روسيا كانت تزود دول الاتحاد الأوروبي بحوالي أربعين بالمئة من حاجتها من الغاز
روسيا كانت تزود دول الاتحاد الأوروبي بحوالي أربعين بالمئة من حاجتها من الغاز

أكدت كييف وموسكو في بيانين منفصلين، الأربعاء، أن إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا عبر أوكرانيا توقفت بشكل نهائي، بعد انتهاء عقد مدته خمس سنوات وقعه الطرفان نهاية العام 2019.

وقال وزير الطاقة الأوكراني غيرمان غالوشتشينكو، في بيان "أوقفنا عبور الغاز الروسي، إنه حدث تاريخي. روسيا تخسر أسواقا، وستتكبد خسائر مالية".

من جهتها، قالت شركة الطاقة الروسية العملاقة غازبروم في بيان "منذ الساعة الثامنة صباحا (الخامسة بتوقيت غرينتش) لم يتم تسليم الغاز الروسي للعبور عبر أوكرانيا".

وينهي هذا التوقف أربعة عقود من تدفق الغاز الروسي عبر الأراضي الأوكرانية إلى أوروبا، في وقت تواجه فيه موسكو خسائر غير مسبوقة في سوق الطاقة الأوروبية، إذ قلص الأوروبيون اعتمادهم على الغاز الروسي بشدة بعد اندلاع حرب أوكرانيا في فبراير 2022 من خلال البحث عن مصادر بديلة للغاز.

توقف شريان طاقي حيوي

يمتد خط أنابيب "أورينجوي-بوماري-أوزهورود"، الذي يعود إلى الحقبة السوفيتية، من حقول الغاز في سيبيريا مروراً بالأراضي الأوكرانية، وصولا إلى سلوفاكيا حيث يتفرع إلى مسارات تغذي التشيك والنمسا.

وقد شكل هذا المسار لأكثر من أربعة عقود الشريان الرئيسي لإمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا، حيث نقل في 2023 نحو 14.65 مليار متر مكعب من الغاز، أي ما يقارب نصف إجمالي صادرات الغاز الروسي باتجاه أوروبا، وفقا للأرقام الرسمية.

وعبر نصف قرن، استطاعت روسيا بناء هيمنة على سوق الغاز الأوروبي وصلت حصتها إلى 35 بالمئة، قبل أن تنخفض إلى أقل من 8 بالمئة بعد غزو أوكرانيا.

وترسل روسيا الغاز إلى أوروبا عبر طريقين، منذ التخريب الذي طال خطوط أنابيب "نورد ستريم" في بحر البلطيق في سبتمبر في العام 2022.

والمسار الأول الذي يمرّ عبره الغاز الروسي هو خط أنابيب "تورك ستريم" (TurkStream) وامتداده "بلقان ستريم" (Balkan Stream) تحت البحر الأسود، باتجاه بلغاريا وصربيا والمجر.

أما المسار الثاني، فيمر عبر أوكرانيا بموجب عقد أبرم في العام 2019 لمّدة خمس سنوات بين الشركتين الأوكرانيتين نافتوغاز و"جي تي اس او يو" والعملاق الروسي غازبروم.

روسيا.. الأكثر تضررا

ويرتقب أن تتكبد روسيا الخسائر الأكبر توقف الخط العابر لأوكرانيا، فإلى جانب خسارة 5 مليارات دولار من مبيعات الغاز، سجلت شركة غازبروم خسارة سنوية بقيمة 7 مليارات دولار في 2023، وهي الأولى منذ أكثر من عقدين.

وبالإضافة إلى الخسائر المالية المباشرة، من شأن وقف الخط أن يؤدي إلى استمرار تراجع النفوذ الروسي في سوق الطاقة الأوروبية، إذ أن موسكو التي استغرقت نصف قرن لبناء حصتها في هذا السوق، شهدت تراجعا حادا في نفوذها من 35 بالمئة إلى أقل من 8 بالمئة في غضون عامين فقط.

ويتجلى هذا الانحسار في حجم الصادرات الذي هبط من مستوى قياسي بلغ 201 مليار متر مكعب في 2018 إلى نحو 15 مليار متر مكعب فقط في 2023.

