في كتابه "مرثية هيلبيلي: مذكرات عائلة وثقافة في أزمة"، يقول جي دي فانس: "أتعاطف مع الملايين من الأميركيين البيض من الطبقة العاملة من أصل أسكتلندي أيرلندي، والذين لا يحملون شهادات جامعية. بالنسبة لهؤلاء الناس، الفقر هو التقليد العائلي".
ويضيف فانس أن أسلاف هؤلاء الأميركيين "كانوا عمالا باليومية في اقتصاد العبيد الجنوبي، ثم مزارعين، وعمال مناجم الفحم، وعمال الميكانيكا والمطاحن لاحقا. يطلق عليهم (هيلبيلي Hillbilly)، أو (ريدنيك Redneck)، أو (وايت تراش White trash). أنا أسميهم الجيران والأصدقاء والعائلة".
الكتاب الأكثر مبيعا
يسرد فانس في الكتاب قصة حياته وتجربة أسرته، لكنه يتحدث بلسان حال سكان مناطق واسعة في الولايات المتحدة تعرف بجبال أبالاش وحزام الصدأ. هناك يعيش أميركيون من العرق الأبيض قصة مختلفة عما يراه العالم في مدن نيويورك ولوس أنجلوس ولاس فيغاس.
ومصطلح (هيلبيلي Hillbilly) الوارد في عنوان الكتاب يشير إلى سكان التلال في تلك المناطق. وهو مثير للجدل إلى حد ما، لأنه يعتبر مهينا في بعض السياقات.
وينقل فانس عن جدته قولها "مسموح لنا أن نطلق على أنفسنا أهل التلال (هيلبيلي)، وقد فعلنا ذلك، ولكن لا يسمح لأي شخص آخر أن يطلق علينا اسم أهل التلال".
لذلك هو مصطلح محبب للأشخاص الذين يستخدمونه عن أنفسهم وعائلاتهم. لكن "إذا وصفني به شخص ما، وكان يعني ذلك على محمل الجد، فسأشعر بالإهانة الشديدة"، يقول فانس، في مقابلة إذاعية.
ومصطلح "ريدنيك" يطلق على الأميركيين من الطبقة العاملة الدنيا، ويعيشون حياة غير متطورة، وغالبا هم من سكان الريف في جنوب الولايات المتحدة. وكذلك مصطلح "وايت تراش"، يشير إلى ذات المعنى إلى حد ما.
مذكرات سناتور ولاية أوهايو، جي دي فانس، أصبحت الكتاب الأكثر مبيعا في نيويورك تايمز، وأنتج فيلم على Netflix في عام 2020 يحكي القصة.
كان الكتاب حلما لفانس الذي أراد أن يحكي للأميركيين قصة البيض من الطبقة العاملة. وبالفعل، نشر الكتاب قبل أشهر من الانتخابات الرئاسية عام 2016، استخدمه بعض قادة الفكر كتفسير لسر فوز، دونالد ترامب، بالرئاسة المدعوم من فئة الناخبين البيض في الولايات الزرقاء سابقا.
في ذلك الحين، لم يكن فانس يتفق مع أفكار ترامب، وكان يعارض فوزه بالرئاسة في 2016.
والردود على الكتاب أحدثت جدلا، فبينما يتذكر فانس قصص طفولته المضطربة في أوهايو، قدم أيضا نظرة نقدية لجذوره الأبالاش.
رد سكان وكتاب من أبالاش قائلين إن فانس أخطأ في تمثيل المنطقة، واستبعد وجهات النظر الرئيسية والسياق التاريخي لها. فقد استخدم تجاربه الشخصية لتوصيف منطقة بأكملها.
كتاب فانس وشخصيته عادت إلى الضوء بقوة، بعد أن أصبح نائبا للرئيس دونالد ترامب في ولايته الثانية التي فاز بها في انتخابات 2024. وهو يمثل طبقة الأميركيين الفقراء الغارقين في مشكلات معقدة، ويعيشون خارج دائرة الضوء.
