ترامب ونصب جبل راشمور التذكاري في الخلفية ـ صورة تعبيرية

هل يمكن أن يصبح دونالد ترامب سيد البيت الأبيض للمرة الثالثة؟.. سؤال فرض نفسه بقوة خلال الأيام الأخيرة، بعد تصريحه الذي أعرب فيه عن اعتقاده بوجود "طرق" يمكن من خلالها السعي لفترة رئاسية ثالثة، رغم القيود التي يفرضها التعديل الـ22 لدستور البلاد.

وأكد ترامب، في مقابلة مع شبكة "إن بي سي نيوز"، الأحد، أنه "لا يمزح" بشأن هذه المسألة، مشيراً إلى أن "الكثير من الناس يريدون" منه ذلك، لكنه أضاف: "تفكيري هو أننا ما زلنا في بداية الطريق. أنا أركز على الحاضر".

وعندما استفسرت المحاورة كريستين ويلكر عن سيناريو محتمل يترشح فيه نائبه جيه دي فانس للرئاسة ثم يتنحى لصالحه، أقر ترامب بأن "تلك إحدى الطرق"، مضيفاً أن "هناك طرقا أخرى أيضا" دون تقديم تفاصيل إضافية.

وخدم ترامب كرئيس للولايات المتحدة للمرة الأولى بين عامي 2017 و2021، ثم انتُخب رئيسا للمرة الثانية بتاريخ 20 يناير 2025، بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية على المرشحة الديمقراطية، كامالا هاريس.

وينص التعديل الـ22 للدستور الأميركي الذي تمت المصادقة عليه عام 1951، على أنه "لا يجوز انتخاب أي شخص لمنصب الرئيس أكثر من مرتين". 

وجاء هذا التعديل في أعقاب رئاسة فرانكلين روزفلت، الذي انتُخب لأربع فترات متتالية، ليحوّل التقليد الذي أرساه جورج واشنطن بالتنحي بعد فترتين إلى قاعدة دستورية ملزمة.

ماذا يقول التعديل الـ22؟ 

يعتبر من التعديلات المهمة التي وضعت حدوداً واضحة للفترات الرئاسية بالدستور الأميركي.

ينص هذا التعديل على أنه "لا يجوز انتخاب أي شخص لمنصب الرئيس أكثر من مرتين"، كما يمنع أي شخص تولى منصب الرئيس أو عمل كرئيس لأكثر من عامين خلال فترة انتُخب فيها شخص آخر رئيساً، من الترشح أكثر من مرة واحدة.

وجاء اقتراح هذا التعديل عام 1947، بعد وفاة الرئيس فرانكلين روزفلت أثناء فترته الرئاسية الرابعة، وتمت المصادقة عليه من قبل الولايات في 1951. 

وشكل التعديل تحولاً دستورياً مهماً، إذ حوّل التقليد الذي أرساه جورج واشنطن بالتنحي بعد فترتين رئاسيتين، إلى قاعدة دستورية ملزمة.

ويضع التعديل الـ22 أيضاً ضوابط محددة لمن يتولى منصب الرئاسة في ظروف استثنائية. 

فإذا تولى نائب الرئيس المنصب الرئاسي بعد وفاة الرئيس أو استقالته، وخدم لأكثر من عامين من الفترة الأصلية، فلا يمكنه الترشح للرئاسة إلا مرة واحدة فقط.

ويوضح القسم الثاني من النص آلية التصديق على التعديل، حيث حدد مدة 7 سنوات للمصادقة عليه من قبل المجالس التشريعية لثلاثة أرباع الولايات، وإلا سيصبح غير نافذ.

ترامب يودع بايدن- أ ب
بعد مراسم تنصيب ترامب.. رسالة في الدرج و"بساط مفضل" ووداع أخير
مع انتهاء مراسم يوم التنصيب، رافق الرئيس الأميركي الجديد، دونالد ترامب، وزوجته، السيدة الأولى ميلانيا، سلفه، جو بايدن، وزوجته جيل إلى مروحية الرئاسة، بينما تنتهي الترتيبات في البيت الأبيض لاستقبال ساكنه الجديد.

سياق إقرار التعديل

شكلت مرحلة رئاسة روزفلت منعطفا تاريخيا في الحياة السياسة الأميركية، حيث كان أول رئيس يكسر التقليد الذي أرساه جورج واشنطن بالتنحي بعد فترتين رئاسيتين. 

