في سبتمبر الماضي، أعلنت الإمارات إعادة تقييم سياستها الخارجية، وتعهدت بالتخلي عن سياسة التدخل في الصراعات، وإعادة التركيز على الاقتصاد، مستهدفة استثمارات بقيمة 150 مليار دولار من خلال روابط أعمق مع الاقتصادات سريعة النمو.
وخلال الساعات القليلة الماضية، زار ولي عهد أبوظبي، الشيخ محمد بن زايد، تركيا لأول مرة منذ 2012، في مسعى لطي صفحة الخلافات وإصلاح العلاقات المتوترة بين البلدين منذ سنوات. وأعلنت أبوظبي عقب الزيارة تأسيس صندوق بقيمة 10 مليارات دولات لدعم الاستثمارات في تركيا.
وتزامنت مع هذه الزيارة، مع لقاء نائب وزير الخارجية الإيراني، علي باقري كني، بمستشار الرئاسة الإماراتية، أنور قرقاش، ووزير الدولة، خليفة المرر، في دبي، حيث اتفق الطرفان على فتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين.
وفي التاسع من نوفمبر، التقى وزير الخارجية الإماراتي، عبدالله بن زايد، برئيس النظام السوري بشار الأسد في دمشق. وفي مطلع العام الجاري وقعت الإمارات ودول الخليج على اتفاق المصالحة مع قطر.
هل غيرت الإمارات سياستها فعلا؟
يرى المحلل السياسي الإماراتي، عبد الخالق عبدالله، أن "الإمارات لم تغير سياستها الخارجية بل فقط غيرت أدواتها"، مشيرا إلى أن "سياستها تنطلق من ضوء ثواباتها ومصلحتها الوطنية، والحفاظ على وجودها كقوة إقليمية".
وقال عبد الله لموقع "الحرة" إنه "بسبب التحولات التي حدثت في المنطقة في أعقاب الربيع العربي، دخلت الإمارات في مواجهات مع بعض القوى الإقليمية، التي حاولت استغلال هذه التحولات لصالحها، مما دفع أبوظبي لعقد تحالفات مع مصر والسعودية والدخول في حرب اليمن."
وأشار إلى أن الإمارات تريد تعزيز حضورها في المنطقة في الفترة القادمة من خلال المال والأعمال والاقتصاد. وذكر عبدالله أن "الإمارات تقود المزاج الإقليمي لتهدئة التوترات وحل الصراعات وتمهيد الطريق لتحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط".
مدير مركز الخليج في واشنطن، حسين إبيش، يقول من جهته، إن الإمارات ليست وحدها في هذا التحول في السياسات الخارجية، وإن كانت سباقة في هذا التغير، مؤكدا أن هذا توجه إقليمي.
ويضيف إبيش لموقع "الحرة" أن جميع القوى الإقليمية الكبرى في المنطقة باستثناء إسرائيل أصبحت منهكة من هذه التوترات. ولفت إلى أنه "لم يعد هناك ما تكسبه هذه القوى من نفوذ مع تعقد المشهد في ليبيا، وانتصار نظام بشار الأسد في سوريا رغم الجرائم التي ارتكبها، ووصل العراق إلى مشهد أشبه باللبناني".
ويشير إبيش إلى أن مزيدا من القتال عن طريق الوكلاء لم يعد مفيدا من الناحية الاستراتيجية.
"سياسة واقعية"
مع هدوء الاضطرابات التي أعقبت ثورات الربيع العربي، وفقد الإسلاميين نفوذهم في جميع أنحاء المنطقة، أصبحت أبوظبي أكثر راحة، وبدأت في تغيير سياستها، وكانت الإمارات قد دعمت الجنرال خليفة حفتر في الصراع في ليبيا، وشاركت في حرب اليمن، بحسب بلومبيرغ.
وقال أندرياس كريغ، المحاضر في كينجز كوليدج بلندن، لبلومبرغ: "لقد انتصر أعداء الثورة في الوقت الحالي، ولكن إذا كان هناك ربيع عربي ثان أو انتفاضات أخرى، فإن الإماراتيين سيقفون بقوة إلى جانب الثورات المضادة".
ولم ترد السفارة الإماراتية في واشنطن على طلب موقع "الحرة" للتعليق على الآراء الواردة في التقرير، حتى الآن.
ويقول حسن منيمنة، الباحث في معهد الشرق الأوسط في واشنطن، إن السياسة الخارجية الإماراتية تقوم دائما على الواقعية، لكن جنحت عن ذلك خلال فترة حكم الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، ووصلت إلى حد المبالغة، لكنها تعود إلى هذه الواقعية مرة ثانية.
ويضيف منيمنة في حديثه مع موقع "الحرة" أن الإمارات تسعى إلى تحقيق الأفضل في ظل الظروف الواقعية.