عاش فانس طفولته وصباه في بيئة أسرية مليئة بالعنف والمخدرات والإدمان على الكحول، وكان يعتقد أن طريقه لتحقيق الحلم الأميركي مستحيلة، فقد عاش فترة من طفولته وصباه على رؤوس التلال في مدينة جاكسون الصغيرة بولاية كنتاكي التي يعرف سكانها القليلون بعضهم بعضا، ويتبادلون التحيات كلما التقوا في الطريق، ويحدقون بتمعن في أي مركبة غريبة تدخل المدينة.
يذكر فانس حين كان طفلا، أن موكبا جنائزيا كان يمر قرب منزله في جاكسون، فقالت له جدته، علينا أن نخرج ونقف للجنازة. سأل الطفل جدته لماذا نفعل كل هذا؟ لماذا يتوقف الجميع عند مرور موكب الجنازة؟ قالت الجدة "لأننا يا عزيزي، نحن سكان التلال، نحترم موتانا".
طفولة فانس كانت مؤلمة، وتعكس القصص التي يرويها في كتابه، كيف تتحمل هذه الطبقة من الأميركيين مسؤولية أفعالهم، ويكشف عن الأسباب الكامنة وراء فقر الأجيال الذي يعاني منه الجنوب وأبالاش وحزام الصدأ. لكن أهم هذه الأسباب هو تراجع الصناعات الأميركية بفعل اتفاقيات التجارة والاتجاهات الجديدة لاقتصاد الولايات المتحدة.
الثقافة الجبلية
يجد الأشخاص الذين يعيشون في الجنوب، وأبالاش، وحزام الصدأ أنفسهم عالقين في حلقة مفرغة من الفقر والمخدرات والعنف، وفق وصف فانس الذي يرى أن هؤلاء وإن لم يتمكنوا من التعامل مع مشكلاتهم، إلا أنهم ضحية التحول الذي شهدته أميركا.
وحزام الصدأ يبدأ من نيويورك إلى الغرب، ويمر عبر ولايات بنسلفانيا وويست فرجينيا وأوهايو وإنديانا ومناطق في ولاية ميشيغان، وشمال إلينوي وشرق ولاية ويسكونسن. وعانت هذه المناطق من التدهور الاقتصادي بعد أن كانت مركز الصناعات الأميركية.
وتمتد جبال الأبالاش على طول شرق الولايات المتحدة، وتمتد من المسيسيبي إلى نيويورك.
تشمل منطقة أبالاتش، كما حددها الكونغرس، كل ولاية ويست فرجينيا وأجزاء من عدة ولايات أخرى، بما في ذلك ميسيسيبي وألاباما وتينيسي وشرق كنتاكي وجورجيا ونورث كارولينا وجنوبها وفرجينيا وشرق أوهايو وميريلاند وبنسلفانيا ومناطق في جنوب ولاية نيويورك.
في جنوب غرب أوهايو، تشمل منطقة أبالاش مقاطعة كليرمونت. أما ميدلتاون، مدينة مقاطعة بتلر حيث قضى فانس معظم طفولته وشبابه، ليست في أبالاتش.
وهو ما ركز عليه منتقدو فانس الذين اعترضوا على طريقة تقديمه لواقع سكان تلك المناطق. لكن عائلة فانس انتقلت من جاكسون في كنتاكي وهي منطقة تقع ضمن أبالاش.
ويروي فانس في كتابه أن هذه الفئة الديموغرافية من الأميركيين تفككت ببطء على مدار 40 عاما ماضية. ومع ذلك، لم يقدم أي شخص تحليلا صادما تماما مثلما فعل فانس الذي حلل ثقافة التلال الأميركية وكشف أسرارها.
