تصاعدت المخاوف الأوروبية من احتمال توقف الدعم الأميركي لأوكرانيا بعد الخلافات العلنية الحادة بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ونظيره الأوكراني فولوديمير زيلنسكي، مما دفع بريطانيا لاستضافة قمة طارئة جمعت 18 دولة حليفة لكييف، بمشاركة الأمين العام لحلف شمال الأطلسي.
وشهدت القمة اللندنية طرح مبادرات أوروبية عاجلة، أبرزها اقتراح فرنسي بريطاني لهدنة جزئية لمدة شهر، تشمل المجال الجوي والبحري ومنشآت الطاقة، إضافة إلى مقترح تشكيل "تحالف من الدول الراغبة" للدفاع عن اتفاق سلام مستقبلي، في محاولة لمواجهة تداعيات التحول الجديد في الموقف الأميركي.
كما حملت القمة رسائل أوروبية بشأن ضرورة تعزيز القدرات الدفاعية للقارة العجوز، إذ دعت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، إلى "إعادة تسليح أوروبا بشكل عاجل"، معلنة عن خطة شاملة ستقدمها خلال قمة الدفاع الخاصة بالاتحاد الأوروبي.
فيما اقترح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون رفع الإنفاق الدفاعي الأوروبي إلى ما بين 3 و3.5 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي.
وفي المقابل، أكد الرئيس الأوكراني زيلنسكي، أنه يعمل مع حلفائه الأوروبيين على تحديد "مواقف مشتركة" لإقناع الإدارة الأميركية بأخذ مصالحهم في الاعتبار، مشدداً على أن أولويته هي التوصل إلى "سلام متين ودائم"، مع الإصرار على "الخطوط الحمر الأوكرانية" وعلى رأسها الحصول على ضمانات أمنية واضحة.
وعبر القادة الأوروبيون عن استعدادهم لتحمل العبء الأكبر في دعم أوكرانيا، لكنهم أقروا في الوقت نفسه بأهمية استمرار الدعم الأميركي القوي
وفي ظل هذه التحركات والتطورات المتسارعة، يبقى السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه: هل تملك أوروبا القدرة الفعلية على سد الفجوة التي قد يخلفها غياب الدعم الأميركي لأوكرانيا؟
3 مجالات حيوية
تواجه أوروبا تحدياً استراتيجيا غير مسبوق في محاولتها تعويض الفجوة المحتملة في الدعم العسكري الأميركي لأوكرانيا.
ورغم الإرادة السياسية التي أظهرها القادة الأوروبيون في قمة لندن الأخيرة، تفرض حقائق هيكلية قيوداً صعبة على قدرة القارة على ملء الفراغ الذي قد يخلفه توقف الدعم الأميركي.
وبحسب المديرة العامة للمعهد الملكي للخدمات المتحدة، راشيل إليهوس، تبرز 3 مجالات حيوية تواجه فيها أوروبا تحديات أساسية.
أولها أنظمة الدفاع الجوي المتقدمة مثل باتريوت التي تنفرد الولايات المتحدة بإنتاجها بكميات كافية، والصواريخ بعيدة المدى التي تعاني أوروبا من محدودية مخزونها ورفض بعض الدول مثل ألمانيا توفير بدائل مثل صواريخ توروس.
إضافة إلى الاتصالات الفضائية، إذ تعتمد أوكرانيا بشكل كبير على منظومة ستارلينك الأميركية التي يوفّرها الملياردير المتحالف مع ترامب، إيلون ماسك.
وعلى المستوى المالي، يمثل تعويض الدعم الأميركي البالغ نحو 67 مليار دولار عبئاً هائلاً على الاقتصادات الأوروبية التي تعاني أصلاً من تباطؤ اقتصادي وتضخم وضغوط اجتماعية.
ويجعل ذلك فكرة مضاعفة المساهمات الأوروبية المقدرة حاليا بنحو 62 مليار يورو تحديا ماليا مؤرقا، حتى مع المقترحات المتعلقة باستخدام الأصول الروسية المجمدة التي تواجه تعقيدات قانونية.
ورغم ذلك، تسعى أوروبا لتبني مقاربات متعددة المحاور، تتضمن رفع الإنفاق الدفاعي إلى ما بين 3-3.5 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، وتطوير القدرات العسكرية الذاتية، واقتراح هدنة جزئية تشمل المجالات الجوية والبحرية ومنشآت الطاقة لتقليص الاستنزاف، وإنشاء "تحالف من الدول الراغبة" لضمان أي اتفاق سلام مستقبلي.
