قبور لضحايا مذبحة بوتشا
بوتشا شاهد على جرائم روسيا في أوكرانيا. أرشيفية

في مارس 2022، ارتكبت القوات الروسية سلسلة من الفظائع أثناء احتلالها لبلدة بوتشا الأوكرانية، بما في ذلك عمليات الإعدام والإخفاء القسري والتعذيب بحسب منظمة هيومن رايتس ووتش الحقوقية.

في شتاء ذلك العام تطوع أوليكسي بوبيهاي في قوات الدفاع الإقليمية الأوكرانية في بلدة بوتشا.

وقال المواطن الأوكراني بوبيهاي "نحن محاطون بأراض روسية، من جميع الجهات صراحة لا نشعر بالارتياح، ولكن لا يوجد مكان للتراجع علينا أن نحمي أنفسنا، لم نقم بالهجوم على دولة أخرى، بل ندافع عن بلادنا أنا رجل قوي"

اعتقلت القوات الروسية بوبيهاي وعثر على جثته مقيد اليدين ومصاب برصاصة في الرأس.

في تحقيق من إنتاج محطة راديو أوروبا الحرة / راديو ليبرتي الأميركية جمع أحداث أيام بوبيهاي الأخيرة، باستخدام مكالمات هاتفية معترضة، وروايات لشهود عيان.

تتبع مدينة بوتشا إداريا لمنطقة كييف، وتبعد نحو 37 كيلومترا إلى الشمال الغربي من العاصمة الاوكرانية، ويسكنها نحو 37 ألف نسمة.

وفي نهايات فبراير من 2022، خلال الأيام الأولى للاجتياح الروسي، تمكنت القوات الأوكرانية ووحدات الدفاع المحلية من صد الهجوم الروسي وكبدت الغزاة خسائر جسيمة.

وفي ركام معدات عسكرية محطمة من الهجوم الأول على بوتشا تم العثور على دفتر ملاحظات مكتوب عليه "الملازم زافودوف من الحرس، لماذا أتيت إلى هنا يا زافودوف!".

هذه الشارة هي لوحدة في الفرقة 76 مظليين من مدينة بسكوف الروسية، وما تبعها من أدلة كثيرة على حضور تلك الفرقة طوال فترة الاحتلال اللاحقة لبوتشا.

لكن وحدات الدفاع المحلية كانت تترقب بتوجس الموجة الثانية.

وفي مقابلة أجراها راديو ليبرتي مع أوليكسي بوبيهاي قال إنه من بوتشا، ولد في روسيا، أمه روسية ووالده أوكراني، وعندما بلغ عامه الأول، انتقلوا إلى بوتشا.

قضى بوبيهاي كل حياته تقريبا في بوتشا، فهناك تعلم المشي وذهب إلى المدرسة لأول مرة، وعندما كبر عمل لسنوات في مجال المطاعم، ثم افتتح محلا صغيرا داخل منزله لبيع المشروبات والحلويات.

ومنذ 2014 تطوع بوبيهاي لدعم القوات الأوكرانية التي تقاتل الانفصاليين المدعومين من روسيا.

أناتولي كوشنيرشوك، قسيس في الجيش الاوكراني قال كان بوبيهاي يرتاد هذا المكان دائما حتى قبل الغزو حيث اعتاد إحضار المساعدات التي نرسلها للجبهة، لذا لم يكن غريبا أن يحضر للمقر بعد بدء الغزو الشامل ليقدم المساعدة.

وأضاف بما أنه ليس عسكريا فلم يحصل على سلاح في البداية، بل لعب دور المنسق يكتب وينظم ويجمع الناس ويخطرهم بمواعيد الحضور ثم أصبح مسؤولا عن حماية متجر نوفوس أو ما تبقى منه ولهذا السبب تم إعطاؤه سلاحا.

وفي الثالث من مارس 2022 شنت القوات الروسية هجومها الثاني على بوتشا، وأظهرت لقطات حصرية دخول المظليين الروس لشارع يابلونسكا الذي سمي فيما بعد طريق الموت.

فولوديمير روتشكوفسكي كان واحدا من أوائل الضحايا عندما حاول الفرار بسيارته من البلدة، فيما قتلت القوات الروسية أشخاصا في الشارع بين الثالث والسادس من مارس من ذلك العام.