يقول فانس إن سكان أبالاش طيبون وكرماء، لكنهم كانوا يتجنبون العمل الجاد، ويختلقون الأعذار للحالة التي وصلت إليها حياتهم.
وبسبب نشأة فانس في هذه المناطق، فإنه يتماثل مع ملايين الأميركيين من الطبقة العاملة الذين ليس لديهم شهادات جامعية ويعانون من الفقر العابر للأجيال.
الهروب إلى أوهايو
ولفهم حياة فانس والثقافة التي نشأ فيها، لابد من فهم حياة جديه جيمس وبوني فانس، "باباو وماماو"، كما كان يناديهما.
ولد الجدان جيمس وبوني في فترة الثلاثينيات في مدينة جاكسون، كنتاكي، ونشأ الاثنان كسكان تلال. لكن رغبة منه في الهروب من فقر مدينة جاكسون، انتقل جد فانس إلى ميدلتاون في ولاية أوهايو، حيث حصل على وظيفة في شركة أرمكو الأميركية، إحدى شركات الصلب الكبرى.
في تلك الفترة، شهدت ميدلتاون طوفانا من الناس القادمين للعمل، حيث كان لدى الآخرين نفس الفكرة، وكان لدى أرمكو الكثير من الفرص.
وفر العمل في مصانع أوهايو لجدي فانس المال اللازم للعيش بشكل مريح وإعالة أسرهم.
كانت هناك موجتان كبيرتان من الهجرة، إحداهما مباشرة بعد الحرب العالمية الأولى، والثانية بعد الحرب العالمية الثانية.
وكان جداه جزءا من الموجة الثانية، حيث انتقل ملايين الأشخاص من تلال شرق كنتاكي، ووست فرجينيا، وشرق تينيسي إلى جنوب وشمال أوهايو وميشيغان وبنسلفانيا.
التدهور
بدأت مدن في منطقة حزام الصدأ، مثل جاكسون بولاية كنتاكي، في التدهور بسرعة مع استمرار الناس في الهروب والبحث عن الفرص في أماكن أخرى.
والأسوأ من ذلك أن مدينة جاكسون بدأت تعاني من ارتفاع مستويات إدمان السكان على الكحول والمخدرات.
بدأ نظام التعليم في الانهيار أيضا، وأصبح الوضع سيئا للغاية، لدرجة أن السلطة الفدرالية اضطرت للتدخل والسيطرة على الوضع هناك، يقول فانس في كتابه.
ولم يكن أمام الآباء الفقراء خيار سوى إرسال أطفالهم إلى المدارس التي لا تقودهم إلى أي مكان، وبالكاد تعدهم للالتحاق بالجامعة.
ويقول فانس في كتابه إن الناس هناك يترددون في التحدث عن مشاكلهم، ويجدون مجرد مناقشتها أمرا مسيئا لهم، فقد وجد أنهم اختاروا عدم القيام بأي شيء حيال وضعهم المأساوي.
ويذكر فانس أن قناة ABC News صورت فيلما وثائقيا عن جبال آبالاش في أميركا، يسلط الضوء على مشاكل الأسنان التي يعاني منها الشباب بسبب استهلاكهم المفرط للمشروبات الغازية السكرية، لكن السكان هاجموا شبكة ABC زاعمين أن التقرير لم يكن مسيئا فحسب، بل انتهك خصوصيتهم.
وتشير دراسة أجريت على المراهقين في تلك المناطق إلى أنهم يتجنبون الحقائق المزعجة عن واقعهم منذ سن مبكرة.
وهذا يدفع المراهقين إلى خلق "واقع بديل" حيث يتجنبون إيجاد حلول لمشاكلهم ويختارون التظاهر بوجود واقع أفضل يعيشونه، كما يصف فانس.
ويرى فانس أن مثل هذا الميول الثقافي لدى السكان هناك يجعل من المستحيل عليهم أن يفهموا أن مشاكلهم الحقيقية، وأنه يجب التعامل معها، وبدلا من ذلك، فإنهم ببساطة يتجاهلون وضعهم.
