العرب الأميركيون جزء من نسيج المجتمع
العرب الأميركيون جزء من نسيج المجتمع

تحتفل الولايات المتحدة في أبريل بشهر التراث العربي الأميركي، تقديرا لإسهاماتهم في البلاد على مر التاريخ.

وتقام في هذه المناسبة أنشطة وندوات ورحلات ترفيهية وأمسيات فنية تسلط في مجملها الضوء على إسهامات العرب في الولايات المتحدة.

وأطلقت مؤسسة Arab America وArab America Foundation مبادرة شهر التراث العربي الأميركي، في عام 2017، وفي أبريل 2021، أعلن الرئيس الأميركي، جو بايدن، رسميا، شهر أبريل مناسبة وطنية للاحتفال بشهر التراث العربي الأميركي "تقديرا لنحو 3.5 مليون شخص يجسدون لكثير مما تمثله بلادنا: العمل الجاد، والصمود، والعطف، والكرم".

وفي عام 2022، أصدر الكونغرس ووزارة الخارجية و45 من حكام الولايات مراسيم وبيانات تؤكد الاحتفاء بالمناسية.

وقال البيت الأبيض في بيان بالمناسبة، قبل أيام،: "في هذا الشهر، نكرم التراث الغني والتاريخ والآمال لأكثر من 3.5 مليون عربي أميركي في جميع أنحاء بلادنا الذين ساعدوا في كتابة القصة الأميركية".

وكتب وزير الخارجية، أنتوني بلينكن، في بيان آخر أن العرب الأميركيين قدموا إسهامات في جميع المجالات، في العلوم والتكنولوجيا والمطابخ والأزياء والموسيقى والفن، وفي التعليم والمحاماة والهندسة والطب، كما يعملون في الخدمة العامة، من الحكومات المحلية إلى البيت الأبيض.

ويعمل نحو 12 في المئة من العرب الأميركيين في الحكومة الفيدرالية وحكومات الولايات والحكومات المحلية، وفقا لمكتب الإحصاء.

وقال وزير الخارجية في بيانه بهذه المناسبة إن الاحتفال هذا العام يأتي وسط "ألم هائل"، مشيرا إلى مقتل أكثر من 30 ألف فلسطيني في غزة،"كثير منهم من المدنيين، ومن بينهم آلاف الأطفال".

وأكد بلينكن السعي إلى وقف فوري لإطلاق النار يضمن إطلاق سراح جميع الرهائن ويتيح زيادة مستدامة في المساعدات الإنسانية إلى جميع أنحاء غزة.

وأشار البيت الأبيض كذلك إلى "الألم الذي يشعر به الكثير من أفراد المجتمع العربي الأميركي بسبب الحرب في غزة"، مؤكد العمل "مع الشركاء في جميع أنحاء المنطقة للاستجابة للأزمة الإنسانية العاجلة، وتقديم المساعدات التي تشتد الحاجة إليها إلى غزة، وإطلاق سراح الرهائن".

وفي شهر أبريل من كل عام، تستضيف "مؤسسة عرب أميركا" فعالية في العاصمة واشنطن  لإحياء شهر التراث العربي الأميركي، ويحضر الحفل أعضاء الجالية العربية الأميركية وأعضاء في الكونغرس وقادة محليون.

ويسلط الحدث الضوء على التراث والثقافة العربية من خلال الفنون والطهي والموسيقى والرقص.

وفي احتفال العام الماضي، الذي أقيم في أرلينغتون بولاية فيرجينيا، تم عرض الإنجازات العربية في التاريخ والأزياء والموسيقى. وتخللت الأمسية كلمات ألقاها الضيوف، وعرض أزياء ثقافي، وموسيقى حية، وإلقاء للشعر.

وفي مكتبة الكونغرس، استضافت النائبة من أصل فلسطيني، رشيدة طليب، مأدبة غداء.

حقائق عن العرب الأميركيين

ويقدر المعهد العرب الأميركي عدد العرب الأميركيين بـ3.7 مليون شخص، تعود أصولهم إلى العديد من دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وجنوب الصحراء، والذين استقروا بأعداد كبيرة في الولايات المتحدة منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر.

وغالبية العرب الأميركيين ولدوا في الولايات المتحدة، و85 في المئة هم مواطنون، وغالبيتهم يتحدرون من لبنان ومصر وسوريا والأراضي الفلسطينية والعراق، وفق المعهد.

ويعيش العرب الأميركيون في جميع الولايات الخمسين، بينما يعيش ما يصل إلى 95 في المئة منهم في المناطق الحضرية، خاصة في نيويورك وديترويت ولوس أنجليس وشيكاغو وواشنطن العاصمة ومينيابوليس.