وجاء انتخاب روزفلت لفترة ثالثة عام 1940 في ظروف استثنائية، إذ كانت الولايات المتحدة تتعافى ببطء من الكساد الكبير، وفي سياق أجواء تصاعد الحرب العالمية الثانية في أوروبا. 

وتعود فكرة تحديد الفترات الرئاسية إلى عهد الآباء المؤسسين أنفسهم، فقد أوضح جورج واشنطن أن "منع ظهور ملك أو قيصر لقيادة الأمة الناشئة، يبقى مبدأ أساسياً"، وفق صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية.

والتزمت الولايات المتحدة بولاية الفترتين الرئاسيتين لمدة 164 عاماً حتى انتخاب روزفلت لأربع فترات متتالية. 

وبوفاته بسبب نزيف دماغي عام 1945، بعد أشهر قليلة من بدء فترته الرابعة، تصاعد النقاش بشأن تحديد الفترات الرئاسية.

وأشارت صحيفة "لوس أنجلوس تايمز" في فبراير 1947، إلى أن حوالي "140 اقتراحاً لتقييد السلطة الرئاسية، طُرحت بين فترة واشنطن الثانية وفترة روزفلت الثالثة".

وتم تقديم التعديل الـ22 للكونغرس عام 1947، وبرز انقسام حزبي واضح بشأنه، إذ دعم الجمهوريون التعديل بحماس بعد خسارتهم 4 انتخابات متتالية، وانضم إليهم بعض الديمقراطيين المحافظين الجنوبيين، مقابل معارضة كبيرة من باقي الديمقراطيين، حسب "واشنطن بوست".

وتمت المصادقة على التعديل من قبل الولايات في 27 فبراير 1951. 

ومنذ ذلك التاريخ ظهرت محاولات متكررة لإلغائه، حيث قدم المشرعون ما لا يقل عن 24 مشروع قانون لهذا الغرض.  كما ظهرت حملات شعبية لدعم فترات ثالثة لبعض الرؤساء، مثل رونالد ريغان وبيل كلينتون. 

نقاش "حيلة نائب الرئيس"

في عام 1960، فكر الرئيس دوايت آيزنهاور في الترشح لفترة ثالثة، ورأى ثغرة محتملة في الدستور.

فقد أشار إلى أن التعديل الثاني عشر، الذي غيّر نظام الانتخابات قبل عام 1800، قد يسمح لرئيس سبق انتخابه مرتين بالترشح لمنصب نائب الرئيس، ثم تولي الرئاسة لفترة ثالثة إذا توفي الرئيس المنتخب أو تنحى.

في هذا السياق، قال ترامب في مقابلته مع "إن بي سي نيوز"، إن إحدى الاستراتيجيات المحتملة تكمن في عكس ترتيب قائمة انتخابات 2024، بحيث يترشح نائب الرئيس فانس لمنصب الرئيس ويكون ترامب نائباً له.

وبعد تولي السلطة، قد يستقيل فانس من منصبه كرئيس، مما يسمح لترامب بتولي منصب الرئاسة لفترة ثالثة.

ويشير بعض الخبراء القانونيين إلى أن إمكانية حصول رئيس سبق انتخابه مرتين على فترة ثالثة عبر الترقي من منصب نائب الرئيس تعتمد على تفسير لغوي دقيق: هل يمنع التعديل الـ22 شخصا من أن "يُنتخب" أكثر من مرتين أم من "الخدمة" لأكثر من فترتين؟.

يوضح البروفيسور بروس بيبودي من جامعة فيرلي ديكنسون: "عند قراءة النص مباشرة، يبدو أن التعديل الثاني والعشرين يقيد فقط الأشخاص الذين يحصلون على المنصب.. من خلال عملية الانتخاب".

ويضيف بيبودي في حديثه لموقع "أكسيوس" الأميركي، أن التعديل "له قوة تأثير ملموسة"، حيث يمنع الرؤساء الذين انتُخبوا مرتين، من "الطريقة التقليدية الأكثر شيوعاً" للوصول إلى المنصب، عبر الانتخاب المباشر.

ويرى فريق آخر من المحللين أن التعديل الـ12 يشكل عائقا، إذ ينص على أنه "لا يمكن لأي شخص غير مؤهل دستورياً" لمنصب الرئاسة، أن يشغل منصب نائب الرئيس، مما قد يحول دون ترشح رئيس سبق انتخابه مرتين لمنصب نائب الرئيس.