الهروب من المكان لا العقلية
في ميدلتاون حصل جيمس (جد فانس) على أجر معقول، وكانت العائلة قادرة على العيش براحة أكبر مقارنة بالظروف التي عاشوها في كنتاكي. لكن من الداخل، يقول فانس إن أسرتهم كانت بعيدة عن أن تكون طبيعية.
سرعان ما خرج إدمان الجد جيمس على الكحول عن السيطرة، وأصبح عنفه المنزلي أسوأ. من ناحية أخرى، تعاملت بوني (جدة فانس) مع إدمان زوجها بإهمال المنزل، وسرعان ما بدأت الغرف تمتلئ بالقمامة.
ومع ذلك، علمتهم ثقافتهم الجبلية أن يتجاهلوا مشاكلهم، يقول فانس. لذلك اعتقدت العائلة أن العنف وشرب الخمر والإهمال جزء من الحياة اليومية، وليس هناك سبب للتغيير.
ولكن سرعان ما سئمت الجدة بوني من إدمان زوجها للكحول، وهددت بقتله إذا عاد إلى المنزل وهو في حالة سكر مرة أخرى.
وبعد أسبوع واحد فقط، عاد الجد جيمس إلى المنزل وهو مخمور تماما، فغضبت جدة فانس، ونفذت وعدها فسكبت على زوجها البنزين وأشعلت فيه النار.
وبأعجوبة، نجا جد فانس من حروق طفيفة فقط، ولكن مشاهدة مثل هذا السلوك العنيف أثرت في النهاية على الأطفال في المنزل.
بدأ الجد جيمس والجدة بوني رؤية آثار أسلوب حياتهم على أطفالهم الضعفاء. كان لهما ابنة اسمها بيفرلي، وهي ستكون والدة فانس.
حملت بيفرلي فانس وهي في الـ 18 من عمرها، لذا كرس والداها حياتهما لمساعدة أطفالها والتعويض عن ماضيهم المروع.
وبينما كان الجدان يعملان على تحسين حياتهما، بدأت أحوال مدينة ميدلتاون التي يعيشان فيها، في التدهور.
وعندما ولد فانس، لم تعد المدينة المكان المزدهر الذي كانت عليه من قبل. وكانت شركة أرمكو تتقلص بسرعة، ولم يعد الجيل القادم من العمال يرغب في العمل في شركة للصلب بعد الآن.
كان الجميع يسعون لتحقيق الحلم الأميركي، لكن فانس يرى أن أنهم لم يكونوا على استعداد للعمل بجد لتحقيق ذلك الحلم.
ويقول فانس في كتابه إن معظم الناس لم يقدروا أهمية التعليم العالي في ميدلتاون، حتى أنه يتذكر أن نادرا ما تم توبيخه بسبب درجاته الضعيفة في المدرسة.
حياة غير مستقرة
كانت بيفرلي والدة فانس قد انفصلت عن والده البيولوجي، وتزوجت مرة أخرى من رجل يدعى بوب الذي انتهى به الأمر إلى تبني فانس الذي كان يبلغ السادسة من العمر.
خلال هذه الفترة، حصلت والدة فانس على رخصة مزاولة مهنة التمريض، وكانت مصممة على تغيير حياتها، ومنح طفلها حياة طبيعية يستحقها.
يقول فانس إن أمه كانت تحتفل في كل مرة كان يطلب فيها قراءة كتاب، كما أنها ساعدته في واجباته المدرسية.
ولكن هذا لم يدم طويلا، فحزمت والدة فانس وزوجها بوب الأمتعة ونقلوا العائلة إلى مقاطعة بريبل في أوهايو، هربا من تدخل الجدة بوني المستمر، لكن علاقة بيفرلي بزوجها بوب بدأت تسوء.