هذه الجهود، على أهميتها، تظل وفق الخبير في الشؤون الأوروبية، محمد رجائي بركات، غير كافية لتعويض الدعم الأميركي بالكامل على المدى القصير.
ويرى المتحدث ذاته، أن الاستراتيجية الأوروبية، تضع دول أوروبا أمام "خيارات صعبة" بين البحث عن تسوية سياسية سريعة تحفظ ماء وجه الجميع، أو الدخول في سباق تسلح وإنفاق مكلف قد لا تتحمله اقتصاداتها في الظروف الحالية.
ويوضح بركات أن "الإمكانيات المالية والعسكرية المتوفرة لدى دول الاتحاد الأوروبي لا تسمح لها بالاستمرار في دعم أوكرانيا مالياً وعسكرياً"، كما لا يمكن لها أن تحل مكان الدعم الذي تقدمه وقدمته الولايات المتحدة لأوكرانيا حتى الآن".
وتابع بركات، في تصريحات لموقع "الحرة"، أن "استمرار دول الاتحاد الأوروبي بدعم أوكرانيا والوقوف إلى جانبها من أجل ردع الهجوم الروسي سيكون شبه مستحيل".
وأوضح أن دول الاتحاد الأوروبي تعاني من مشكلات مالية واقتصادية حاليا، كما أن المخزون الاستراتيجي العسكري لهذه الدول انخفض بشكل كبير، وذلك بعد إرسالها معدات عسكرية وقذائف وأسلحة للجيش الأوكراني.
وقدمت الولايات المتحدة لأوكرانيا 64 مليار يورو كمساعدات عسكرية منذ بدء الغزو الروسي، وفقا للأرقام الرسمية.
وذكر معهد كيل، وهو هيئة بحثية اقتصادية ألمانية، أنه من عام 2022 حتى نهاية عام 2024، قدمت الولايات المتحدة ما مجموعه 119 مليار دولار كمساعدات مالية وإنسانية وعسكرية.
وساهم الاتحاد الأوروبي والدول الأوروبية الفردية بنحو 132.3 مليار يورو.
وتؤكد واشنطن حاليا أن على أوروبا أن توفر الحصة الأكبر من المساعدات المستقبلية لأوكرانيا، مع سعيها إلى خفض كمية الدعم الذي توفره لكييف.
في السياق ذاته، يوضح الخبير أن المسؤولين الأوروبيين على دراية جيدة بهذه المعطيات، مشيرا إلى أن على الرغم من المواقف الصارمة التي حاول رؤساء بريطانيا وفرنسا وغيرهم تبنيها في لندن، فإنه يبقى من الصعب تبنيها على أرض الواقع.
وأشار بركات إلى أنه "ما زالت هناك محاولات للتفاوض ودعوة الرئيس الأميركي لاجتماع خلال قمة أميركية أوروبية تُعقد لاحقاً"، مما يعكس إدراكاً أوروبياً للحاجة المستمرة للدعم الأميركي في حل الأزمة.
"رؤية مغايرة"
في المقابل، وفي تحليل للوضع الأوكراني-الروسي، ترى الباحثة ماريا سنيغوفايا، كبيرة الزملاء في برنامج أوروبا وروسيا وأوراسيا بمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، أن أوروبا تملك القدرة الفعلية على سد الفجوة التي قد تنشأ في حال توقف مساعدات واشنطن لكييف.
وتشير سنيغوفايا، في مقال على موقع المركز، وهو منظمة بحثية سياسية غير ربحية، إلى أنه رغم فعالية وأهمية المساعدات الأميركية، يمكن لأوروبا تعويض هذا النقص عبر شراء المعدات والذخائر الأميركية مثل ذخائر عيار 155 ملم من الجيش الأميركي الذي عزز قدراته الإنتاجية بشكل كبير، ثم إعادة توجيهها إلى أوكرانيا.
وتلفت سنيغوفايا وزميلها ماكس بيرغمان، مدير برنامج أوروبا وروسيا وأوراسيا، إلى وجود مناقشات جدية بشأن إمكانية اقتراض الاتحاد الأوروبي مئات المليارات من اليورو للإنفاق الدفاعي، مع تخصيص جزء منها يتراوح بين 10-20 مليار دولار لشراء أسلحة أميركية لصالح أوكرانيا.
ويعترف الباحثان بأن شراء ما كان في السابق مساعدات أميركية خارجية سيكون خطوة صعبة سياسياً للأوروبيين، لكنها ضرورية في المدى القصير لضمان استمرار القدرة القتالية الأوكرانية، حتى يتسارع الإنتاج الأوروبي.