كما فقدت روسيا معظم طرق تصدير الغاز إلى أوروبا، مع إغلاق خط يامال-أوروبا عبر بيلاروسيا، وتعطل خط نورد ستريم في بحر البلطيق. علاوة على أن موسكو خسرت عملاء تقليديين مهمين، مثل النمسا التي أنهت عقوداً استمرت ستة عقود مع غازبروم.

تفجير "نورد ستريم" حدث في سبتمبر لعام 2022

تداعيات متباينة على الدول الأوروبية

 

سلوفاكيا

وتتباين آثار إيقاف الخط على الدول الأوروبية، إذ أن سلوفاكيا، التي تعتمد على الغاز الروسي لتلبية ثلثي احتياجاتها، تواجه تحديا كبيرا بعد القرار.

وقد حذرت شركة الغاز السلوفاكية من ارتفاع التكاليف بما لا يقل عن 150 مليون يورو، مع مخاوف من نقص الإمدادات خلال فترات الشتاء القاسي.

ورغم أن السلطات السلوفاكية لعقود مع موردين دوليين مثل BP وEni وExxonMobil وRWE وShell، تظل المخاوف قائمة من نقص محتمل في الإمدادات خلال موجات البرد القارس.

وكان رئيس الوزراء السلوفاكي روبرت فيكو، قد هدد بقطع إمدادات الكهرباء الاحتياطية عن أوكرانيا رداً على توقف العبور، مما دفع الرئيس الأوكراني زيلينسكي لاتهامه بفتح "جبهة طاقة ثانية" لصالح موسكو.

مولدوفا

وتواجه الدولة الأفقر وضعا أكثر حرجا، إذ تعتمد على محطة كوسيورغان الحرارية التي تعمل بالغاز الروسي لتوفير 70 بالمئة من احتياجاتها من الكهرباء.

وفرض الواقع الجديد على مولدوفا إعلان حالة الطوارئ في قطاع الطاقة، مع خطط لخفض الاستهلاك بنحو الثلث وشراء الكهرباء من رومانيا بأسعار أعلى.

وقالت الرئيسة المؤيدة لأوروبا، مايا ساندو، إنه "توجد طرق عبور أخرى، لكن يبدو أنّ غازبروم ليست مستعدة للوفاء بالتزاماتها التعاقدية"، مستنكرة "ابتزازا بالظلام" من جانب الكرملين انطلاقا من مخاوف من زعزعة الاستقرار قبل أشهر قليلة من إجراء الانتخابات التشريعية.

المجر

تحصل المجر على معظم وارداتها من الغاز الروسي عبر خطوط تورك ستريم، وبالتالي لن يؤثر قرار كييف عليها إلا بشكل هامشي.

وقال رئيس الحكومة فيكتور أوربان الأسبوع الماضي، إنّه رغم ذلك "لا نريد التخلي" عن هذا المسار الأوكراني الذي يستخدم لكميات قليلة، وذلك بهدف الحفاظ على "أسعار معقولة"، مشيرا في الوقت ذاته إلى إجراء مفاوضات مع موسكو وكييف.

كذلك، لفت إلى "خدعة" ستمكّنه من شراء الغاز الروسي "قبل أن يدخل الأراضي الأوكرانية"، مضيفا أنّه "بمجرّد وصوله إلى أوكرانيا، لن يكون روسيّا ولكن مجريا".

قطر للطاقة- تعبيرية
بعد تهديد قطر بوقف بيع الغاز.. ما نعرفه عن "القانون الأوروبي" المثير للجدل
تُفضّل قطر ألا تبيع الغاز الطبيعي المُسال لدول أوروبية، على أن تصدّره لها ثم تخسر 5% من الأرباح، التي تعتبرها جزءاً من إيرادات الشعب كما قال وزير الطاقة القطري سعد الكعبي، ما عُدّ تصريحاً قطعياً منه بعدم رغبة بلاده الالتزام بأحكام الاتحاد الأوروبي الخاصة بالطاقة النظيفة وحماية حقوق العاملين.

أوكرانيا.. خسارة من أجل "المصلحة الوطنية"

بالرغم من أن أوكرانيا لا تستخدم غاز العبور الروسي، إلا أن كييف ستتحمل تكلفة اقتصادية كبيرة بخسارة 800 مليون دولار سنوياً من رسوم عبور الغاز الروسي.