انخرط الاثنان في جدال وخلافات أمام فانس الصغير، وتصاعد الأمر لدرجة أن فانس كان يواجه صعوبة في النوم ليلا.
بسبب حياته الأسرية المؤلمة، بدأت درجات فانس المدرسية في التراجع، وكانت صحته تتدهور أيضا.
خلال هذه الفترة، حاولت والدته الانتحار، لأول مرة، حيث صدمت عمدا مركبتها الجديدة.
كانت علاقتها مع زوجها بوب متوترة، لذا حزمت أمتعتها، وأعادت فانس إلى ميدلتاون حيث يمكنهم العيش مع جده جيمس وجدته بوني.
ميدلتاون لم تعد المدينة الجذابة كما كانت من قبل، وتفاقمت مشكلة والدة فانس التي غرقت في المخدرات والكحول.
ويذكر فانس أن والدته حاولت ذات مرة الاعتذار له عن شربها المستمر للكحول، فاصطحبته إلى مركز تجاري لتعبر له عن حبها.
ومع ذلك، في الطريق إلى هناك، أصيبت بانهيار ذهاني أثناء وجودهما في السيارة، وضغطت على دواسة البنزين في الطريق السريع، فتجاوزت سرعة السيارة 100 ميل في الساعة، وكانت تردد عبارات تهدد بقتله وقتل نفسها.
لحسن الحظ، أوقفت السيارة قبل أن تتحطم، لكنها تحولت إلى أم عنيفة، وحاولت ضرب فانس الذي تمكن من الهرب منها إلى أحد المنازل. ويقول إن الوضع خرج عن السيطرة، وأخذت الشرطة والدته.
كان الأمر مؤلما، فقد رأى فانس أمه مكبلة اليدين مقبوض عليها، كما اضطر للكذب على القاضي بأنه لم يتعرض لعنف منزلي، لأن إثبات ذلك يعني إدخاله إلى مركز رعاية.
بعد هذه الحادثة الصادمة، أصبح فانس في عهدة جده وجدته، وأصبحت حياته أكثر إرباكا من أي وقت مضى.
كان فانس يتوق إلى شخصية الأب في حياته، لذلك عندما عاد والده البيولوجي، دونالد بومان، إلى حياته، كان فانس متشككا، ولكنه كان مبتهجا.
ولاحظ فانس أن والده لم يكن عنيفا كما كان من قبل، وأنه قد تغير. وذلك لأن والده البيولوجي وجد محبة الله، وكرس حياته للإيمان المسيحي. وأصبح لدى فانس شغف بشيء يؤمن به، فتمسك بالفكرة وقضى وقته في تعلم الدين.
انعطافات جديدة
على الرغم من عدد الشخصيات الأبوية التي دخلت وخرجت من حياة فانس عندما كان طفلا، كان هناك دائما رجل واحد يقف بجانبه، إنه جده جيمس.
ولهذا السبب عندما وجد فانس جده ميتا على كرسيه، ناضل للتغلب على حزنه والتأقلم مع فقدان أفضل شخصية أب لديه على الإطلاق.
ومع ذلك، عانت والدته أكثر من غيرها، حيث أصبح عنفها أسوأ، وأُدخلت في النهاية إلى عيادة للأمراض النفسية.
خلال هذا الوقت، أصيبت والدة فانس بإدمان المخدرات مرة أخرى، وسرعان ما فقدت وظيفتها في المستشفى.
وبعد فترة وجيزة حاولت الانتحار مرة أخرى بقطع معصميها. قادت هذه المحاولة الفاشلة والدة فانس إلى عيادة نفسية أخرى للمساعدة في التغلب على إدمانها للمخدرات.
كان فانس يبلغ من العمر 14 عاما فقط، لكنه بدأ يعتقد أن حياته بدأت تتغير. لم يدم هذا الشعور طويلا، ففي أحد الأيام أعلنت والدته أنه يجب عليها الانتقال إلى دايتون بولاية أوهايو للبقاء مع مات، صديقها الأخير.