وتؤكد سنيغوفا أن الأصول المجمدة للبنك المركزي الروسي التي يتواجد معظمها في أوروبا، يمكن أن تمثل أيضا مصدرا ماليا للاستعانة به في دعم المجهود الحربي الأوكراني.
وتجمّد دول التكتل أكثر من 200 مليار يورو من أصول المصرف المركزي الروسي، أي ما يوازي نحو ثلثي الأرصدة الروسية المجمّدة في مختلف أنحاء العالم.
وتقترح، في هذا الصدد، أن يتخذ الاتحاد الأوروبي والحكومات الأوروبية خطوات لإلغاء تجميد هذه الأصول وتحويلها إلى أوكرانيا لتوفير الدعم المالي لاقتصادها وموارد إضافية لقطاعها الدفاعي الصناعي أو لإجراء عمليات شراء إضافية للمعدات العسكرية.
وفي سياق متصل، ترى الباحثة أن الخطوات الأوروبية القوية ستؤدي إلى تغيير المعادلة الاستراتيجية، إذ يمكن أن تمنع روسيا من تحقيق أي نصر عسكري من خلال إظهار التزام طويل الأمد تجاه أوكرانيا، وبالتالي خلق حوافز واضحة لروسيا للسعي إلى تسوية تفاوضية للحرب.
وتضيف سنيغوفايا أنه في حال حصول أوكرانيا على كميات أكبر من الأسلحة الأوروبية المتطورة مثل الصواريخ بعيدة المدى والطائرات المقاتلة المتقدمة، فقد تتمكن من فرض تكاليف أكبر على روسيا، وإجبارها مع مرور الوقت على التخلي عن موقفها المتشدد في المفاوضات.
ويؤكد الباحثان في تحليلهما على أن الدعم الأوروبي القوي والمستمر لأوكرانيا يمثل "بديلاً أفضل بكثير من اتفاق سلام متسرع وغير مواتٍ مع بوتين"، إذ سيسمح مثل هذا الاتفاق للكرملين بـ"إعادة بناء مجمعه العسكري الصناعي ويزيد من احتمالات شن روسيا هجوماً أكثر خطورة على أوكرانيا أو حتى شركائها الأوروبيين في المستقبل غير البعيد".
"مقترحات أوروبية"
في السياق ذاته، أوضح الأكاديمي المختص في الشؤون الأوكرانية، خليل عزيمة، أن "المسؤولين الأوروبيين بدأوا وضع مقترحات لإنشاء صندوق خاص يهدف إلى تعزيز الاستثمارات الدفاعية في القارة، والبحث عن طرق لتمويل وتعزيز القدرات الدفاعية الأوروبية".
وأوضح عزيمة، أن هناك تصريحات من مسؤولين فرنسيين بشأن إمكانية فرنسا تعويض الردع الصاروخي النووي الموجود في أوروبا بنشر مقاتلات تحمل صواريخ نووية، معتبرا أن "الدول الأوروبية تستطيع بطاقاتها المجتمعة أن تعوض النقص في الدفاع في حال قرر الرئيس ترامب التخلي عن حلفائه والاتجاه نحو روسيا".
وأضاف الأكاديمي أن "الإمكانيات العسكرية والصناعات العسكرية الروسية الآن ليست على أفضل حال وفي وضع سيء، وبدا ذلك من خلال اعتماد روسيا على كلٍ من إيران وكوريا الشمالية.
وتابع عزيمة، أنه رغم الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها أوروبا فإنها ستتجه إلى زيادة الإنفاق العسكري وتطويره لتعزيز إمكانية ردع روسيا التي، كما سمعنا بالأمس من معظم القادة الأوروبيين، لا تهدد أوكرانيا فحسب بل الأمن الأوروبي بالكامل.
ورأى الأكاديمي أن أوروبا ستناقش أيضا برنامج الدفاع الأوروبي لإطلاق خطط لإعادة تأهيل قدرة القارة على مقاومة الأزمات السياسية والأمنية والاقتصادية، ورفع معدلات الإنفاق الدفاعي، وستقوم المملكة المتحدة بدور جسر يربط حلفاء ضفتي الأطلسي.
وشدد المتحدث، ذاته أن الدول الأوروبية "تستطيع" مجتمعة ردع روسيا من خلال إرسال المزيد من الأسلحة لأوكرانيا ورفع القيود عن استخدامها، مما سيؤدي إلى الضغط على الرئيس الروسي للجلوس إلى طاولة المفاوضات وإحلال السلام العادل الذي يحافظ على سيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها.