"الحرة" تناضل من أجل البقاء
"الحرة" تناضل من أجل البقاء

في مبنى متقشف في سبرينغفيلد، في ولاية فرجينيا، فرغت مكاتب كانت حتى وقت قريب تضج بالحياة، وأظلمت استوديوهات قناة "الحرة" - التي نقلت صوت الحقيقة لأكثر من عقدين إلى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا - إلا من بصيص أمل.

وبعد 22 عاما من الصحافة الناطقة بالعربية، الملتزمة بالقيم الأميركية، والموجهة إلى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، أجبرت شبكة الشرق الأوسط للإرسال (MBN) على تقليص حاد لبثها التلفزيوني والرقمي، ليس بسبب مواجهة اعتادت على خوضها مع أجهزة التضليل المنظم، والقوى الدعائية المعادية للولايات المتحدة، بل نتيجة خنق بيروقراطي داخلي.

وأعلنت MBN اليوم السبت عن تسريحات جماعية، تم فيها تقليص عدد الموظفين بشكل حاد وتقليص العمليات بشكل كبير. ووفقا لإدارتها، لم يكن هذا القرار خيارا بل إجبارا.

وقال الدكتور جيفري غدمين، الرئيس والمدير التنفيذي للشبكة، في بيان رسمي صدر السبت: 

"لم يُترك لنا أي خيار... وافق الكونغرس على تمويلنا في 14 مارس. لكن في اليوم التالي، تم تجميد هذا التمويل بشكل مفاجئ وغير قانوني من قبل ما يسمى بـ(وزارة الكفاءة الحكومية) وكاري ليك، المستشارة الخاصة للوكالة التي تشرف علينا".

يؤكد غدمين أن الوكالة الأميركية للإعلام الدولي (USAGM) هي المسؤولة المباشرة عن هذه الأزمة. ورغم أن التمويل تم تخصيصه رسميا من قبل الكونغرس، إلا أن الوكالة ترفض صرفه، دون تفسير أو تواصل مباشر. "كاري ليك ترفض مقابلتنا أو حتى التحدث معنا"، يقول غدمين. "تُركنا لنستنتج أنها تنوي خنقنا ماليا".

ما تبقى من الشبكة الآن هي مجموعة مصغّرة، تقاتل من أجل البقاء.

وقال السفير السابق رايان كروكر، رئيس مجلس إدارة الشبكة بالوكالة: "MBN كنز من المواهب والخبرة وذخر استراتيجي للأمن القومي الأميركي... ما يجري الآن ببساطة غير منطقي".

ويصل بث MBN، التي تأسست عام 2003، إلى أكثر من 30 مليون مشاهد أسبوعيا في 22 دولة عربية.

ساحة معركة إعلامية

"الشرق الأوسط ساحة معركة إعلامية ضخمة"، يقول المحلل الاستراتيجي إيلان بيرمان، وهو عضو في مجلس إدارة MBN.

فمن طهران إلى الدوحة، ومن موسكو إلى بيروت، تتسابق قوى إقليمية ودولية في ضخ السرديات الدعائية عبر التلفاز ووسائل التواصل الاجتماعي، بهدف تقويض صورة الولايات المتحدة، وتعزيز التشكيك، وتأجيج المشاعر المعادية للغرب.

وفي هذه البيئة المتوترة، كانت MBN تمثل نقيضا نادرا: وسيلة إعلامية موثوقة، تُدار بمعايير مهنية، وتغطي قضايا حقوق الإنسان، والحوكمة، والسياسة الأميركية، بلغة وأصوات مألوفة لدى الجمهور العربي.

"هذا انتحار استراتيجي"، يقول غدمين. "في الوقت الذي تكسب فيه حماس وحزب الله والحوثيون والنظام الإيراني مساحات على مستوى السرد الإعلامي، نحن نسحب صحفيينا عن الهواء. هذا ليس فقط قصورا في الرؤية... إنه استسلام".

لكن لماذا ترفض USAGM الإفراج عن التمويل؟ لا أحد يجيب. ترفض كاري ليك، السياسية السابقة من أريزونا، التعليق. و"وزارة الكفاءة الحكومية"، التي تم إنشاؤها مؤخرا وسط ضجة سياسية، لم تصدر أي توضيحات. ويقول غدمين إن الشبكة تلجأ الآن إلى القضاء والكونغرس لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.

وكانت MBN قد مرت في عملية هيكلة وتطوير، العام الماضي، وفرت 20 مليون دولار أميركي على دافع الضرائب دون تقويض جهودها في إعادة موضعة ذاتها كصوت أميركي فعال في الفضاء الرقمي الناطق بالعربية.