ويعيش ما يقرب من 75 في المئة من جميع العرب الأميركيين في 12 ولاية فقط هي كاليفورنيا، وميشيغان، ونيويورك، وتكساس، وفلوريدا، وإلينوي، ونيوجيرسي، وأوهايو، ومينيسوتا، وفيرجينيا، وماساتشوستس، وبنسلفانيا، وفيرجينيا.

وفي حين أن شهر التراث العربي الأميركي هو مناسبة حديثة، فإن تاريخ قدوم العرب إلى الأراضي الأميركيية يعود إلى القرن السادس عشر، وفق وزارة الخارجية.

ووصل المهاجرون العرب إلى الولايات المتحدة في أربع موجات هجرة من لبنان وسوريا ومصر والمغرب والعراق والأردن وفلسطين واليمن وتونس والجزائر والعديد من دول الخليج وليبيا.

وكانت الموجة الأولى تتألف في أغلبها من  اللبنانيين والسوريين، الذين عمل معظمهم بقالين وباعة متجولين في الشمال الشرقي والغرب الأوسط.

لكن الهجرة الفعلية حدثت في بداية القرن العشرين، مع اجتذاب صناعة السيارات المزدهرة في ديترويت المهاجرين من جميع أنحاء العالم.

أما الموجة الثالثة، والتي استمرت حتى عام 1990، فقد اشتملت على الفارين من الحرب في لبنان، والفقر في مصر والمغرب واليمن.

وتضم الموجة الرابعة الحالية لاجئين من الصومال والسودان والعراق وسوريا.

شاحنات الطعام في واشنطن تحمل أحلاما عربية على عجلات

كانت الريح تخترق معطفي الأسود الثقيل، وبرد يناير يلسع جيوبي الأنفية، حين شدتني رائحة شواء تفوح من بعيد.

الساعة تشير إلى العاشرة صباحا.

يكسو الجليد شوارع العاصمة واشنطن وأزقتها.

الأبيض يغطي كل شيء، عدا شاحنة على جانب الطريق نحو الكابيتول توشحت بصورة شطيرة لحم مع جبن ذائب.

وسط يافطة كبيرة كُتبت بالإنجليزية على الشاحنة، لمحتُ كلمة واحدة بالعربية: “حلال".

"صباح الخير”، نطقتُها بلهجتي المصرية.

أطل برأسه من نافذة جانبية، ووجه أذنه نحوي، وقال متسائلا: ها؟

أعدت التحية نفسها، فانشرحت أسارير وجهه.

هلّل: "مصرية؟ أنا من الإسكندرية”.

إسكندرية - واشنطن درجة سياحية

قبل عامين ونيف، هبط أحمد محمد في مطار واشنطن دالاس الدولي.

الاسكندراني ذو الواحدة والأربعين سنة يحمل ليسانس في السياحة والفندقة من مصر.

عمل سنوات في بلده الأم، ثم في السعودية، ليقرر لاحقا متابعة دراسته للحصول على ماجستير في إدارة الأعمال من جامعة "بوتوماك" بالعاصمة الأميركية.

وضعت الصدفة أحمد في طريق رجل مصري آخر من أبناء القاهرة، اسمه وليد وكنيته "بيلي"، يعيش هنا منذ سنوات طويلة.

تحول اللقاء العابر إلى صداقة استمرت إلى اليوم.

"بيلي" يمتلك عددا من شاحنات الطعام، المعروفة بالإنجليزية بـ”فود تراك”، وهي واحدة من أشهر معالم الحياة في المدن الأميركية.

حصل أحمد سريعا على فرصة للعمل على متن إحدى شاحنات “بيلي".

شباك الشاحنة صغير الحجم كان نافذة كبيرة أطل منها أحمد على عوالم جديدة: فسيفساء من الأعراق واللغات والأديان والأجناس.

العمل الجديد لم يكن مجرد مصدر دخل مادي.

حسّن أحمد مستواه في اللغة الإنجليزية؛ يقول حتى "لهجة الرابرز صارت يسيرة الفهم علي".

بالنسبة لأحمد، عمله على شاحنة طعام هو خطوة أولى على طريق تحقيق حلم يراوده منذ دهر من الزمن.

"أنا عاوز يبقى عندي مطعم مش فود تراك. بس واحدة واحدة"، هكذا لخص ابن الإسكندرية حلمه الكبير في كلمات بسيطة.

إسكندرية الأميركية!

في إسكندرية أخرى، تبعد نحو 7 أميال فقط عن وسط العاصمة واشنطن، دقت الساعة الرابعة، بعد ظهر يوم عمل طويل.

بدأ مصنع صغير للجعة يستقبل زبائنه.