وتسعى كييف من خلال قرارها عدم تجديد الاتفاق تجفيف مصادر التمويل الروسية، من خلال منع موسكو من الحصول على عائدات بيع الغاز.

وفي 19 ديسمبر، قال الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، إن كييف قد تنظر في السماح بعبور الغاز الروسي فقط إذا تم حجب المدفوعات إلى موسكو حتى انتهاء القتال.

واعتبرت وزارة الطاقة الأوكرانية أن وقف عبور الغاز الروسي يأتي لـ"أسباب تتعلق بالمصلحة الوطنية".

التحديات الطاقية للاتحاد الأوروبي

ويواجه الاتحاد الأوروبي واقعا صعبا مع اقتراب شتاء قاس، إذ أن انخفاض احتياطيات الغاز بنسبة 20 بالمئة منذ سبتمبر يشكل مصدر قلق كبير.

كما يواجه الاتحاد تحديا اقتصاديا مع ارتفاع أسعار الغاز بنسبة 5 بالمئة لتصل إلى 49 يورو للميغاواط ساعة، مقتربا من أعلى مستوى سنوي سُجل في أوائل ديسمبر.

ومن المتوقع أن يظل السوق تحت الضغط، مع توقعات بشتاء أبرد من المعتاد ومستويات أقل من الرياح لتوليد الكهرباء.

ويضغط هذا الارتفاع على المستهلكين والصناعات الأوروبية، مع مخاوف متزايدة من تراجع القدرة التنافسية للقطاع الصناعي، وخاصة في ألمانيا، أكبر اقتصاد في القارة.

ورغم هذه التحديات، يتجه الاتحاد نحو تنويع مصادر إمداداته من الغاز، معتمدا بشكل متزايد على موردين جدد مثل النرويج والولايات المتحدة وقطر.

وذكرت المفوضية الأوروبية أن الاتحاد الأوروبي استعد لقطع الإمدادات.

وقال متحدث باسم المفوضية "البنية الأساسية للغاز في أوروبا مرنة بما يكفي للتزود بالغاز من منشأ غير روسي... تم تعزيزها منذ عام 2022 بقدرات جديدة وكبيرة لاستيراد الغاز الطبيعي المسال".

بوتين وترامب
صورة تجمع بين ترامب والرئيس الروسي، فلاديمير بوتين (فرانس برس)

في أحدث تصريحاته، هدد الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بفرض رسوم جمركية وعقوبات صارمة على روسيا إذا لم تتحرك فورًا لإنهاء الحرب الطاحنة في أوكرانيا. 

تلك التصريحات أعادت تسليط الضوء بشكل أكبر على أخطر أزمة تعاني منها القارة الأوروبية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، ورغم تحذير ترامب، فإن الكرملين وصف موقفه بأنه لا يحمل جديدًا، ما يطرح تساؤلات حول مدى فعالية هذا النهج.

وفي هذا الصدد يرى، تيمور دويدار، الخبير في الشؤون الدولية والمقيم في موسكو، أن ترامب يسعى لتحقيق مكاسب اقتصادية وسياسية داخلية وخارجية عبر إنهاء الحرب. 

ويضيف في حديثه لموقع "الحرة" أن "إنهاء الأزمة الأوكرانية ليس فقط مصلحة للولايات المتحدة بل للعالم بأسره. ترامب يدرك أن رفع العقوبات عن روسيا وإعادة تدفق الطاقة والحبوب سيؤدي إلى استقرار الأسواق العالمية، ويعزز هيمنة واشنطن على أوروبا اقتصاديًا وسياسيًا".

دويدار أضاف أن الأزمة الأوكرانية باتت تمثل عبئًا اقتصاديًا وسياسيًا على الولايات المتحدة وأوروبا، لافتا إلى أن إنهاء الحرب سيعيد فتح الباب أمام التعاون الاقتصادي بين الغرب وروسيا، خاصة في مجالات الطاقة والموارد الطبيعية. 

وشدد على أن الولايات المتحدة قد تستفيد من عودة العلاقات الطبيعية مع موسكو لتركز جهودها على مواجهة التحديات الأكبر مع الصين.