خسائر غير قابلة للقياس

داخل الشبكة، تأتي التسريحات كضربة شخصية ومهنية. كثير من الصحفيين والمحررين العاملين فرّوا من القمع في بلدانهم الأصلية، ليجدوا في MBN مساحة للتعبير والعمل بحرية. غطوا قصصا لا يمكن تغطيتها في بلدانهم — من حقوق النساء في السودان إلى الاحتجاجات في إيران والفساد في العراق.

الآن، ومع غياب منصتهم، قد لا تُروى تلك القصص أبدا.

يقول غدمين: "الإعلام في الشرق الأوسط يتغذى على مشاعر العداء لأميركا... من غير المنطقي قتل MBN كبديل عقلاني، وترك الساحة خالية أمام المتطرفين وأعداء أميركا".

وبينما تصقل شبكات التضليل المنظم في العالم العربي أدواتها الرقمية والبصرية، تتراجع أميركا بهدوء عن ساحة المعركة الإعلامية التي ساعدت في بنائها.

وكتب بيرمان في تحليل لمجلة جي أس تريبيون: "الحرب الإعلامية في الشرق الأوسط ليست افتراضية... إنها معركة يومية وحقيقية، تزداد فعالية. وأميركا تتنازل عنها... شبرا بعد شبر".

وتصر إدارة MBN على مواصلة كفاحها من أجل البقاء بفريق صغير جدا يبقي شعلة الأمل والحقيقة حية في الفضاء الرقمي العربي.

اليمين الجديد في الولايات المتحدة

الانتقال "من الشرفة إلى الفناء الخلفي،" هو ما تنبأ به الكاتب ريتشارد توماس في مقال عام 1975، ولكن ليس في التصميم المعماري فحسب، بل في التحوّل العميق داخل المجتمع الأميركي.

في مقاله تحدث توماس عن  تغير خريطة بناء المنازل في أميركا، وتحديدا نقل الشرفات في التصاميم الجديدة من الواجهة إلى الفناء في الحيز الخلفي.

يعكس هذا التغير تحولا من الاهتمام بالعلاقة مع الآخرين إلى التركيز على الخصوصية، يقول باتريك دينين، أستاذ النظرية السياسية في جامعة نوتردام، صاحب كتابي "تغيير النظام،" و"لماذا فشلت الليبرالية"، في تعليق على مقال توماس.

بتعبير دينين، كانت الشرفة الأمامية - وهي تسمح بالتواصل بين أصحاب المنزل والعابرين في الشارع - رمزا للمجتمع الصغير النابض المهتم بذاته، بينما "عكس الفناء أنماط السكن الجديدة والرغبة المتزايدة في الخصوصية والانسحاب من التفاعل مع الجيران".

"ومع تقلص الحاجة إلى التفاعل مع الجيران يتقلص الشعور بالانتماء للمجتمع، وتتضاءل فرصة حكم الناس لأنفسهم، ويتلاشى المجتمع المدني والمكان الذي "تعلمنا فيه أنه لا يوجد فصل تام بين العالمين العام والخاص، بالمعنى الدقيق للكلمة".

دينين أحد المؤثرين في تفكير نائب الرئيس الأميركي، جي دي فانس، الذي أشاد بكتاب "تغيير النظام" في ندوة نقاش عام 2023، بحضور المؤلف.

يتحدث دينين، في كتابه، عن "ثورة سلمية" لاستبدال الليبرالية وتعزيز القيم المحافظة المؤيدة للأسرة والعمال، وإجراءات مثل التعريفات الجمركية والحوافز التصنيعية.

وفي مقال بعنوان "Why They Hate Us،" يقدم دينين تعريفا لما يسميه "النظام ما بعد الليبرالي".

"يهدف (النظام ما بعد الليبرالي) إلى تذكير الناس ليس فقط بوجود تقاليد لا-ليبرالية وناخبين لا-ليبراليين، بل أيضا بأن هذا النظام متفوق على التجربة الليبرالية التي تجرد البشر من إنسانيتهم ​​وتقسمهم وتقتلعهم" من الجذور.

ينهل النظام ما بعد الليبرالي، وفقا لدينين، من الحكمة القديمة وتعاليم العصور الكلاسيكية والمسيحية، "وهي الحكمة التي رفضها مهندسو الليبرالية صراحة أو أضعفوها بالاستيلاء عليها وتوظيفها".

في ندوة 2023 مع دينين، عرّف فانس نفسه بأنه عضو في "اليمين ما بعد الليبرالي".

ووصف دوره في الكونغرس، آنذاك، باعتباره "مناهضا للنظام بشكل صريح".

وأشاد دينين، من ناحيته، باختيار ترامب _ في يوليو الماضي - جي دي فانس مرشحا لمنصب نائب الرئيس.

"رجل يتمتع بإيمان شخصي عميق ونزاهة، رجل عائلة مخلص، وصديق كريم، ووطني حقيقي"، قال دينين عن فانس.

