أطاحت رياح الربيع العربي في السنوات القليلة الماضية بعدد من الأنظمة الجمهورية في تونس وليبيا ومصر واليمن، فيما تشهد سورية مخاضا عسيرا، إلا أن الأنظمة الملكية العربية لم تواجه حتى الآن معارضة تهدد وجودها. فما هو السبب في استقرارها النسبي مقارنة بالجمهوريات، وهل هي محصّنة من رياح التغيير؟
تبدو الإجابة على هذا السؤال معقدة لما لكل من الأنظمة العربية من خصوصيات، سواء كانت ملكيات أو جمهوريات، سقطت أم لم تسقط. ويعزو المحللون هذا الاستقرار النسبي للملكيات إلى أسباب تتراوح بين الرخاء الاقتصادي في بعض الدول وتوسيع المشاركة السياسية في دول أخرى، إضافة إلى الاعتماد على الإرث التاريخي والديني والشرعية الدستورية والهيبة الملكية وأسباب أخرى اجتماعية ونفسية وتعليمية.
يمكن تقسيم الأنظمة الملكية العربية البالغ عددها ثمانية إلى نوعين: النوع الأول هو بلدان
الخليج (السعودية والكويت والبحرين وقطر وعُمان والإمارات العربية المتحدة)، أما النوع الثاني من الملكيات العربية ففيها دولتان: الأردن والمغرب، ولكل منهما وضع خاص.
دول الخليج: رخاء لا يعوّض بثورة
أما دول الخليج فالاستقرار فيها استقرار مصالح ومنافع، نابع من محاولة إرضاء الفئات المختلفة بالمال والمناصب، والمواطنون فيها قلة يمكن أن تصل المناصب والمكاسب إلى نسبة كبيرة منهم، فيفضلون الرضا بالواقع على أي مغامرة ثورية ربما تضيع معها مصالحهم ومكاسبهم، حسبما يرى الدكتور عبد الرؤوف سنّو أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر في الجامعة اللبنانية.
ويقول سنو إن "هذا الرخاء يجعل شعوب دول الخليج متماسكة وتدعم الدولة خوفاً من أن تمتد رياح التغيير إليها وتخسر ما أنجزته من مكتسبات، كما أن حكومات بلدان الخليج العربي تحاول تقديم خدمات اجتماعية وحوافز لشعوبها لتمتص أية نقمة على أنظمة الحكم".
ويتفق الدكتور ماثيو بيلر أستاذ العلوم السياسية في جامعة تينيسي مع ما ذهب إليه سنو لكنه يضيف عاملا آخر هو "الاقتصاد الريعي"، الذي يرى بيلر أنه لعب دورا في تكريس الحكم في مملكات الخليج النفطية عن طريق المحسوبية، على حد قوله.
والاقتصاد الريعي هو الذي تعتمد الدولة فيه على مصدر أساسي واحد للدخل (النفط في هذه الحالة) على عكس الاقتصاد القائم على الإنتاج المتنوع الذي لا بد فيه من سياسات التشجيع والحماية الاقتصادية والتنمية المستديمة التي تبقي المواطنين يقظين يراقبون أداء الحكومة دوما.
وتعد مملكة البحرين استثناءً في الحالة الخليجية، إذ أخذت حركة المعارضة في هذه المملكة الصغيرة طابعا طائفيا، فقادتها الغالبية الشيعية للمطالبة بالحد من نفوذ أسرة آل خليفة السنية، لكن دول الخليج الأخرى ساهمت في التصدي للحركة الاحتجاجية بإرسال قوات "درع الجزيرة" إلى البحرين.
ومع ذلك، فهناك حركات معارضة سياسية في دول الخليج الأخرى تذهب أبعد من المطالبة بالإصلاح إلى المطالبة بإسقاط النظام، لا سيما في السعودية التي تنشط معظم أصواتها في لندن من أمثال الأكاديمية مضاوي الرشيد، والمعارض سعد الفقيه مؤسس "الحركة الإسلامية للإصلاح"، والمعارض محمد المسعري مؤسس "حزب التجديد الإسلامي".
الأردن: الإبقاء على شعرة معاوية مع الخصوم
في حالة الأردن، هناك قدر من الاستقرار ناتج عن عدم وجود جهة تطمع في الحكم فيه، نظراً لوضعه الاقتصادي والجغرافي والديموغرافي، إضافة إلى سياسة الإصلاحات والمشاركة السياسية التي أقرها العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، حسبما يقول الدكتور خالد شنيكات، أستاذ العلوم السياسية بجامعة البلقاء التطبيقية في الأردن.
وأضاف أن "النظام الملكي الأردني أجرى إصلاحات متنوعة، وهذا يؤمّن له ولو مؤقتا حالة من الرضا الشعبي، ورغم أن المعارضة وصفت هذه الإصلاحات بأنها غير كافية، لكن جاء الرد بأن عملية
الإصلاحات عملية مستمرة".
فضلاً عن ذلك، هناك طبيعة الممارسة السياسية للعرش الأردني التي حافظت على "شعرة معاوية" مع الفئات التي ربما تقف موقف الخصومة السياسية مع النظام.
ويرجع شنيكات ذلك إلى خبرة النظم الملكية العربية التي تعد طويلة نسبيا في التعامل مع شعوبها، "وهذا ما منحها هامشا من القدرة على فهم آليات التحرك والتغيير، وكمثال على الخبرة فإن الأجهزة الأمنية لم تستخدم بالمجمل القوة مع التظاهرات التي رافقت انطلاق الربيع العربي، وحافظت على درجة جيدة من حرية الرأي، ولو استخدمت القوة كما عمل النظام الليبي أو السوري لاتجهنا إلى الأسوأ".
وأضاف شنيكات أن التجربة الدموية في سورية أثرت إيجابا على استقرار الأردن "لأنها لم تكن مثالا جيدا في التغيير".
وأشار إلى أن معظم النشاط الاقتصادي في الأردن "مرتبط بالدولة وهذا عامل مهم في الاستقرار، علاوة على إنشاء هيئة مكافحة الفساد والذي كان من أهم مطالب الشارع الأردني".
المغرب: توسيع المشاركة السياسية
أما في المغرب، فقد مارس الملك محمد السادس منذ توليه المنصب سياسة التخلي عن بعض الصلاحيات المطلقة التي كانت له، وأحدث قدراً من الانفتاح، وسمح بقدر من النزاهة، ووسع من
مجال الحريات، وحوّل "شعرة معاوية" إلى حبل يمده لكل الجهات، مما جعل معظم التنظيمات الحزبية تتنافس في الحرص على النظام الملكي، الذي يرونه ليس في موقف العداء المباشر من أي منها، وهو ضمانة الاستقرار في البلاد، حسبما يرى الدكتور أنور مجيد، مدير مركز العلوم الإنسانية الدولية في جامعة نيو إنغلاند في ولاية مَيْن.
ومضى يقول "يميل الناس إلى الاعتقاد بأن الأنظمة الملكية أنظمة قمعية تلقائيا، غير أن هذا ليس صحيحا دائما، فمثلها مثل الأنظمة الجمهورية، قد تكون تقدمية أو مستبدة. وفي حال المغرب، فقد أتاح الملك درجة من الحرية والأمان اللذين لا يوجدان في أماكن أخرى في المنطقة، والسبب أن الشعب يشارك طوعا في الحكم، باستثناء الثوريين الذين يتمسكون بالمبادئ النظرية".
وأضاف مجيد أن "النموذج الملكي الحالي في المغرب يعمل بنجاح وليس هناك سبب كي لا يدوم، طالما أنه يواصل إدارة العلاقات الاجتماعية والسياسية بشكل جيد، ويحمي الحقوق والحريات، ويتجه بالبلد إلى الأمام".
الملوك والإرث التاريخي
ومن الأسباب الأخرى لاستقرار الأنظمة الملكية العربية بشكل عام اعتمادها على جذورها التاريخية والقبلية والأسرية (النسب الشريف)، وفقا لما يؤكده سنّو.
ويوافقه في ذلك مجيد الذي يشير إلى أن الأسرة المالكة في المغرب يعود نفوذها للقرن السابع عشر، وقد قادت البلد أثناء حركات المقاومة ضد الإسبان والبرتغاليين والفرنسيين ويسعون الآن للتقدم بالبلد نحو الحداثة.
وأضاف مجيد أنه "حين ينظر المغاربة إلى أسرتهم المالكة فإنهم يرون الإرث والاستمرارية، إنهم يشعرون بفطرتهم أن الملكية أمر مركزي في مجتمعهم، ولا يستطيعون أن يتخيّلوا نظاما سياسيا آخر".
شرعية دينية
ويرى بيلر من جانبه أن الأنظمة الملكية أكثر استقرارا لأنها أقدر على ترسيخ شرعيتها على أساس ديني.
وقال إن "الملوك يكرسون التقاليد الدينية القديمة والطقوس لحشد دعم الجماهير"، ويظهر هذا
في دول الخليج التي يؤكد علماء الدين فيها على واجب "طاعة ولي الأمر".
أما في الأردن والمغرب، المملكتين غير النفطيتين، فيشير بيلر إلى أن المَلِكَين فيهما يعود نسبهما إلى النبي محمد، ويستخدمون ذلك لتكريس شرعيتهما.
شرعية دستورية
وأضاف بيلر أن الأنظمة الملكية تتمتع بشرعية دستورية أيضا، إذ ينص الدستور بوضوح على كيفية انتقال السلطة بالوراثة ويعطي للملك سلطة مطلقة مدى الحياة.