ويعلق بيبودي بأن هذه "حجة قانونية جوهرية تستحق النقاش".

ومع ذلك، تظل إشكالية ما إذا كان الرئيس المنتخب مرتين غير مؤهل "للانتخاب مجدداً" أم غير مؤهل "للخدمة"، مطروحة للنقاش.

وبالرغم من كل ذلك، إذا تمكن ترامب من إدراج اسمه على بطاقات الاقتراع في الولايات لفترة ثالثة، سواء كرئيس أو كنائب، فمن المؤكد أن ذلك سيؤدي إلى رفع دعاوى قضائية.

بنس رفض الاعتراض على تصديق فوز بايدن في الكونغرس
"التعديل 25" من الدستور الأميركي الذي يتيح عزل الرئيس
أثار اقتحام أنصار الرئيس الأميركي دونالد ترامب، أمس الأربعاء، لمبنى الكونغرس موجة من السخط والغضب حتى في أوساط السياسيين الداعمين لترامب، وطالب بعضهم نائب الرئيس، مايك بنس، بتفعيل التعديل الخامس والعشرون من الدستور لعزل ترامب.

هل يمكن إلغاء التعديل الـ22؟ 

يتطلب تعديل أو إلغاء التعديل الـ22 في الدستور الأميركي، عملية دستورية معقدة تستدعي إجماعا سياسيا واسعاً. 

ويحتاج إقرار أي تعديل دستوري تجاوز حاجز سياسي كبير، يتمثل في موافقة ثلثي أعضاء كلا غرفتي الكونغرس (مجلس النواب ومجلس الشيوخ) على اقتراح التعديل. 

بالإضافة إلى تصديق ثلاثة أرباع الولايات (38 من أصل 50 ولاية) على التعديل المقترح، وذلك عبر مجالسها التشريعية، مما يعني أن 12 ولاية فقط يمكنها منع أي تعديل دستوري.

ويستدعي التعديل أيضا، الالتزام بمدة زمنية محددة للتصديق، عادة 7 سنوات من تاريخ تقديم التعديل للولايات من قبل الكونغرس، كما ورد في نص القسم الثاني من التعديل الثاني والعشرين نفسه.

وأشار موقع "أكسيوس" إلى هناك طريقة بديلة نظرية لتعديل الدستور، وهي عقد مؤتمر دستوري يتم الدعوة إليه من قبل ثلثي الولايات، لكن لا يزال يتطلب تصديق 38 ولاية على أي تعديل مقترح. هذه الطريقة لم تُستخدم مطلقاً في تاريخ الولايات المتحدة.

ترامب

في 20 يناير 2025، بعد دقائق من أدائه اليمين الدستورية لبدء ولايته الثانية، وقّع الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، حزمة أوامر تنفيذية، وصف أحدها بـ"الكبير" ـ الذي سيتردد صداه، لاحقا، في جميع أنحاء العالم.

كان جالسا إلى منضدته الرئاسية في المكتب البيضاوي؛ على يمينه صندوق مليء بأقلام "شاربي،" أحدها كان ينتظر بفارغ الصبر بين أصابع يده اليمنى، وحين تسلم ترامب من أحد مساعديه ملفا، سأل المساعدَ:

"ما هذا؟".

"الانسحاب من منظمة الصحة العالمية".

"أوه، هذا كبير،" عقّب ترامب، وهو يفرد ملف الأمر التنفيذي على المنضدة. لكن قبل أن يهوي بقلمه على الملف، ذكّر بأنه سبق أن أوقف دعم الولايات المتحدة لمنظمة الصحة في ولايته الأولى، لأسباب منها "غياب العدالة" في التمويل.

وأشار ترامب، تحديدا، إلى الاختلال بين مساهمة الولايات المتحدة ومساهمة الصين في دعم الصحة العالمية.

وقال إن المنظمة عرضت عليه أن يدفع أقل، وإن سلفه ـ جو بايدن ـ الذي أعاد تمويل المنظمة خلال رئاسته بين 2020-2024، كان بإمكانه أن يتفاوض لكي يدفع أقل.

لم يكن إعلان ترامب الانسحاب من منظمة الصحة العالمية (WHO) في أول يوم من ولايته الثانية مصادفة، بل كان رسالة مفادها أن سياسته الخارجية ستكون، في هذه المرحلة أكثر حزما، أحادية إذا تطلب الأمر، وترتكز بقوة على مبدأ المصلحة الوطنية: "أميركا أولا".

رسّخ قرار الانسحاب من منظمة الصحة، أيضا، الثيمة التي هيمنت على أول مئة يوم من ولاية ترامب الثانية، وهي الضغط لإعادة التفاوض من أجل رسم خريطة جديدة في علاقات الولايات المتحدة بالعالم الخارجي، تجاريا وسياسيا.

هذه الخريطة الجديدة، ما هي ملامحها؟ 

ماذا يريد ترامب، عالميا؟ وما هي وسائله لتحقيق مبتغاه؟

هل هناك ملامح واضحة لعقيدة "ترامبية" محددة في السياسة الخارجية الأميركية؟ 

هذه محاولة إجابة!

ساحر أوز العجيب

في رواية ليمان فرانك بوم، "ساحر أوز العجيب"، يختطف إعصار هائل الصبية دورثي من منزلها في كنساس، ويلقي بها في أرض أوز السحرية، وخلال رحلة العودة تتجلى أمامها الحقيقة: "لا مكان مثل الوطن".

تلك العبارة أضحت من أشهر الاقتباسات التي تعبر عن روح الوطنية الأميركية، ورددها الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، حامل شعار "أميركا أولا"، في قمة التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ (APEC)، في فيتنام عام 2017.

"العالم فيه العديد من الأماكن، والعديد من الأحلام والعديد من الطرق، ولكن في كل العالم لا يوجد مكان مثل الوطن"، قال ترامب في خطاب عن القومية والعالم، ألقاه أمام زعماء 21 دولة.

في تلك القمة حض ترامب ـ وكان في بداية ولايته الرئاسية الأولى ـ زعماء العالم على تحقيق مصالح بلدانهم، التي "يتوجب أن تعلو فوق أي مصلحة".

وكان فوز ترامب المفاجئ في انتخابات 2016، قد جعل شعاره "أميركا أولا" عنوانا لمرحلة جديدة في العقيدة السياسية الأميركية.

العقيدة السياسية؟

في حوار أجراه موقع "الحرة" في يناير الماضي، يعرّف أستاذ العلوم السياسية في جامعة جورج واشنطن، تود بيلت، العقيدة في السياسة الخارجية بأنها استراتيجية كبرى تحدد نوع العلاقات الدولية التي يتبناها الرئيس، وهو ما يمكن أن ينطبق على عقيدة مونرو، أو عقيدة ترومان، أو عقيدة ريغان.

ترتكز عقيدة الرئيس جيمس مونرو، على سبيل المثال، والتي عبر عنها في ديسمبر 1823 أثناء خطاب حالة الاتحاد أمام الكونغرس، على معارضة الاستعمار الأوروبي في نصف الكرة الشمالي، وتعتبره عملا عدائيا.

أما ريغان، فحدد "عقيدته" في فبراير عام 1985، عندما قال: "يجب ألا نخون ثقة من يخاطرون بحياتهم - من أفغانستان حتى نيكاراغوا- لمواجهة العدوان المدعوم من الاتحاد السوفيتي، ويجب أن نصون الحقوق التي لطالما كانت لنا منذ الولادة".

داخليا، كانت أميركا في ذلك الوقت تعاني من أزمة اقتصادية خانقة بسبب التضخم.

عقيدة ترامب

بدأت ملامح عقيدة ترامب السياسية تتوضح ابتداء من أبريل 2016، عندما استخدم عبارة "أميركا أولا" مع انطلاق حملته الانتخابية.

وبعد فوزه في الانتخابات، تعهد خلال خطاب التنصيب في يناير 2017 بأن "رؤية جديدة" ستحكم أميركا.

ومنذ ذلك الحين، بات شعار "أميركا أولا" بمثابة اسم ثان للترامبية في السياسة الأميركية، رغم أنه لم يكن أول سياسي أميركي يستخدم المصطلح.

المرشح في سباق الرئاسة لعام 2000، بات بيوكانان، استخدم شعار "أميركا أولا" خلال حملته الانتخابية.

أما عبارة "لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى"، التي اقترنت بترامب وتعرف اختصارا بـ"ماغا"، فاستخدمها رونالد ريغان في حملته الانتخابية عام 1980.