وخلال السنوات القليلة الماضية، برز فانس في طليعة تيار  "اليمين الجديد".

أصحاب اليمين الجديد

يمثل "اليمين الجديد" الأميركي، المعروف أيضا بـ"تيار ما بعد الليبرالية" افتراقا أيديولوجيا هاما عن "الفكر المحافظ" التقليدي، ويرتبط بشكل وثيق، وفق رأي كثيرين، مع "الترامبية"، نسبة إلى الرئيس دونالد ترامب.

هذه الحركة تنتقد الليبرالية الكلاسيكية والليبرالية لتركيزهما على استقلالية الفرد، والأسواق الحرة، وحياد الحكومة في ما يتعلق بالقيم الأخلاقية والاجتماعية العامة.

ويقول سهراب أحمدي، وهو منظر محافظ، في مقال يعود لأكتوبر  2019، إن الجيلين الماضيين من المحافظين اهتموا بالحرية الفردية في مواجهة الشمولية الشيوعية والضوابط "The regulations" الحكومية.

يحتاج الجيل الحالي من المحافظين الأميركيين، وفقا لسهراب، إلى سياسة تركز على معالجة أزمات تتعلق بـ"التفككك والتجزؤ الاجتماعي والتشش الأخلاقي".

يؤمن ما بعد الليبراليين بأن المُثل الليبرالية أدت إلى التفكك المجتمعي، والتفاوت الاقتصادي، والتدهور الثقافي.

سياسيا، يتمثل جوهر الفكر ما بعد الليبرالي في الدعوة إلى جهاز دولة قوي يعمل على تعزيز المصلحة العامة، والتماسك الاجتماعي، والهوية الوطنية.

ويؤكد مفكرون مثل باتريك دينين وسهراب احمري على ضرورة تدخل الدولة لتعزيز البنى الأسرية التقليدية، وقيم المجتمع، والاستقلال الوطني.

من الناحية الاقتصادية، يبتعد "اليمين الجديد" عن عقيدة السوق الحرة، لصالح التدابير الحمائية، والتشكيك في جدوى العولمة.

ويتبنى أيضا فكرة إنعاش التصنيع المحلي ومعالجة الإهمال والظلم الذي طال الطبقة العاملة الأميركية، بما يتماشى مع تركيز ترامب على التعريفات الجمركية والقومية الاقتصادية.

ويتميز ثقافيا بالدفاع عن تراث الحضارة الغربية، ومعارضة الحركات الاجتماعية التقدمية، والتركيز على الهوية الوطنية. ويشمل ذلك سياسات هجرة صارمة، وانتقاد للتعددية الثقافية، مما يعكس رغبة في الحفاظ على ثقافة وطنية متماسكة.

ويزعم النقاد بأن مثالية "ما بعد الليبرالية" وغموضها النظري يمكن أن يؤديا إلى نزعات تطمس الحدود الفاصلة بين سلطة الدولة والحريات الفردية.

"من الصعب إطلاق وصف محدد لهؤلاء،" يقول لموقع "الحرة" كلاي رايزين، مراسل صحيفة نيويورك تايمز.

تقليديا، يحذر الشخص المحافظ من التغييرات الكبيرة، يتحرك ببطء، ويشكك في الإصلاح، يضيف رايزين، لكن المفارقة أن "معظم الأشخاص المحيطين بترامب وفي إدارة ترامب الآن هم عكس كل ما سبق".

يميل هؤلاء إلى التحرك بسرعة لإحداث التغيير، يتابع رايزين.

وفي مقال يعود إلى أغسطس الماضي، يشير مراسل نيويورك تايمز إلى أن مصطلح "اليمين الجديد" شاع حديثا بالإشارة إلى مجموعة من المثقفين والسياسيين الجمهوريين الذين يعملون على تحويل الترامبية إلى أيديولوجية متماسكة.

ويعزو بيتر روف، وهو إعلامي وكاتب عمود صحفي الحراك النشط لقادة اليمين الجديد إلى أن ترامب نفسه سياسي وقائد انتقالي أو حركي إلى حد كبير".

ويضيف في حوار مع موقع "الحرة" أن ترامب يبحث عن الصفقة الأفضل، وبهذا المعنى، هو يجد نفسه وضع مريح في ما يتعلق بطرح الأفكار على الطاولة والتفاوض. هو ليس جامدا".

ويذهب كثيرون إلى أن الترامبية مثلت بداية حزب جمهوري جديد، يشكل "قطيعة حادة" مع أفكار الحزب ومبادئه على مدى عقود خلت.

من ناحية أخرى، يربط مؤرخون ومحللون سياسيون بين أفكار اليمين الجديد وأجندة محافظة تعود إلى ثلاثينيات القرن العشرين.

كانت تعارض مجموعة برامج وإصلاحات داخلية وضعها الرئيس فرانكلين روزفلت بين عام 1933- 1938 أثناء فترة الكساد الكبير 1929 - 1939.