وفقا لبلدية بوتشا قتل 130 شخصا على الأقل في محيط شارع يابلونسكا، معظمهم بالرصاص الحي.

وفي محادثة هاتفية لجندي روسي كان في بوتشا تحدث صراحة أن الجنود الروس هم من يطلقون النار على السكان المحليين.

وفي محادثات هاتفية معترضة لجندي روسي آخر في بوتشا يقول فيها "تنظر يمينا ويسارا نحو النوافذ، إذا سحب الستار، أو فتحت النافذة، نطلق النار فورا، عندها سيقفز بعض المدنيين إلى الخارج، وفورا يفتح الجميع النار عليهم".

وعندما وجد بوبيهاي نفسه تحت الاحتلال الروسي في تلك الفترة، لسنا متأكدين إذا كان قد واصل العمل مع الجيش الأوكراني لكننا نعلم أنه حاول الاستمرار في تقديم المساعدة عبر توزيع الطعام على الأهالي.

بعد السيطرة على بوتشا أقام الجيش الروسي نظام احتلال صارم، وأعلنوا حظر التجول ومنعوا الناس من السير في الشوارع واستخدام الهواتف، ثم باشروا سلسلة من حملات المداهمة والتفتيش، لتبدأ المرحلة الثانية من عمليات القتل الجماعي في بوتشا.


وفي إحدى المحادثات الهاتفية لجندي روس في بوتشا قال إنهم أخذوا سجينا في الثامنة عشر من عمره وأطلقوا النار على ساقه وقطعوا أذنيه، فاعترف بكل شيء بعدها قتلوه.

بحث الروس أيضا عن السياسي المحلي، فولوديمير زافيرتانوف إذ قبضوا عليه ونقلوه بعيدا وأعدموه.

أما دميترو تشابليهين وأولكسندر ييريميتش وأولكسي كادورا فقتلوا بتهمة الإبلاغ عن التحركات الروسية.

المصير ذاته لاقاه الجنديان السابقان في الجيش الاوكراني: رومان شادلوفسكي، ووأولكسندر كوزاك، كما أعدم الصحفي زوريسلاف زامويسكي بسبب توثيقه ليوميات الاحتلال على فيسبوك ونشر صورة لمعدات روسية مدمرة.

جمعنا أدلة واسعة النطاق، تؤكد أن هؤلاء القتلى من سكان بوتشا وقد جرى اعتقالهم استجوابهم واتهامهم بالمقاومة أو بالنازية ثم إعدامهم رميا بالرصاص، وهي ممارسات نفذها الجيش الروسي بشكل متعمد ومنظم.

وحصلنا على تسجيلات لثلاث محادثات معترضة أجراها جنود روس من بوتشا وأثبتت حصولهم على أوامر من قادتهم بإعدام المدنيين، إذ كان الأوامر بعدم أسر أي شخص وإطلاق النار على الجميع.

في الثالث عشر من مارس 2022 أغارت القوات الروسية المحتلة لبلدة بوتشا الأوكرانية على الشارع حيث كان يعيش أوليكسي بوبيهاي.

وكان هناك ما يسمى عمليات تطهير دورية لكن لم يسبق أن تجمع هذا الحجم من القوات وصلت عربات مدرعة وناقلات جند وسيارات استطلاع، إضافة لمركبات مشاة وشاحنات مملؤة بالجنود أغلقوا محيط المنطقة بالكامل ثم تحركوا نحو منزل بوبيهاي.

وقال شاهد عيان إن الجنود الروس دخلوا منزل بوبيهاي، ولكنه لم يكن موجودا هناك.

وأضاف أنهم كانوا قوات نظامية زيهم كان نظيفا، ومجهزين جيدا ولديهم أحدث الأسلحة وتحركوا بشكل احترافي وبطريقة منظمة، وكان من الواضح أنها مجموعة خاصة.

تحدث بعض الجيران مع هذه القوات وسألوهم من أين أنتم؟ فجاء الرد كيميروفو، وهي مدينة روسية على بعد 4500 كلم من بوتشا في منطقة كوزباس في سيبيريا المشهورة بمناجم الفحم.

هذه المجموعة الخاصة من كيميروفو التي تعرف باسم " كوزباس" شاركت في اعتقال بوبيهاي، وهو ما أكده شاهد عيان.

وفي وثيقة عثر عليها لاحقا أحد سكان بوتشا في مخبأ روسي مهجور هي دليل على دور قوات كوزباس في اعتقال بوبيهاي.