على مقربة، صُفت شاحنة طعام تأخذ اسم حضارة أفريقية قديمة عُرفت باسم “كوش".

رائحة فلافل تعدك بدفئ تتوق له في بردي الشتاء والغربة.

خرج من الشاحنة في زي طاهٍ باللون الأسود، على كتفه اليمنى خيط علم السودان، وعلى وجهه ابتسامة ترحاب عريضة.

علي عثمان ابن مدينة ود مدني السودانية.

ترك وطنه في ظروف لا تختلف كثيرا عن تلك التي يعيشها البلد الآن.

كان في 18 من عمره عندما كانت حرب أهلية تدور رحاها بين الشمال والجنوب.

عَلِمَ أن التجنيد الإجباري ينتظره. وكانت مشاركته في الحرب ضد الجنوب لا مفر منها، فقرر الرحيل.

إلى سوريا شد الرحال، وتبددت آماله بدراسة القانون.

اشتغل بأحد المطاعم هناك.

في أروقة المطبخ، عثر على كسرة من بيت تركه مكروها.

استرجع بين الأطباق والحلل ذكريات بسيطة سعيدة، كان فيها رفقة أمه بالمطبخ يحضّّران معا الطعام في رمضان.

ومضات أبقته قريبا وإن كان بعيدا.

التحق بمعهد لدراسة الطبخ، بنصيحة من رئيسه الشيف أبو جورج.

راوده حُلم جديد: مطعم خاص به!

حُلم لم ير علي أن سوريا الأرض الملائمة لتحقيقه، فآن وقت رحيل ثان!

مشوار مع الصدف

في إحدى الليالي، ذهب علي إلى مقهى للسودانيين في العاصمة السورية.

تعرف هناك على رجل سوداني آخر كان قادما من تايلاند.

لم يكن علي يعرف الكثير عن هذا البلد، وهو في بحث عن أرض جديدة، فطرح بشغف العديد من الأسئلة.

مر أسبوع.

وجد السوداني نفسه أمام السفارة التايلاندية في دمشق يطلب تأشيرة دخول. حصل عليها.

"عندي في جيبي 95 دولار وتذكرة ذهاب، ومابعرفش حاجة في تايلاند"، يتذكر.

على متن طائرة الخطوط الأردنية المتجهة إلى بانكوك تعرف علي على مجموعة من الشباب الليبيين.

لا يعرف علي في تايلاند أحدا، ولا أين ينزل، ولا ماذا ينتظره.

دلّه الليبيون على فندق اعتادوا الإقامة به، دعوه أن ينزل معهم، فقبل.

"رحت على الفندق، حطيت الشنط، نزلت تحت، ولعتلي سيكارة، بتفرج في الجماعة الأسيويين.. اشوف أتنين سُمر زيي شايلين أنبوبة غاز".

- سلام عليكم.

- عليكم السلام.

- سوداني؟

- نعم، سوداني.

- من وين أنت؟

- يا أخي أنا جاي من سوريا.

- جاي تعمل شنو؟

- جاي أدور على شغل.

- تعال، تعال، روح معانا نعبي أنبوب الغاز ده.

دل السودانيون علي على المنطقة العربية في بانكوك، سوكومفيت.

هناك، تحصل على وظيفة طاه رئيس في مطعم يملكه مواطن كويتي.

14 عاما قضاها ابن ود مدني في تايلاند.

ذاع صيته كطاهٍ يقدم أكلات تقليدية بلمسة غير معهودة.

ليلة ليست كغيرها

كان طقس بانكوك رطبا كعادته، لكن تلك الليلة كانت غير عادية.

كان علي يسير رفقة صديق له في أحد شوارع المدينة المكتظة، عندما لمح وجها مألوفا: امرأة جنوب أفريقية يعرفها وزوجها التايلاندي.

اقترب ليلقي التحية، فعَرَّفَته على منْ معها، و"جيني".

جيني أميركية تعيش وتعمل في تايلاند، ويبدو أن الحب من النظرة الأولى ليس دائما من نسج خيال الكُتاب.

"طبخت لها بامية عشان كده حبتني"، يقول علي ضاحكا.

رحيل ثالث

بلغت ليلى الرابعة من عمرها.

بدأت جيني وعلي يفكران في مستقبل ابنتهما.

اقترحت الأم الانتقال إلى موطنها الأصلي: الولايات المتحدة، حتى تتلقى ليلى تعليما جيدا.

علي في حيرة من أمره.

فهو، يملك الآن شركة للضيافة، وعمله على ما يرام. فكيف يتصرف؟

صفى علي كل شيء، وانتقل رفقة عائلته الصغيرة إلى أميركا.