اختار بيوكانان شعار "أميركا أولا"، الجذاب شعبيا، بعد أن فشل مرتين في التسعينيات في الفوز بترشيح الحزب الجمهوري لانتخابات الرئاسة.

وعنت العبارة بالنسبة لبيوكانان الانسحاب من منظمة التجارة العالمية، وصندوق النقد الدولي، واتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية (نافتا)، ومعارضة التدخل العسكري في الخارج، من بين أشياء أخرى.

لكن آخرين يشيرون إلى تاريخ سابق لشعار "أميركا أولا".

ترتبط العبارة بـ"لجنة أميركا أولا" التي دعت بين عامي 1940ـ1941 إلى عدم انخراط الولايات المتحدة في النزاعات الخارجية خلال الحرب العالمية الثانية. اجتذبت اللجنة، آنذاك، عددا كبيرا من الناشطين، وزعمت أن عدد أعضائها تجاوز 800 ألف عضو، وكان من بينهم قطب السيارات الأميركي هنري فورد.

لكن ترامب أعاد تعريف "أميركا أولا" ببساطة كبيرة:

"أميركا ستضع مواطنيها وقيمها واهتماماتها في المقام الأول، مثلما ينبغي أن تفعله جميع الدول"، تقول وثيقة نشرها البيت الأبيض في سبتمبر 2017.

وتشير الوثيقة، التي تحدد سياسة خارجية قائمة على "الواقعية المبدئية"، إلى "استراتيجية العمل من أجل المصلحة الوطنية الأميركية وبما يتفق مع قيمنا".

التدخل حسب الموقف

تصف دراسة نشرت على موقع كلية غيتيسبيرغ الأميركية أيدولوجية "أميركا أولا" في سياسة ترامب الخارجية بأنها "الانعزالية والتدخل حسب الموقف،" على النقيض من سياسة سلفه، آنذاك، باراك أوباما.

أوباما وضع أميركا على قدم المساواة مع الدول الأخرى، وتعاون مع المنظمات الدولية، مثل الأمم المتحدة ومنظمات التجارة واتفاقية المناخ.

وتخلت عقيدة ترامب "بشكل متعمد"، وفق الدراسة، عن السياسة الخارجية لأوباما والرؤساء السابقين، وحتى الجمهوريين منهم.

لا تنكر الدراسة "عقيدة ترامب"، لكنها ترى أنها "تستند أكثر إلى التفضيلات الشخصية والعاطفة بدلا من اتباع نموذج سياسي صارم".

ما ليس ترامب

يعرف الكاتب المحافظ، مايكل أنتون، فكر ترامب السياسي بما ليس هو:

"ترامب ليس من المحافظين الجدد أو المحافظين القدماء، ولا من الواقعيين التقليديين ولا من الليبراليين الدوليين".

"ينطبق الشيء ذاته على حقيقة أن ترامب لا يميل فطريا إلى الانعزالية أو التدخل،" يتابع أنتون، "وهو ليس حمامة أو صقر. ولا تندرج سياسته الخارجية بسهولة في أي من هذه الفئات، على الرغم من أنها تستمد من كل منها".

لكنّ أنتون يلاحظ، مثل كثيرين، أن شعار "أميركا أولا" لا يجب أن يكون مستغربا لأن البلدان يجب أن تضع مصالحها الخاصة في المقام الأول.

طالما جادل ترامب ومريدوه من "اليمين الجديد"، بأن العولمة كلفت الولايات المتحدة غاليا، وكانت مفيدة للقوى الصاعدة التي تسعى إلى منافسة الولايات المتحدة على النفوذ والزعامة.

وطالما هاجم ترامب سياسات قال إنها تستجيب لاهتمامات النخبة التي تروج لفكرة أن من مصلحة أميركا البقاء في حلف شمال الأطلسي واستمرار العولمة.

لذلك سعى خلال رئاسته الأولى إلى ما وصفه بـ"تصحيح المسار". 

أعلن نهاية ما وصفها بـ"الامتيازات المجانية،" وأصر على أن يدفع أعضاء حلف شمال الأطلسي "نصيبهم العادل"، سواء في ما يتصل بالضمانات الأمنية أو الصفقات التجارية.

