انتهى الدوام أخيرا.
أسدل الظلام ستائره بالفعل، رغم انها لم تدق الخامسة بعد.
إلى البيت أسير بخطوات سريعة.
طريقة اعتدتُها للتغلب على البرد القارس.
لكن للبرودة أشكال أخرى في شقة صغيرة لا تحتضن سواي.
وحدي لكن لست الوحيدة.
قرابة نصف منازل واشنطن وشققها يقطنها شخص واحد دون ونيس.
ما منح العاصمة الأميركية لقب المدينة الأكثر وحدة في الولايات المتحدة للعام الثاني على التوالي.
هكذا أعلن مكتب الإحصاء التابع لوزارة التجارة قبل أيام.
أحب المنطقة التي أقطنها.
يذكرني المعمار فيها بمباني وسط القاهرة الخديوية.
تأخذ المنطقة اسم جورج تاون أو بلدة جورج.
ما من اتفاق حول هوية جورج الذي تحمل المنطقة اسمه.
يرجح البعض أن يكون جورج الثاني ملك إنجلترا، خاصة أن المنطقة بنيت في عهده.
يظن آخرون أن جورج هو مالك الأراضي الاسكتلندي جورج جوردون.
وربما سمُيت على اسم جورج بيل أحد السكان الأوروبيين الأوائل.
فجأة! توقفت قدماي.
رأيته جالسا خلف نافذة زجاجية تطل على الشارع.
يتطلع على المارة.
يتفحص الوجوه.
شيء يجذبني إليه.
اقتربت.
أعارني انتباهه للحظات ثم لاح بوجهه بعيدا.
ثمة حزن يخيم على وجهه.
تكشف النافذة عما يحدث في الداخل.
غرفة في الدور الأرضي تكاد تخلو من الأثاث.
وسائد كبيرة على الأرض.
سلال من القش بُطنت بالصوف والفراء.
أناس يحتسون الشاي، حولهم عدد ليس بقليل من القطط.
الكلُ حاف القدمين.
على الباب كتب بالحروف اللاتينية: مياو ميزون، ما ترجمته بالعربية "بيت المواء".
أخرجت هاتفي من جيبي.
كتبت اسم المكان على محرك البحث.
إنه مقهى للقطط!
أما لطيف الوجه حزين الملامح فهو "ممفيس" القط.
ممفيس خلف نافذة المقهى- حقوق الملكية: انستغرام danny.ultramax@
ولد ممفيس قبل 7 سنوات.
قضى سنوات حياته السبع كلها في منزل عائلة تسكن ولاية فيرجينيا المجاورة.
لكنها تخلت عنه دون إبداء أسباب.
لمسة حُلوة
في الداخل تعرفتُ على ميشيل.
وجدتها تفترش الأرض كأغلب الموجودين.
بجوارها فنجان من الشاي الأخضر.
تطرز زهورا على قطعة من القماش.
أخبرتني أنها من مواليد كونيتيكت.
الولاية تبعد نحو 320 ميلا إلى الشمال من واشنطن.
هناك عاشت ودرست القانون.
انتقلت إلى واشنطن قبل عام للعمل في إحدى شركات المحاماة.
في شقة صغيرة تعيش رفقة قطين.
تبنتهما الشابة من مقهى للقطط اعتادت الذهاب إليه.
"منحاني الألفة التي افتقدتها بعيدا عن الأهل."
قاطعتنا قطة اقتربت من ميشيل.
حول رقبتها طوق تتدلى منه شارة كُتب عليها: "زُفران"!
زفران هو اسم القطة، وأيضا اسم دواء يعرفه مرضى السرطان جيداً.
الدواء يمنع الغثيان والقيء الناتج عن العلاج الكيميائي أو الإشعاعي.
هي واحدة من بين 20 قطا يحتضنهم مقهى "مياو ميزون" حاليا.
لكل منها قصة انتهت بالوصول إلى الملجأ.
هل كان صاحب زُفران مريضاً بالسرطان ووجد فيها الدواء؟
أخذت ميشيل تمسح بيدها على رأس القطة.
الأخيرة تمد رقبتها باتجاه يد الفتاة.
صحيح أن اللغة وسيلة للتواصل.
لكن من قال أن اللغات لا بد أن تكون أحرفاً وكلمات؟
"حضن أو لمسة من قط تخفف أي مرارة في اليوم”، قالت ميشيل مبتسمة.
ميشيل في مقهى "مياو ميزون"، حقوق الملكية: انستغرام danny.ultramax@
هدية
مدت ميلندا رجليها على الأرض.
أمسكت بعصا في نهايتها ريشة.
قطط عن يمينها وعن يسارها.
جاءت السيدة رفقة ابنها وكِنتها.
زيارتها للمقهى الليلة هي هدية من الزوجين.
"أحب القطط، وقد نشأت وسط الكثير منها".
ميلندا ابنة ولاية ميرلاند المجاورة، تعيش في واشنطن منذ أكثر من أربعة عقود.
أخبرتني أن لها ابنة تتحدث العربية بطلاقة.
كان للسيدة قِطّان: أوليفر وكلارك.
خلال جائحة كورونا عانت ابنتها من وحدة شديدة.
ذات يوم جاءت الشابة لزيارة أمها.
"عملت حينها من المنزل، وكان الحزن يغمرها".