في غضون السنوات القليلة التالية، انتقل فانس من العيش مع جدته بوني إلى والدته وصديقها مات. وكانت حياته تفتقر إلى الاستقرار أيضا.
حياة فانس ازدات سوءا عندما أعلنت والدته أنها ستتزوج من رجل آخر يدعى كين. وفي غضون يومين، حزموا أمتعتهم وانتقلوا للعيش مع كين وطفليه.
بدأت حياة فانس الفوضوية تؤثر سلبا عليه، وكان على وشك الانهيار، وغاب كثيرا عن المدرسة وانهارت درجاته العلمية.
العقلية الجديدة
كان فانس يعيش في مياميسبورغ في أوهايو، مع "عائلته الجديدة" وكأنه غريب، ولحسن الحظ، فإن العلاقة بين والدته وزوجها الجديد كين لم تدم طويلا.
عاد فانس للعيش مع جدته بوني حيث أصرت على أن يبقى معها ثلاث سنوات. وعلى الرغم من أن فانس كان متشككا وشعر بأنه عبء، إلا أنه أدرك لاحقا أن تلك السنوات الثلاث هي التي أنقذت حياته.
ومع ذلك، كانت درجات فانس في المدرسة سيئة، وكان على وشك ترك التعليم.
شعر فانس حينها بالهزيمة، وكأنه كان يغرق. لكن شيئا ما تغير عندما أنفقت جدته 180 دولارا على الآلة الحاسبة الرسومية من أجل دراسته.
لم تكن الجدة بوني قادرة على شراء تلك الآلة الحاسبة، لكنها أظهرت لفانس أن التعليم مهم وكرس وقته لتحسين درجاته.
حصل فانس أيضا على وظيفة في محل بقالة محلي، حيث أدرك كيف يتلاعب الناس بنظام الرعاية الاجتماعية، عن طريق شراء المواد الغذائية، ثم بيعها بأسعار مخفضة.
خلال هذا الوقت، بدأ فانس في تكوين صداقات، وكان يستمتع بلعب الغولف، "لعبة الرجال الأغنياء".
بالطبع، لم يكن لدى فانس المال لشراء مضارب الغولف، لكن جدته بوني عملت جاهدة على العثور على مضارب قديمة له، لأنها كانت تعلم أنه سيستفيد من تكوين صداقات أثرياء.
درس فانس بجد وحصل على درجة عالية في اختبار SAT، وتساءل مثل أصدقائه عن الكلية التي يريد الالتحاق بها. ومع ذلك، بدت عملية التقديم شاقة ومربكة، لذلك أخذ باقتراح ابن عمه وانضم إلى سلاح مشاة البحرية الأميركية.
وعلى الرغم من تردد الجدة بوني، فإنه تلقى رسائل حب ودعم منها أثناء وجوده في المعسكر التدريبي.
غير الوقت الذي قضاه فانس في المعسكر التدريبي وجهة نظره في الحياة، وشعر أنه يستطيع تحقيق أي شيء وتعلم دروسا مهمة في الحياة من شأنها أن تشكل قراراته المستقبلية.
ولكن الأهم من ذلك أنه تعلم أنه يستطيع دفع نفسه إلى ما هو أبعد من القدرة على التحمل، وأنه يستطيع تحقيق أي شيء يضعه في ذهنه، كما يقول في كتابه.
التعليم
أثناء وجود فانس في مشاة البحرية، عانت جدته بوني من ظروف صحية، وفي عمر 71 عاما، توقفت رئتيها وتوفيت.
بالنسبة لفانس، كان الأمر أكثر من مجرد فقدان شخصيته الأمومية، فقد كانت الوحيدة التي دعمته وجعلته يعتقد أنه يستطيع فعل أي شيء. وبسبب دعمها، استجمع فانس شجاعته للالتحاق بجامعة ولاية أوهايو في عام 2007.