في المقابل، يؤكد الدبلوماسي الأوكراني، إيفان سيهيدا، أن أي هدنة أو وقف مؤقت لإطلاق النار لن يحقق أمن أوكرانيا.

ويضيف: "بوتين لا يفهم إلا لغة القوة. أي اتفاق دون ضمانات قوية سيكون مجرد فرصة له لإعادة تنظيم قواته استعدادًا لهجوم جديد".

 سيهيدا أكد أيضًا على ضرورة وجود دعم عسكري قوي لبلاده يرافق العقوبات لضمان تحقيق ردع فعال.

وأوضح الدبلوماسي الأوكراني أن كييف لن تعترف أبدًا بـ"الاحتلال الروسي للقرم أو أي أراضٍ أوكرانية أخرى"، مشيرًا إلى أن "جرائم الحرب الروسية والانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان تجعل أي تسوية مع موسكو مشروطة بمحاسبة المسؤولين وضمان سلام دائم".

 تباين في المواقف

في منشور على منصته "تروث سوشال"، أوضح ترامب أنه يسعى لإنهاء الحرب بسرعة، مشيرًا إلى أن الاقتصاد الروسي يعاني وأن أي اتفاق سيكون في مصلحة الجميع. 

ومع ذلك، لم يقدم ترامب تفاصيل حول طبيعة العقوبات الجديدة. وأضاف: "أنا أحب الشعب الروسي، ودائمًا كانت لدي علاقة جيدة مع الرئيس بوتين"، في محاولة للتأكيد على أن تهديداته تهدف لتحقيق سلام دائم وليس تصعيدًا.

من جانبها، قالت موسكو إنها "منفتحة على الحوار"، لكن ديمتري بيسكوف، الناطق باسم الكرملين، أكد أن أي مفاوضات يجب أن تقوم على احترام متبادل. بينما رأى نائب وزير الخارجية الروسي، سيرغي ريابكوف، أن فرص التوصل لاتفاق مع إدارة ترامب "محدودة"، لكنه أشار إلى وجود أمل مقارنة بسياسات الإدارة السابقة بقيادة بايدن.

ترامب، الذي تولى منصبه حديثًا، أشار إلى أنه يستطيع إنهاء الحرب في أوكرانيا بسرعة. وأكد أن سياسته تهدف إلى تحقيق التوازن بين الضغط على روسيا وتحقيق الاستقرار الاقتصادي العالمي. لكن تبقى الأسئلة مفتوحة حول كيفية تحقيق هذا الهدف، خاصة في ظل استمرار التوترات بين الأطراف المختلفة.

تداعيات اقتصادية وسياسية 

الحرب المستمرة في أوكرانيا أثرت بشدة على الأسواق العالمية، خاصة في أوروبا، وهنا يقول دويدار: "إن إنهاء الحرب سيعيد التوازن للاقتصاد العالمي، ويخفف من التضخم في الولايات المتحدة وأوروبا. فالغاز الروسي الرخيص كان ضروريًا للصناعات الأوروبية، وعودته ستساهم في إنعاش الاقتصاد الأوروبي".

ويضيف أن أوروبا تعاني من شتاء قارس وارتفاع في تكاليف التدفئة، مما يزيد من الضغط على الحكومات الأوروبية لإيجاد حل سريع للصراع. 

ويشير إلى أن عودة العلاقات التجارية مع روسيا قد تكون إحدى الطرق لتخفيف هذا الضغط، لكن ذلك يعتمد على التوصل إلى اتفاق سياسي شامل.

أما سيهيدا فيرى أن السماح لروسيا بالاستفادة من عدوانها سيكون خطأ كبيرًا، مردفا: "أي تخفيف للعقوبات دون تحقيق سلام عادل سيشكل مكافأة للكرملين. يجب أن يكون هناك موقف صارم يمنع تكرار هذا السيناريو مستقبلًا".

الحرب أيضًا ألقت بظلالها على الأمن الغذائي العالمي، حيث تعطلت بعض عمليات تصدير الحبوب والأسمدة من أوكرانيا وروسيا، مما أثر على العديد من الدول النامية التي تعتمد بشكل كبير على هذه الموارد، وبالتالي، فإن التوصل إلى اتفاق سلام، كما يرى دويدار،  قد يعيد تدفق هذه الموارد بشكل طبيعي.