وفي الأشهر الأولى من ولايته الثانية، أعادت ترامب التشديد على ضرورة أن تزيد الدول الأعضاء إنفاقها الدفاعي. وكشف، من خلال موقفه الداعي لإنهاء الحرب في أوكرانيا، عن إدارة أميركية أقل ميلا إلى الالتزام باتفاقيات الدفاع الجماعي.

ويلخص الكاتب جورج فريدمان "مبدأ ترامب" في أنه سياسة "نزع فتيل المواقف التي قد تتطلب اتخاذ إجراءات عسكرية، والانخراط بدلا من ذلك في سياسة اقتصادية هجومية".

وتأتي أفكار ترامب، وفق الكاتب، على خلفية وضع دولي يشهد انتشار القوات الأميركية حول العالم، وهو وضع يخلق توترا لأن الولايات المتحدة قد تجد نفسها متورطة في حرب مكلفة وعلى أكثر من جبهة في الوقت ذاته، لذلك فإن الأفضل هو اتباع مبدأ الدبلوماسية.

لذلك اختار ترامب، في الولاية الأولى، "التفاهم " مع كوريا الشمالية، واتبع مسارا دبلوماسيا مع روسيا، خاصة وأنها كانت لديها قوات في سوريا قد تتقاطع في أماكن انتشار القوات الأميركية.

وفي نفس السياق، يبدو ترامب وكأنه يسير عكس التيار في ما يتعلق بالملف النووي الإيراني. إذ رغم الدعوات ـ من الداخل الأميركي ومن خارجه ـ إلى استخدام القوة لتفكيك البرنامج النووي الإيراني، تنخرط الإدارة الأميركية منذ أسابيع في محادثات مع الإيرانيين للوصول إلى حل سلمي يفكك الطموحات النووية لطهران.

وعرف ترامب بانتقاداته لحرب العراق وعمل خلال ولايته الرئاسية الأولى إلى إنهاء الوجود العسكري الأميركي في الشرق الأوسط وإعادة الجنود الأميركيين إلى الوطن.

يعتقد ترامب، وفق رؤية فريدمان، أن "الذهاب إلى الحرب خيار خاطئ لأن نوايا الخصوم غير متوقعة، والحل يكمن في الحفاظ على الوجود وتجنب القتال والانخراط في مفاوضات مطولة قد تؤدي إلى شيء أو لا شيء ولكنها قد تقلل من التهديد العسكري".

السياسة قطعة قطعة

العقيدة السياسية تعني أن "كل الإجراءات التي يتخذها الرئيس تستند إلى مجموعة من الافتراضات حول كيفية عمل العالم، والتوقعات، والعلاقات، وما إلى ذلك،" يقول أستاذ العلوم السياسية في جامعة جورج واشنطن، تود بيلت.

"أما ترامب،" يضيف بيلت، "فهو على العكس تماما، يأخذ كل شيء قطعة قطعة. ويتعامل مع الأمور على أنها صفقات (تجارية)".

ترامب "لا يفضل الاتفاقيات متعددة الأطراف. هو يحب الاتفاقيات الثنائية وأن يكون هو الشخص الذي يبرم الصفقة"، يتابع بيلت.

"أميركا أولا"، بالنسبة لبيلت، ليست عقيدة "لأنها لا تتعلق بكيفية التفكير في شؤون العالم والاستجابة للتهديدات الدولية.

وتقضي بـ"ألا تعمل الولايات المتحدة مع أي جهات فاعلة دولية أخرى ما لم يكن ذلك ضروريا، ومن أجل المصلحة الدولية والوطنية".

وفي نفس الاتجاه يذهب ريتشارد وايتز، محلل السياسيات الأمنية في معهد هدسون: "ترامب لا يملك عقيدة" ثابتة. يقول وايتز في حاديث سابق مع موقع "الحرة" إن ترامب "لديه بعض القيم التي يريد تطبيقها، مثل الحد من الحروب، وزيادة دخل الأميركيين".

في بعض القضايا "يتسم بالحزم الشديد، مثل تغير المناخ، وقضايا أخرى يتسم فيها بالمرونة مثل الناتو، فهو لم يقرر بعد ما يمكن فعله بالنسبة للناتو. هو حازم في بعض القضايا ومنفتح في أخرى ويرحب بالتعليقات التي يتلقاها في هذا الشأن".