خلال فترة وجوده في الجامعة، ارتفعت ثقة فانس بنفسه بشكل كبير. كان يحصل على تقدير ممتاز، وكان يعمل في عدة وظائف، وكان يبني صداقات.
بدأ فانس يدرك أن حياته مليئة بإمكانيات لا نهاية لها. وبينما واصل تعليمه، اختلفت أفكاره عن الحياة بشكل كبير عن تلك التي تركها في ميدلتاون.
حتى بعد التخرج، أدرك فانس أن حياته كانت تتغير بينما ظلت حياة أولئك الذين عادوا إلى المنطقة التي ينتمي إليها كما هي. لقد رآهم يتذمرون ويفشلون في تحمل مسؤولية حياتهم، لكن فانس كان مختلفا، كان سعيدا ومتفائلا بالمستقبل، كما يصف حاله في ذلك الوقت.
آفاق جديدة لم يظن أنها ممكنة
في عام 2009، فعل فانس شيئا كان يحلم به دائما. تقدم بطلب إلى كلية الحقوق وفي عام 2010، تم قبوله في واحدة من أرقى الكليات في البلاد، كلية الحقوق بجامعة ييل.
تجربة جامعة ييل وسعت مدارك فانس للوصول إلى آفاق جديدة لم يظن أنها ممكنة على الإطلاق.
وجد فانس نفسه يتساءل: "كيف يمكن لخريج جامعي من الجيل الأول أن يتفوق في إحدى كليات Ivy League؟" وهو مصطلح يتعلق برابطة تجمع ثماني جامعات تعتبر من أشهر وأقدم وأعرق جامعات الولايات المتحدة والعالم.
لقد كان فانس محاطا بطلبة من عائلات ثرية، حيث لم يكن المال مشكلة عندهم على الإطلاق، وكان فانس يدرك جيدا أنه كان أفقر طفل في العالم. لقد كان مختلفا، وشعر ببساطة أنه لا ينتمي إلى هذا المجتمع.
عندما حاول فانس إخفاء ماضيه عن زملائه وأساتذته، وجد هؤلاء حياته مثيرة بشكل لا يصدق، مما جعله يشكك في طفولته.
وعلى الرغم من شعوره بأنه منبوذ، سرعان ما وقع في حب امرأة تدعى أوشا، وهي مهاجرة من أصول هندية، ساعدته على تجاوز السنوات القليلة التالية في الجامعة. خلال هذا الوقت تعلم بعض الدروس المهمة حول كيفية عيش الأثرياء وأدرك أهمية المعارف وشبكة العلاقات.
في إحدى الليالي عندما حضر فانس حفل عشاء، سرعان ما أدرك أن هذا لم يكن عشاء بل مقابلة عمل.
أثناء تناول العشاء تواصل الناس مع بعضهم البعض، وبحلول نهاية العشاء، كان لدى فانس عرض عمل.
وسرعان ما أصبح من الواضح أن الأشخاص الناجحين يلعبون اللعبة بشكل مختلف تماما عن الشخص العادي، يقول فانس.
فانس يسعى لفهم ماضيه
لقد علمت جامعة ييل فانس درسا مهما وهو رأس المال الاجتماعي، ولولا الالتحاق بمثل هذه الكلية المرموقة، لما تعلم فانس أبدا كيفية استخدام مثل هذا المورد القيم.
كان كل شيء يسير على ما يرام بالنسبة لفانس، ولن يضطر أبدا إلى العودة إلى ضغوط العيش في بلدة جبلية تغذيها المخدرات.
ولكن بينما كان ينجح في حياته المهنية، كانت حياته الشخصية مع أوشا تواجه صعوبات. كلما اختلفوا، كان فانس يفكر في خيارين فقط: الانسحاب أو الانغماس في الجدل والصراخ.
