "حزب الشعب الجمهوري" أكبر أحزاب المعارضة، وخاصة أنه يواجه حكما قضائيا يهدد مسيرته السياسية، وقد تنتهي جلساته بالحظر.
في غضون ذلك، لا توجد مؤشرات على أن كليتشدار أوغلو سيكون مستعدا لترك منصب رئيس "الشعب الجمهوري"، كونه يواصل السير بهذا الطريق منذ عام 2010 بعد استقالة رئيس مجلس الإدارة، حينها، دينيز بايكال، بسبب "فضيحة الكاسيت الجنسي".
"يجب تغيير الدماء"
وكان إردوغان قد كسب في الجولة الأولى من سباق الانتخابات الأغلبية في البرلمان، وتمكن في الجولة الثانية من الحفاظ على كرسي الرئاسة لخمس سنوات مقبلة.
ومن المقرر أن تكون الأحزاب المعارضة أو الحاكم "العدالة والتنمية" على موعد يتعلق بتنظيم مؤتمراتها العامة، وموعد آخر يرتبط بانتخابات البلديات في مارس 2024.
وترسم الأحزاب في هذه المؤتمرات استراتيجية عملها، والهيكل الخاص بها للمرحلة المقبلة، فيما تحظى انتخابات البلدية بأهمية بالغة، وهو ما تطرق إليه إردوغان من إسطنبول، مركزا على نية حزبه الفوز مجددا بهذه المدينة.
ويتحدث الباحث السياسي، مصطفى أوزجان، عن "بلبلة في صفوف اليسار التركي وحزب الشعب الجمهوري"، إذ تؤيد الأقلية بقاء كليتشدار أوغلو والأكثرية "لغة التغيير" التي أطلقها أكرم إمام أوغلو.
ويقول أوزجان لموقع "الحرة" إن "كليتشدار أوغلو خاض الانتخابات أكثر من مرة وفشل أمام إردوغان. لقد وصل إلى عمر كبير ولابد أن يتنازل حتى تكون هناك دماء جديدة ويكون الشعب الجمهوري أكثر نشاطا".
وتؤكد "رسائل إمام أوغلو" مساعيه لإحداث تغيير داخلي ضمن رئاسة وصفوف "حزب الشعب الجمهوري".
ومع ذلك، يضيف أوزجان: "إمام أوغلو لابد أن يتخذ موقفا. لم يتبقَ لانتخابات البلديات سوى بضعة أشهر، ويمكن أن يسجن أو يصدر قرار يحظر عليه ممارسة السياسة".
"لا بد أن يتخذ إمام أوغلو قرارا مناسبا"، فيما يشير الباحث إلى "وجود الكثير من الاحتمالات داخل حزب الشعب الجمهوري"، وأنها قد تكون لصالح كليتشدار أوغلو أو عمدة إسطنبول.
"قضية في الواجهة"
وإمام أوغلو، البالغ من العمر 52 عاما، كان قد فاز برئاسة بلدية إسطنبول في عام 2019، منهيا حكم حزب "العدالة والتنمية" الحاكم على هذه المؤسسة منذ 2002. وتعود جذور الحكم الصادر بحقه إلى الفترة التي شهدت وصوله إلى كرسي "العمدة".
في تلك الفترة، أي قبل أربع سنوات، ألقى إمام أوغلو كلمة عقب قرار "اللجنة العليا للانتخابات" بإعادة إجراء الانتخابات المحلية في إسطنبول للمرة الثانية في 2019، قائلا إن الذين ألغوا الانتخابات (الأولى) هم "أغبياء" (حمقى).
وبناء على ذلك، أعدّت النيابة العامة دعوى بحقه بتهمة "توجيه إهانات لموظفي القطاع العام"، والمطالبة بسجنه أربع سنوات وشهر واحد، ومنعه من العمل السياسي، لتعقد الجلسة الأولى في يونيو من عام 2022.
ورغم أن إمام أوغلو قال خلال الأشهر الفائتة، ومنذ توجيه التهمة له إن كلماته كانت موجهة لوزير الداخلية، سليمان صويلو، إلا أن "اللجنة العليا"، وهي أعلى هيئة انتخابية في البلاد، أكدت أن أعضاءها تعرضوا لـ"الإهانة".
ويقضي الحكم الصادر بحق إمام أوغلو بالسجن لمدة عامين وسبعة أشهر و15 يوما، بتهمة إهانة كبار مسؤولي هيئة الانتخابات التركية. ورغم أن القرار "مفصلي" كما قرأه مراقبون، إلا أنه "ليس نهائيا".
وذكرت وسائل إعلام، أن القرار بالسجن سيحال إلى "محكمة الاستئناف"، وإذا تم تأييد الحكم بسجن إمام أوغلو فإن القضية ستذهب إلى المحكمة العليا. وفي حال "وافقت المحكمة العليا على قرار السجن، فسيتم منع إمام أوغلو من ممارسة السياسة".