وأشار إلى أن الجمهوريات في المقابل غالبا ما تنص دساتيرها على أن الرئيس يحكم لفترة رئاسية مؤقتة ثم تُجرى انتخابات لإعادة انتخابه أو انتخاب رئيس آخر، لكن معظم هذه الانتخابات كانت شكلية ودون أي منافسة تذكر إذ حكم الرؤساء العرب لمدة عقود، مما أفقدهم مصداقيتهم أمام شعوبهم، حسب قوله.
وتحدث سنو من جانبه عن عامل آخر استغلته الأنظمة الملكية لترسيخ حكمها وهو مناصرة الربيع العربي التي أدت، كما يقول، إلى "تبييض صفحات تلك الأنظمة، ما جعلها تظهر بمظهر التقدمية".
العامل النفسي
يمكن النظر أيضا إلى عوامل نفسية في عدم رغبة شعوب الأنظمة الملكية في الإطاحة بملوكها، كما يقول شنيكات الذي يشير في هذا الصدد إلى "النظام التعليمي وطبيعة التنشئة السياسية والاجتماعية والثقافة السياسية" في هذه البلدان.
فالملك يُعطى هيبة في البروتوكولات لا تعطى للرؤساء، إذ لا يشار إليه إلا بألفاظ التبجيل من أمثال "جلالة الملك المعظّم"، وترسخ هذه الهيبة في عقول الأطفال ونفوسهم حين توضع صورة الملك في الصفحات الأولى لكتبهم المدرسية ويغنون الأغاني الوطنية التي تجعل هوية الملك متلازمة مع الهوية الوطنية.
أما مجيد، فيرى أن العامل النفسي ينضوي أيضا على عدم وجود تراث ديموقراطي في التاريخ الإسلامي، على حد قوله.
وأضاف أنه "إذا ما جرى تحليل نفسي لهذه العقلية، نجد أنها انعكاس للواقع غير المعترف به للعرب في أنهم ليس لديهم إرث ديموقراطي يستقون منه"، ويضيف أنه على الرغم من وجود فكرة "الشورى" التي استخدمها بعض الخلفاء والملوك والأمراء في التاريخ الإسلامي، "إلا أنها شكل واهن من أشكال خداع الذات ومحاولة إدخال مفاهيم سياسية مثل الديموقراطية والمواطنة الجمهورية.. لكن ببساطة لا توجد هناك ثقافة من هذا النوع في التاريخ الإسلامي".
"لا أحد محصّن من التغيير"
ورغم الاستقرار النسبي للأنظمة الملكية فإن كثيرا من الخبراء يرون أنه من الصعب جدا القول إن النظم الملكية العربية تتمتع باستقرار دائم لأن التغيير قد يأتي بغتة، والثورات الشعبية تحدث بعد أن يفتقد الكثير من الفئات والناس العاديين أي مبرر للرضا بالواقع، ولا يخشون المشاركة في الثورة لأنه ليس لديهم ما يفقدونه.
وعن ذلك يقول شنيكات "قد يبدو الاستقرار الحالي أمرا غير حقيقي، فالمنطقة العربية تعاني من مشاكل متشابهة، وقد تتغير الأمور بسرعة وتدخل المنطقة ككل في حالة من عدم الاستقرار لأسباب تتعلق بالبطالة والفقر والعدالة الاجتماعية والفساد وكيفية محاربته والحريات واختلاف الرؤى حول كيفية إدارة الدولة، وأعتقد أن هذه من أهم عوامل عدم الاستقرار في العالم العربي".
بلاد العرب: آخر معاقل الأنظمة الملكية المطلقة
ورغم أن بعض المملكات العربية هي أنظمة ملكية دستورية ولديها برلمانات فاعلة مثل الكويت والبحرين والأردن والمغرب، إلا أن للملك فيها القول الفصل في معظم الأمور، ولذا صنفتها صحيفة واشنطن بوست جميعا بالأنظمة الملكية ذات السلطة المطلقة.
يجدر الذكر أن ما تبقى من الأنظمة الملكية في العالم التي يتمتع فيها الملك بحكم مطلق هي 10 ملكيات، 8 منها عربية، الاثنتان الأخريان هما سوازيلاند وبروناي. إضافة إلى ذلك، هناك ملكيات يتمتع الملك فيها بسلطة لكنها ليست مطلقة، وهي: موناكو وتايلاند وليختنشتاين وتونغا وبوتان. أما باقي الأنظمة الملكية الأخرى فلها صفة رمزية فقط. والانطباع هنا أن البلاد العربية هي آخر معاقل الأنظمة الملكية في العالم. ونترك للقراء التعليق على أسباب هذه الظاهرة.