لقد تعامل فانس مع الكثير من الصراخ والعنف في حياته الماضية، ولم يكن يريد جلب هذه السلبية إلى حياته الجديدة. ومع ذلك، سرعان ما أدرك أن خوفه الأكبر أصبح حقيقة، أنه كان يتصرف مثل والدته، كما يقول في الكتاب.
لجأ فانس إلى الكتب ليتعلم كيفية التعامل مع صدمات طفولته، وسرعان ما تعلم ما يسميه علماء النفس تجارب الطفولة السلبية (ACE).
وبحث فانس في كيفية التغلب على هذه الصراعات؟ كيف يمكن أن يتوقف عن كونه في حالة توتر وتأهب في جميع الأوقات؟
عرف فانس أنه لم يكن عاجزا، بل كان ببساطة بحاجة إلى شخص ما للتحدث معه. كان بحاجة للتحدث مع شخص يفهمه، شخص يمكن أن يساعده على فهم والدته.
بعد التخرج من كلية الحقوق بجامعة ييل، تزوج فانس وأوشا واشتريا منزلا في سينسيناتي.
ماذا حل بأمه المدمنة؟
كان فانس يعيش الحلم الأميركي. ولكن لا يزال هناك شيء غير صحيح في حياته. وعلى الرغم من أنه وعد بعدم مساعدة أمه أبدا، إلا أنه لم يستطع التصرف كما لو أنها لم تعد موجودة بعد الآن.
كانت أمه قد تعاطت الهيروين، وأدرك فانس أن حياتها تنحدر للأسوأ. قرر أن يتحمل مسؤولية مساعدتها، وعلى الرغم من شعوره الجديد بالتفاؤل، فقد أدرك حدوده.
وعندما يتعلق الأمر بحل المشاكل الموجودة في مجتمع التلال، يدرك فانس أنه لا يوجد حل سحري.
ولكن أحد الأسباب الرئيسية لنجاح فانس يمكن أن يعزى إلى القدوة التي ساعدته أكثر من غيرها.
وبينما كان لديه العديد من الرجال الذين يدخلون ويخرجون من حياته، كان دائما لديه شخصية الأب.
وعلى الرغم من أن والدته كانت عنيفة ومدمنة، إلا أنها غرست فيه حب التعليم. والأهم من ذلك، أن الجدة بوني منحته مكانا آمنا.
ولدى الآخرين الذين فروا من مجتمع التلال قصص مماثلة، ويتفقون على أن تربيتهم كانت بعيدة عن المتوسط، ولكن كان لديهم دائما قدوة لمساعدتهم خلال الأوقات السيئة، يقول فانس في كتابه.
كان فانس قادرا على التغلب على طفولته المضطربة، لكنه يدرك أن الآخرين ليسوا محظوظين جدا. ومن خلال إجراء تغييرات من أعلى إلى أسفل، يعتقد فانس أن أولئك الذين يعيشون في مثل هذه المجتمعات يمكن أن يبدأوا في التعرف على عيوبهم ويصبحوا متحمسين لإحداث التغيير.
وفي خطابه خلال اجتماعات المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري، في مدينة ميلواكي بولاية ويسكنسن، قال فانس "أريد أن أمنح أولادي الأشياء التي حرمت منها في طفولتي"، مشيرا إلى أن "الطبقة العاملة الأميركية دفعت الثمن دوما".
تحدث فانس بالتفصيل عن معاناة والدته بيفرلي مع الإدمان والفقر والعنف المنزلي. تلك الأم التي تعافت من إدمان المخدرات قبل 10 سنوات، لم تكن تتوقع أن الجمهور سيصفق لها في المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري. هي الآن والدة نائب الرئيس الأميركي، الذي وعد بدعم الأمهات العازبات ومنحهن القوة لتحقيق أحلامهن.