هناك، تحصلت جيني على عمل في إحدى المنظمات في العاصمة واشنطن.

وتمكن علي بعد بحث طويل من العمل طباخا مساعدا بمطعم فرنسي في المدينة.

لكن: "انا عارف نفسي اني موهوب وعاوز اوصل الأكلات بتاعتي للناس".

أنشأ علي شركته للضيافة التي حملت اسم ابنته ليلى.

وزع بطاقات للتعريف بالشركة في كل مكان. لم يتصل أحد.

قدم للمشاركة بخيم تقديم وبيع الطعام في أسواق المزارعين، التي تقام كل نهاية أسبوع.

قُوبل طلبه بالرفض أكثر من مرة.

تحدث إلى جيني: ما رأيك في أن أفتح مطعما؟!

كورونا

ضربت الجائحة العالم. أغلقت واشنطن كغيرها من المدن. تبددت آمال علي.

اضطر للعمل سائقا بإحدى شركات تشغيل سيارات الأجرة.

وبات اليأس عنوان تلك الأيام.

في يوم عادي، كان علي في طريقه لشراء مستلزمات المنزل، حين شدت انتباهه شاحنة للطعام مصفوفة في الجوار. لا أحد فيها.

كتب اسمه ورقم هاتفه على ورقة، وعلقها بماسحة الزجاج الأمامي، طالبا من صاحب الشاحنة الاتصال به.

صاحب الفوود تراك عراقي كان ينوي تشغيلها لكن عقبات أوقفته.

اقنعت جيني زوجها بشراء الحافلة، خاصة وأن الحياة بدأت تعود إلى طبيعتها في المدينة بنهاية 2022.

نَفَس طويل

سلسلة من الإجراءات القانونية واللوجستية وقائمة طويلة من التراخيص كانت في انتظار علي.

رخصة الأعمال التجارية، رخصة الطعام من إدارة الصحة العامة، رخصة بيع الطعام.

فحص الصحة والسلامة، شهادة الفحص الدوري.

تأمين على الشاحنة وتأمين على الطعام وتأمين للمسؤولية العامة لتغطية الأضرار والحوادث المحتملة.

تصريح موقف الشاحنة.

التسجيل للحصول على رقم تعريف دافع الضرائب الفيدرالي والمحلي.

تقديم الضرائب المناسبة التي تشمل ضريبة المبيعات والضرائب الأخرى المتعلقة بالأعمال التجارية.

حجز مطبخ تجاري لحفظ المكونات وتجهيز الأكلات.

"لو زول غيري ما لحوح وعنده طموح، كان استسلم."، يقول الشيف علي.

حسب ما كشفه لي علي، تكلفة شراء الشاحنة وتجهيزها بالمعدات والأجهزة اللازمة تتراوح بين 50 إلى 70 ألف دولار.

أما التراخيص نفسها فلا تقل رسومها عن ألف دولار.

كوش فرايد تشيكن ساندويتش

بإمكان علي العمل أخيرا.

أمام مبنى تجاري، في منطقة تايسون كورنر، التي تبعد بحوالي 20 ميلا عن العاصمة واشنطن، صف علي شاحنته للطعام: “كوش”.

كان أول طلب يبيعه شطيرة الدجاج المقلي، التي منحها نكهة جديدة بإضافة مزيج محسوب بدقة من البهارات السودانية: كزبرة، كمون، ثوم، بابريكا…

"الاكل عجبهم، كنت فرحان شديد، إحساس لا يقاوم."

على مدار ثلاث سنوات، تمكن علي من امتلاك وتشغيل شاحنتين الطعام: كوش 1، كوش 2.

بنى سمعة ممتازة، تعكسها تقييمات زبائنه على غوغل.

يقول إن وصفته للنجاح، هي جودة الأكل والنظافة والمثابرة، "باشتغل يوميا 13 او 14 ساعة، ما حقي لازم اتعب فيه."

تذوقت فلافل أو طعمية "كوش".

تختلف عن الطعمية المصرية. عجينتها من الحمص. لكن فيها لمسة خاصة.

"هذه لمسة أمي! فالطعمية أعملها بالطريقة التي تعلمتها من أمي الله يرحمها"، يقول علي.

الصيف الماضي، أطلق الشيف علي، بشراكة مع طاه مصري، شاحنة طعام ثالثة: بلو نايل أو النيل الأزرق.

تقدم بلو نايل للزبائن، شطائر "برجر" من لحم ضأن يعكف علي على فرمها وتشكيلها بنفسه.

أما حلمه الذي ظل يطارده لسنوات، فيبدو أنه سيرى النور أخيرا.

قبل أيام، وقع علي عقد إيجار محالّ داخل ساحة لبيع الأطعمة في قلب واشنطن.