وهبتها ميلندا القط أوليفر تستأنس به.
وقد كان في وحدتها خير رفيق.
احتفظت هي بكلارك.
"لا أخلد للنوم، إلا والمشاكس البرتقالي فوق رأسي”، تقول ميلندا ضاحكة.
رفيقي الصغير
لا يزال ممفيس يطل من النافذة.
لا يأبه لأحد.
لا تغره كرات الخيط التي يتقاذفها زوار المقهى و"هيذر".
كممفيس، ولدت الفتاة في فيرجينا.
جاءت إلى المقهى الليلة مع صديقة الجامعة.
تعيش هيذر رفقة حبيبها وقطٌ سمته: فرانكي.
"البلطجي" فرانكي برتقالي اللون، ذو شهية مفتوحة، يزن 20 رطلا.
عُثر عليه داخل صندوق بيتزا ملقى في شرفة لشقة خالية.
صاحبه تخلى عنه قبل أن يرحل عن الشقة، أخبرتني.
أما حبيب هيذر فيدرس الحقوق.
يقضي أغلب يومه بعيدا عن المنزل بين الدراسة والتدريب.
لا تطيق هي الوحدة.
"لم أعش بمفردي أبدا، فقد نشأت في عائلة كبيرة وسط عدد كبير من الأشقاء".
"عندما أعود إلى المنزل أحتاج أحدا أُسرُّ له بتفاصيل يومي".
بات فرانكي "رفيقي الصغير"، تقول هيذر.
هيذر (يسار الصورة) مع صديقتها في مقهى القطط، حقوق الملكية: انستغرام danny.ultramax@
عائلة جديدة
أحاطت نيكيتا وخطيبها فافيك بقط مستلق على سرير مصنوع من الصوف.
مد القط ساقه بلطف يحاول مصافحة الفتاة.
لمسة غمرتها بشحنة من الفرح.
ابتهجت.
فافيك سعيد لسعادة زوجته المستقبلة.
أخبرتني نيكيتا إنهما يقضيان كثيرا من الوقت أمام التلفاز أو على الهاتف، بعد العودة من العمل.
حتى جاء يوم موعود.
سألهما صديق أن يستضيفا قطه لأيام حتى يعود من السفر.
حينها تبدل كل شيء.
"شعرتُ براحة نفسية غير مسبوقة".
"كان خير إلهاء لي عن مآسي العالم".
" أشعرنا القط أن الحياة ليست مجرد عمل فحسب".
فكرنا في أن يكون لنا قطٌ.
أسعار القطط باهظة: ألفان إلى ثلاثة آلاف دولار للواحد على الأقل.
لماذا نقصي خيار التبني إذن؟
"جميع القطط حلوة، تحتاج الكثير منها إلى عائلة ونحن نريد قطا، فلم لا."
توجه فافيك إلى ملجأ للحيوانات.
ملأ استمارة التبني.
قدم كل الأوراق المطلوبة.
يقول: "يتأكد الملجأ أنك على وعي بأن اقتناء حيوان أليف هو مسؤولية، وأنك على قدر المسؤولية."
- "يسألونك عن نمط حياتك."
- "هل تعمل من المنزل أم من المكتب؟"
- " كم عدد ساعات الغياب اليومية عن المنزل؟"
- "هل لديك أصدقاء لديهم خبرة في التعامل مع الحيوانات الأليفة؟".
بعد أيام وصلت الموافقة على طلب التبني.
لكن أي قط يقع عليه الاختيار؟
وجه الملجأ الشاب إلى مياو ميزون.
المقهى يحتضن عددا من قطط الملجأ. يوفر لها بيئة تفاعلية مع البشر.
هنا يمكن لأسرة فافيك قضاء وقت مع القطط قبل تحديد القط الأقرب إلى القلب.
قررا تبني "وينسلو".
"شعرت أنه اختارنا قبل أن نختاره". تقول نيكيتا.
أعطياه اسما جديدا: بيلو.
الاسم هو تصغير لكلمة "بيلي" وتعني القط باللغة الهندية.
عشرات القطط
على مدار عام جرى تبني 214 قطا من هذا المقهى.
تقول نايا المتطوعة للعمل في مياو ميزون إن المقهى يستوعب 20 قطا في المرة الواحدة.
فبعد كل تبني يرسل الملجأ قطا جديدا بدلا عنه.
"مهمتنا إنقاذ المزيد منها، بتوفير مساحة آمنة يمكن التعارف داخلها".
يُؤمن المقهى موازنته عبر فرض رسوم دخول لقاء قضاء وقت داخله.
لمحت بطرف عيني ممفيس يمشي بعيدا عن النافذة.
سألتُ نايا عنه: هل يعاني من مرض ما؟
قالت: "أبدا، ملفه الصحي سليم. هو هادئ وحنون، لكنه دائم الحزن".
"لاحظت مؤخرا أنه بدأ في التفاعل مع الآخرين".
- هل أبدى أحدهم رغبة في تبنيه؟
- لا.
ودعت المكان.
القط ممفيس، حقوق الملكية: انستغرام danny.ultramax@
صورة ممفيس لا تفارق بالي.
حتى اسمه فرعوني كجذوري.
لا استطيع إخراجه من عقلي.
فهل أدخله حياتي؟