"أميركا أولا" 2.0

في ولايته الأولى، انسحب ترامب عام 2018 من الاتفاق النووي الذي أبرمته الدول الغربية مع إيران عام 2015، وأعاد فرض عقوبات اقتصادية صارمة، ركزت على خنق الاقتصاد الإيراني في ما عُرف بسياسة "الضغط الأقصى". وكان الهدف إجبار إيران على القبول باتفاق أكثر صرامة بشأن على برنامجها النووي.

وباستثناء استهداف الجنرال الإيراني قاسم سليمان في 2020، لم يلجأ ترامب إلى العمل العسكري ضد إيران، باستثناء حوادث متفرقة.

في الولاية الثانية، صعد ترامب النبرة تجاه إيران. وبدلا من الاعتماد بشكل أساسي على العقوبات، لوح علنا باللجوء إلى ضربات عسكرية إذا لم توافق إيران على اتفاق نووي وفق رؤية أميركية جديدة.

وهدد ترامب طهران بـ"عواقب وخيمة" تتجاوز العقوبات الاقتصادية في حال استمرارها في تطوير برنامج النووي.

وانخرطت إيران أخيرا في مفاوضات مع الولايات المتحدة بوساطة عمانية بشأن مستقبل برنامجها النووي.

أوكرانيا: الدعم شرط للسلام

وافق ترامب، في الولاية الأولى، على تقديم مساعدات عسكرية كبيرة لأوكرانيا، لكنه تعرض لاتهامات بتسييس تلك المساعدات خلال تحقيق العزل الأول في 2019.

في مستهل ولايته الثانية، علق ترامب المساعدات العسكرية لأوكرانيا، وأوضح أن استمرار الدعم الأميركي مشروط بدخول أوكرانيا في مفاوضات لإنهاء الحرب مع روسيا.

مثّل تعامل ترامب مع ملف الحرب الروسية الأوكرانية، تحولا في السياسة الخارجية الأميركية من الدعم غير المشروط تقريبا إلى استخدام الدعم كأداة للضغط من أجل التفاوض لإحلال السلام.

روسيا: من الردع إلى السعي للتقارب

بشكل عام، حافظت إدارة ترامب الأولى على العقوبات المفروضة على روسيا، بل وزادتها بسبب تدخلها في الانتخابات الأميركية وضمها للقرم وقضايا أخرى.

الآن يركز ترامب على الدبلوماسية المباشرة مع روسيا، بهدف التفاوض على وقف لإطلاق النار في أوكرانيا، حتى لو تطلب ذلك تقديم تنازلات لا تعتقد كييف أنها عادلة.

الصين: من حرب تجارية إلى منافسة شاملة

أطلق ترامب حربا تجارية واسعة ضد الصين، مستخدما الرسوم الجمركية كأداة رئيسية لمواجهة العجز التجاري وسرقة حقوق الملكية الفكرية. وفي الولاية الثانية، تصاعدت المواجهة إلى مستويات غير مسبوقة.

لم يكتفِ ترامب بزيادة الرسوم الجمركية بل دفع نحو تقييد الاستثمارات الصينية في القطاعات التقنية الأميركية، وتقليص الاعتماد على سلاسل التوريد الصينية ـ خصوصا في مجالات الأدوية وأشباه الموصلات ـ ودعم مبادرات الردع العسكري في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.

الترامبية واليمين الجديد

يعرف قاموس جامعة كامبريدج الترامبية بأنها سياسات الرئيس الأميركي، دونالد ترامب وأفكاره، فيما تذهب دراسات عديدة إلى أن الترامبية مثلت بداية حزب جمهوري جديد، يشكل "قطيعة حادة" مع أفكار الحزب والمبادئ التي اتبعها على مدى عقود خلت.

هل تبقى الترامبية بعد دونالد ترامب؟ يسأل كاتب نيويورك تايمز مايكل ليند:

"اختيار ترامب للسناتور جي.دي. فانس لمنصب نائب الرئيس يعني أن الجواب هو نعم،" يجيب الكاتب.

تمخضت الترامبية عن ظهور تيار سياسي جديد في الولايات المتحدة، بات يعرف بـ"اليمين الجديد".

وشاع استخدام المصطلح حديثا بالإشارة إلى مجموعة من المثقفين والسياسيين الجمهوريين الذين يعملون على تحويل الترامبية إلى أيديولوجية متماسكة.

أيديولوجية ستتاح لها أربع سنوات أخرى لتترسخ وتكتسب الزخم.