يندلق المرَق من الديك الرومي الذي خرج لتوّه من الفرن مشويا محمّرا، يعلوه البخار، لتنقله يد الطاهية الأميركية من بنت جبيل في جنوب لبنان، إلى طبق آخر، وتغرس فيه أعواد الروزماري الخضراء، بمشهد قد يسيل له اللعاب، قبل أن تقول ميرفت مكّي "عيد شكر مبارك للجميع".
وعلى وقع موسيقى "سهرة حب" للرحابنة، تشارك الطاهية من مدينة ديربون بولاية ميشيغان، جمهور "تك توك" الأطعمة التي أعدتها، تمتزج فيها النكهات وروائح بلاد الشام، مع ركائز مائدة المهاجرين الأوائل التي صارت تقليداً أميركياً منذ قرون، سيحييه الملايين هذا الخميس، بعد أن تخلو الشوارع وتغلق جميع المتاجر أبوابها، لأنه عيد العائلة بامتياز.
ومن ميشيغان إلى بنسلفانيا، تصف ابنة مهاجرين عراقيين من البصرة، في رسالة صوتية عبر "واتساب" تفضيلها للأرز الأفغاني "الهش" الذي ذاب في فمها مع الجزر يوم السبت الماضي، في أحد مساجد ولاية نيوجيرسي القريبة من منطقة سكناها.
وتلخّص العشرينية ضحى إبراهيم مأدبة مسجد "الإمام علي"، إحياء لعيد الشكر تحت مسمّى "عطاء الأصدقاء"، بأنها "طعم حنون أُعدّ في بيوت من نحبهم ونتناوله مع من نحب".
الطعام إظهارا للمحبة
تتذكر ميرفت (45 عاماً) أثناء مكالمة هاتفية مع "الحرة" أول ديك رومي شوته والدتها، ومثّل بداية ملامح اندماج العائلة في المجتمع الأميركي. تقول "عرفنا عن عيد الشكر في المدرسة، وأمي من خلال عملها في مطعم لأقاربنا، وحينها تذوقنا ولأول مرة في حياتنا" هذا النوع من اللحم.
ومنذ 2018 تعمل ميرفت في خدمات تقديم الطعام (الكاتيرينغ)، محققة مؤخراً أحد أحلامها، بإدارة مطبخ تتبع له قاعتان، حيث تعدّ الطعام تلبية لطلبات الزبائن خارجهما.
تقول ميرفت التي تخصص جزءاً من الأرباح منذ مدة، لصالح دعم "الأهل في لبنان"، ولا يمكن حين تتحدث إلى أميركي أصوله لبنانية تحديداً الجنوب، إلا ويأتي ذكر الحرب تلقائياً، تلك التي شهدت عقد اتفاق لوقف إطلاق النار، بعد ساعات على حديثنا الذي انتهى بهذه الأمنية.
-"بكل سؤال عن بلدي بغصّ.."
-"آسفة" أقول لها..
فتكمل ميرفت "في كل عام كنت أزور بيت الطفولة، اصطحبت إليه ابني وابنتيّ، وحدثتهم عن ذكرياتي فيه".
تهدّم البيت نهائياً خلال التصعيد الأخير بين إسرائيل وحزب الله، ليصبح الشاهد-الغائب على ثلاثة حروب: أوائل الثمانينيات حين اضطرّت عائلة ميرفت للهجرة، والثانية 2006 حين دُمرّ جزئياً ولم يتم إصلاحه مذّاك الحين، وهذه الثالثة، حيث "ما عادش في شي" على تعبيرها.
ومن وحي ثقافتها العربية، تعشق ميرفت مهنتها، كما تقول لـ"الحرة"؛ فهي "تُظهر حبها من خلال الطعام".
وتلفت إلى أنها وعائلتها تواظب منذ سنوات على اللقاء كل يوم جمعة، كل مرة في بيت أحدهم/ إحداهن، يعدّون سوياً الولائم، لذلك يبدو عيد الشكر مشابهاً سوى من شيء واحد "توفر الديك الرومي الطازج الحلال (مذبوح وفق الطريقة الإسلامية)".
وتُعد مواسم الأعياد سواء الدينية أو التي تتخذ طابعاً وطنياً كعيد الشكر، أوقاتاً مهمة للعمل بالنسبة لميرفت فهو مصدر رزقها.
وتؤكد لـ"الحرة" أن العرب من أديان متعددة مضافاً لهم المسلمون الذين ينحدرون من جنسيات متنوعة، هم الغالبية العظمى من زبائنها، منذ سنوات وخلال الأيام الماضية حيث بدأت طقوس الاحتفاء بعيد الشكر.
مع العلم أن الكثيرين في الولايات المتحدة، لا يحيون عيد الشكر، والأسباب عديدة، أحدها يعود لتاريخه المثير للجدل بالنسبة للسكان الأصليين.