وتتضمن الوثيقة "من نماذجِ شجاعة رجالنا وبطولاتهم، ألقى النقيب سيرغي تيخونوف، القبض على أوليكسي بوبيهاي، أثناء تفتيش أحد المنازل. كان المتهم يحمل بندقية من طراز 74-AK أربعة وسبعون، وأربعة مخازن سعة ثلاثين 30 طلقة، بالإضافة إلى بطاقة عضوية في منظمة حراس بوتشا".

هذا هو النقيب تيخونوف المذكور في الوثيقة وهو يحمل راية قوات كوزباس الخاصة.

اقتادت وحدة الحرس الوطني بوبيهاي إلى هذه الغابة على أطراف بوتشا حيث أقام مظليو الفرقة ستة وسبعين معسكرهم، وهناك انقطعت أخباره.

بحلول نهاية مارس 2022 انسحبت القوات الروسية من محيط كييف وتحديدا من بوتشا، وقتها سمع العالم لأول مرة عن عمليات القتل الجماعي للمدنيين التي ارتكبها الجيش الروسي هنا.

عثر على جثث العشرات من سكان بوتشا في الشوارع، الحدائق، المنازل، الأقبية داخل السيارات المدمرة وغرف التعذيب.

وعلق الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين حينها "نرى استفزازا في بوتشا، ولا علاقة للجيش الروسي به".

لكن بعد ستة أشهر من تحرير بوتشا وخلال عملية تفتيش عثرت وحدة الدفاع الإقليمية على جثتين متحللتين لرجلين مجهولين.

قائد شرطة منطقة كييف، أندريه نيبيتوف قال "من الصعب جدا تحديد عمره الآن، يداه مقيدتان خلف ظهره وهناك كيس ملفوف حول رأسه ورقبته بشريط لاصق، يرتدي سترة زرقاء في جيبها نظارات طبية".

كان هذا أوليكسي بوبيهاي، إذ خلص الطب الشرعي إلى تعرضه للتعذيب ثم القتل برصاصة في الرأس.

أما الجثة الثانية فكانت لأوليكسي تيليزينكو العقيد في جهاز الأمن الأوكراني، إذ اُعتقل الرجلان بواسطة وحدة الحرس الوطني الروسي ذاتها.

في سبتمبر 2022 دفن أوليكسي بوبيهاي بمقبرة الأبطال في بوتشا.

بوتين وترامب
صورة تجمع بين ترامب والرئيس الروسي، فلاديمير بوتين (فرانس برس)

في أحدث تصريحاته، هدد الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بفرض رسوم جمركية وعقوبات صارمة على روسيا إذا لم تتحرك فورًا لإنهاء الحرب الطاحنة في أوكرانيا. 

تلك التصريحات أعادت تسليط الضوء بشكل أكبر على أخطر أزمة تعاني منها القارة الأوروبية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، ورغم تحذير ترامب، فإن الكرملين وصف موقفه بأنه لا يحمل جديدًا، ما يطرح تساؤلات حول مدى فعالية هذا النهج.

وفي هذا الصدد يرى، تيمور دويدار، الخبير في الشؤون الدولية والمقيم في موسكو، أن ترامب يسعى لتحقيق مكاسب اقتصادية وسياسية داخلية وخارجية عبر إنهاء الحرب. 

ويضيف في حديثه لموقع "الحرة" أن "إنهاء الأزمة الأوكرانية ليس فقط مصلحة للولايات المتحدة بل للعالم بأسره. ترامب يدرك أن رفع العقوبات عن روسيا وإعادة تدفق الطاقة والحبوب سيؤدي إلى استقرار الأسواق العالمية، ويعزز هيمنة واشنطن على أوروبا اقتصاديًا وسياسيًا".

دويدار أضاف أن الأزمة الأوكرانية باتت تمثل عبئًا اقتصاديًا وسياسيًا على الولايات المتحدة وأوروبا، لافتا إلى أن إنهاء الحرب سيعيد فتح الباب أمام التعاون الاقتصادي بين الغرب وروسيا، خاصة في مجالات الطاقة والموارد الطبيعية. 

وشدد على أن الولايات المتحدة قد تستفيد من عودة العلاقات الطبيعية مع موسكو لتركز جهودها على مواجهة التحديات الأكبر مع الصين.