في المقابل، ترى شبكة "سي.أن.أن" الأميركية أن سبب التغير في السياسات الخارجية لدول المنطقة ومنها الإمارات، هو شكوك قادة المنطقة حول إلتزام الولايات المتحدة نحو الشرق الأوسط، رغم التطمينات الأميركية المستمرة، وأحدثها تأكيد وزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، في حوار المنامة الأسبوع الماضي، أن الولايات المتحدة لا تزال ملتزمة نحو المنطقة.
وقال إن الولايات المتحدة لا يزال لديها "عشرات الآلاف من القوات في هذه المنطقة. لدينا قدرة كبيرة هنا. بصفتي شخصا حارب هنا لعدد من السنوات، دفاعا عن المصالح في هذه المنطقة، دعني أؤكد لك أننا لن نتخلى عن هذه المصالح في المستقبل".
تراجع الاقتصاد
وأرجعت وكالة بلومبيرغ هذا التحول في السياسة الخارجية الإماراتية إلى تراجع الاقتصاد بسبب سياسة التدخل في الصراعات.
وقال مصدران مطلعان للوكالة إن إمارة دبي هي التي دفعت أبوظبي من أجل مراجعة السياسات الخارجية للدولة، والتي تركت الإمارات في خلاف مع قائمة متزايدة من الأعداء.
وقال جيم كرين، مؤلف كتاب "مدينة الذهب: دبي وحلم الرأسمالية"، في تصريحات لوكالة بلومبيرغ: "سياسة أبو ظبي المتمثلة في التدخل في الصراعات كان لها تأثير سيئ على الاقتصاد. لقد أدركوا أن هذه ليست استراتيجية ناجحة".
بحسب بلومبيرغ، عندما انضمت الإمارات إلى السعودية ومصر والبحرين في مقاطعة قطر مرة أخرى في عام 2017 بسبب علاقاتها مع الجماعات الإسلامية وإيران، خسر الإماراتيون ما لا يقل عن 3.5 مليار دولار من التجارة السنوية بين عشية وضحاها وحرمت الشركات التي تتخذ من الإمارات مقرا لها من الفرص في بناء الملاعب والطرق مع استعداد جارتها لتنظيم مونديال 2022.
واضطرت قطر، التي اشترت في السابق معظم مواد البناء من الإمارات، إلى إيجاد موردين آخرين. وإعادة توجيه الشحنات إلى الموانئ العمانية. وتراجعت التجارة مع تركيا بنسبة 44٪ في 2018، بسبب الخلافات بينهما على دعم الجماعات الإسلامية والصراع في ليبيا.
ويتفق إبيش مع هذا التحليل، ويقول إن الضغوط الاقتصادية والحاجة للانتقال إلى اقتصاد ما بعد الطاقة عامل رئيسي لهذا التحول. وتابع: "من المؤكد أن كل هذه الضغوط تساعد على توجه الإمارات نحو المصالحة".
لكن عبدالله لا يحصر هذا التغير في الاقتصاد، بل يقول إن الإمارات كغيرها من الدول عملت مراجعات لمواقفها خلال 10 سنوات الماضية، وعلى ضوءها أسست لهذه المرحلة الجديدة. ولفت إلى أن الإمارات قوة اقتصادية ودائما ما تضع الاقتصاد ضمن أولوياتها.
وبحسب بلومبيرغ، فإن تخفيف التوترات بدأ يظهر بالفعل من خلال عودة حركة السفن الشراعية في خور دبي، التي دأبت طيلة عقود على عبور الخط الضيق من البحر متجهة إلى إيران.
وأكدت الوكالة أن حركة التجارة بين طهران ودبي ارتفعت هذا العام لمستويات ما قبل فرض العقوبات الأميركية على طهران.
"استمرار هذه السياسة"
لا يتوقع محللون استمرار هذه السياسة الإماراتية الجديدة المتمثلة في التخلي عن فكرة التدخل في الصراعات في المنطقة، إذا عادت التهديدات السابقة.
وقال عبدالله إن الإمارات تعيش في منطقة متوترة، ومن حقها أن تكون مشغولة بالصراعات؛ لأنها تتأثر بها إيجابيا وسلبا، مشيرا إلى أنها أحيانا كانت تعالج هذه المستجدات بالقوة الناعمة أو الخشنة من خلال قواتها العسكرية.
وأكد أنه إذا استجدت أي أمور في المنطقة فإنها ستعالج بنفس أسلوبها القديم سواء بالقوة الناعمة أو الخشنة.
ويرى إبيش أن جميع القوى التي سعت إلى استخدام القوة تأخذ استراحة هي في أمس الحاجة إليها الآن. وأشار إلى أن "التوترات التي أنتجت الصراعات الإقليمية في العقد الماضي لم يتم حلها إلى حد كبير. لذلك فإن عودة المواجهة هو السيناريو الأكثر احتمالا على المدى الطويل". وأكد أنه إذا حدث ذلك فلا شك أن الإمارات ستكون طرفا فيه.
لكنه يعتقد أن معظم القوى الإقليمية تحاول تجنب هذا السيناريو أو تأجيله.