تقول ميرفت "شخصياً يمثل عيد الشكر ذكرى كفاح المهاجرين الأوائل لأميركا، وأنا مهاجرة مثلهم وأحاول شق طريقي والكفاح في هذا البلد، الذي ليس بلدي، كي أنجح وأحقق أحلامي".
وهذا العام، مثل كل عام تستعد ميرفت وعائلتها الممتدة، لمأدبة عيد الشكر في بيت أختها.
الطعام جسرا للآخر
عيد الشكر "يوم مبارك" بالنسبة لضحى إبراهيم (22 عاماً)، ذلك لأنها ترى فيه الكثير من الأقارب والأحبة الذين يغيبون عنها بقية أيام السنة.
تروي لـ"الحرة": "في كندا عيد الشكر كان في شهر أكتوبر، وكان يأتينا أقاربنا من مدن أخرى أو نسافر إليهم، لأننا جميعاً في إجازة رسمية تمتد خمسة أيام، فيتجدد الودّ ونقيم الولائم".
وتفضّل عائلتها التي تحتفي بعيد الشكر كل عام، اللحم بدلاً من الديك الرومي المشوي، إلى جانبه أطباق وحلويات عراقية وشاميّة.
يتابع ضحى على "تك توك" و"إنستاغرام" أكثر من 40 ألفاً، الأغلب من سكان الدول العربية، وهم هدفها الأساسي.
وفيما تعرب عن فخرها واعتزازها بكونها عربية ومسلمة، تقول إن عيد الشكر أيضاً جسر تواصل يربط بينها والآخرين من غير دين أو قومية وغيرها من الفروقات.
"كما نجتمع مع العائلة، كذلك أجتمع مع صديقاتي العربيات ونتناول الطعام معاً في أسبوع العطلة من الجامعة، وكذلك أتبادل مع صديقاتي غير العربيات رسائل تعبر عن الحب والامتنان لعلاقتنا المستمرة والقوية"، تتابع ضحى.
ضحى التي تربت بين كندا والولايات المتحدة، تتقن اللهجة العراقية. تقول "أهلي زرعوا فينا حب العراق والفخر بكوننا عرباً ومسلمين".
وتحاول من خلال مواقع التواصل أن تري المتابعين كيف لشخص مثلها أن يعيش في الولايات المتحدة، عبر يومياتها ورحلاتها ودراستها الجامعية، فهي طالبة سنة ثالثة علوم سياسية فرعي أمن سيبراني ولغة عربية.
ونقلت للمتابعين في فيديو أجواء عيد الشكر في مسجد "الإمام علي"، حيث اجتمع أميركيون من أصول عراقية ولبنانية وأفغانية وباكستانية وهندية وإيرانية، كل منهم أحضر طبق طعام، وتشارك الجميع المذاق.
في التفاصيل تقول ضحى: "هذه المرة السادسة، التي تقام هذه الفعالية بعنوان (فريندس غيفينغ)، فالمجتمع الذي يرتاد المسجد مترابط جدا، وصرنا نعرف بعضنا البعض، وهي واحدة من بين فعاليات عدة تقام سنويا وأسبوعياً للحفاظ على استمرارية التواصل وتقوية روابط المجتمع المسلم".
وكما أنها فرصة للناس ليتعارفوا، كذلك للمسجد ليجمع التبرعات من ريع التذاكر التي تباع للمشاركين في عيد الشكر.
"كنّا فرحين ونحن نجّهز شوربة العدس ونقطع الخبز، وهذه ليست المرة الأولى التي نعد فيها طعاماً للمسجد، وكل مرة نحضّره بالحب"، تقول ضحى عن يوم المأدبة الكبيرة، حيث تتم مشاركة قائمة الطعام مع رواد المسجد، كي تنوّع العائلات وتقدم كل عائلة اللازم من مقبلات ومشروبات وحلويات، فيما تتسيد المائدة بين 6 و8 ديوك رومية.
ورغم هذه الرسائل التي تحاول الشابتان إيصالها عبر مواقع التواصل، لا تسلمان من التعليقات السلبية، بدعوى أنه عيد "غير إسلامي" ويمثل انسلاخاً عن الثقافة الأصلية.
كلاهما تعتبران هذه التعليقات تعبيرا عن عدم معرفة بطبيعة الحياة في الولايات المتحدة، حيث يفرض التنوع نفسه بين مختلف الفئات التي تتوق دائماً للمناسبات التي تجمعها.
تقول ميرفت "الإسلام أيضاً يعني السلام"، فيما تؤكد ضحى "نحن لا نمثل أنفسنا أمام الآخرين فقط، نمثّل بيئاتنا وخلفياتنا الاجتماعية والثقافية، وأنا أحب تعزيز الصورة الجميلة".