في المقابل، يؤكد الدبلوماسي الأوكراني، إيفان سيهيدا، أن أي هدنة أو وقف مؤقت لإطلاق النار لن يحقق أمن أوكرانيا.

ويضيف: "بوتين لا يفهم إلا لغة القوة. أي اتفاق دون ضمانات قوية سيكون مجرد فرصة له لإعادة تنظيم قواته استعدادًا لهجوم جديد".

 سيهيدا أكد أيضًا على ضرورة وجود دعم عسكري قوي لبلاده يرافق العقوبات لضمان تحقيق ردع فعال.

وأوضح الدبلوماسي الأوكراني أن كييف لن تعترف أبدًا بـ"الاحتلال الروسي للقرم أو أي أراضٍ أوكرانية أخرى"، مشيرًا إلى أن "جرائم الحرب الروسية والانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان تجعل أي تسوية مع موسكو مشروطة بمحاسبة المسؤولين وضمان سلام دائم".

 تباين في المواقف

في منشور على منصته "تروث سوشال"، أوضح ترامب أنه يسعى لإنهاء الحرب بسرعة، مشيرًا إلى أن الاقتصاد الروسي يعاني وأن أي اتفاق سيكون في مصلحة الجميع. 

ومع ذلك، لم يقدم ترامب تفاصيل حول طبيعة العقوبات الجديدة. وأضاف: "أنا أحب الشعب الروسي، ودائمًا كانت لدي علاقة جيدة مع الرئيس بوتين"، في محاولة للتأكيد على أن تهديداته تهدف لتحقيق سلام دائم وليس تصعيدًا.

من جانبها، قالت موسكو إنها "منفتحة على الحوار"، لكن ديمتري بيسكوف، الناطق باسم الكرملين، أكد أن أي مفاوضات يجب أن تقوم على احترام متبادل. بينما رأى نائب وزير الخارجية الروسي، سيرغي ريابكوف، أن فرص التوصل لاتفاق مع إدارة ترامب "محدودة"، لكنه أشار إلى وجود أمل مقارنة بسياسات الإدارة السابقة بقيادة بايدن.

ترامب، الذي تولى منصبه حديثًا، أشار إلى أنه يستطيع إنهاء الحرب في أوكرانيا بسرعة. وأكد أن سياسته تهدف إلى تحقيق التوازن بين الضغط على روسيا وتحقيق الاستقرار الاقتصادي العالمي. لكن تبقى الأسئلة مفتوحة حول كيفية تحقيق هذا الهدف، خاصة في ظل استمرار التوترات بين الأطراف المختلفة.

تداعيات اقتصادية وسياسية 

الحرب المستمرة في أوكرانيا أثرت بشدة على الأسواق العالمية، خاصة في أوروبا، وهنا يقول دويدار: "إن إنهاء الحرب سيعيد التوازن للاقتصاد العالمي، ويخفف من التضخم في الولايات المتحدة وأوروبا. فالغاز الروسي الرخيص كان ضروريًا للصناعات الأوروبية، وعودته ستساهم في إنعاش الاقتصاد الأوروبي".

ويضيف أن أوروبا تعاني من شتاء قارس وارتفاع في تكاليف التدفئة، مما يزيد من الضغط على الحكومات الأوروبية لإيجاد حل سريع للصراع. 

ويشير إلى أن عودة العلاقات التجارية مع روسيا قد تكون إحدى الطرق لتخفيف هذا الضغط، لكن ذلك يعتمد على التوصل إلى اتفاق سياسي شامل.

أما سيهيدا فيرى أن السماح لروسيا بالاستفادة من عدوانها سيكون خطأ كبيرًا، مردفا: "أي تخفيف للعقوبات دون تحقيق سلام عادل سيشكل مكافأة للكرملين. يجب أن يكون هناك موقف صارم يمنع تكرار هذا السيناريو مستقبلًا".

الحرب أيضًا ألقت بظلالها على الأمن الغذائي العالمي، حيث تعطلت بعض عمليات تصدير الحبوب والأسمدة من أوكرانيا وروسيا، مما أثر على العديد من الدول النامية التي تعتمد بشكل كبير على هذه الموارد، وبالتالي، فإن التوصل إلى اتفاق سلام، كما يرى دويدار،  قد يعيد تدفق هذه الموارد بشكل طبيعي.