وضع روزفلت نموذجا لكيفية عمل الحكومة الفيدرالية، لكن قادة في الحزب الجمهوري رفضوا ذلك النموذج، ورفضوا كذلك ما تلاه من تغييرات وإصلاحات في الخمسينيات والستينيات أثناء عهدي أيزنهاور وجونسون.

اليمين الجديد والترامبية

"يجب أن نتعامل بحذر مع المصطلح،" يقول أستاذ العلوم السياسية في جامعة ولاية نيويورك في كورتلاند، روبرت سبيتزر، الذي تواصل مع موقع الحرة عبر البريد الإلكتروني.

يرى سبيتزر أن أصحاب "اليمين الجديد" يمثلون "الواجهة التجارية لترامب،" حسب تعبيره.

وفي حين أن أنصاره يعتنقون عموما قيما محافظة، يضيف سبيتزر، فإن ما يميزهم هو الولاء الشخصي لترامب، أي أنهم "محافظو ترامب" الذين يتجاوز ولاؤهم الاعتبارات الأخرى.

وفي تصريح لموقع "الحرة"، قال أستاذ العلوم السياسية، مدير الإدارة السياسية في جامعة "جورج واشنطن" الأميركية، تود بيلت، أن ما يسمى "اليمين الجديد" هو جناح لحركة "ماغا" لأنه مرتبط عضويا بترامب كفرد ولا يعبر عن أيديولوجيا متماسكة، وفق رأيه.

الرد على "غياب التماسك الأيديولوجي"

يقول مفكرو اليمين الجديد بأن فكرتهم الأساسية تقوم على الرفض المتعمد للافتراضات التأسيسية الليبرالية. ويذهب مفكرون مثل باتريك دينين، وسهراب أحمري، وغلادن بابين إلى أن الحركة متجذرة في ما يسمونه بـ "The conservatism of the common good" أو "محافظية الصالح العام،" أو في "نظام ما بعد ليبرالي" يستند إلى التقاليد الكلاسيكية والمسيحية.

ويجادل ما بعد الليبراليين بأن تماسكهم الفكري يقوم على التزاماتهم المشتركة بـ:

السلطة الأخلاقية للتقاليد والمجتمع، وإعادة تأكيد الاستقلالية والهوية الوطنية، سياسة اقتصادية تخدم الأسر والعمال على حساب الأسواق، دور أقوى للدولة في تعزيز الفضيلة والاستقرار.

يجادل باتريك دينين، على سبيل المثال، بأن الليبرالية نفسها كانت تجربة جذرية حررت السياسة من التزامات أخلاقية أعمق.

ويدعو في كتابه "تغيير النظام" إلى تشكي لنخبة "مضادة" تحكم بما يخدم الصالح العام لا الحياد، ويشير إلى أن تماسك ما بعد الليبرالية يكمن في الوضوح الأخلاقي والفلسفي، لا في التعقيد السياسي.

وينتقد سهراب أحمري، في كتابه "شركة الاستبداد"، النزعات الليبرالية والنيو ليبرالية في كلا الحزبين، ويدعو إلى استعادة التضامن، لا سيما من خلال التدخل الاقتصادي والحوكمة الأخلاقية.

يعترف ما بعد الليبراليين بأن حركتهم لا تزال في طور التبلور، لكنهم يجادلون بأن أزمة الليبرالية قد أوجدت مساحة لتماسك أيديولوجي جديد - لا يقوم على الفردية المجردة، بل على الرسوخ والفضيلة، ورؤية جديدة للعدالة والسلطة.

ويؤكد باتريك دينين، في كتابه "تغيير النظام: نحو مستقبل ما بعد ليبرالي"، أن الليبرالية أدت إلى تفكك المجتمع وتآكل الروابط المجتمعية. ويدعو إلى "إطاحة سلمية، ولكن قوية بطبقة حاكمة ليبرالية فاسدة ومفسدة" لإقامة نظام ما بعد ليبرالي يقدم المصلحة العامة على استقلالية الفرد.

ويعتقد أن دينين وسرهاب وآخرين هم جزء مما يطلقون عليه "محافظية وطنية".

ويضيف روف قوله: " أنا أنظر إليها باعتبارها تيارا يمينيا اجتماعيا. هم يحاولون وضع إطار أيديولوجي تحت الترامبية لجعلها شيئا مفهوما بالنسبة للناخبين، وقابل للتحديد بالنسبة المحللين السياسيين والصحفيين. الأمر يشبه إلى حد ما بناء منزل ثم وضع الهيكل الداعم لاحقا".

الانطلاقة

في كلمة أمام المؤتمر الجمهوري في يوليو 2024، تطرق جي دي فانس إلى اتفاقات التجارة الحرة وحرب العراق.

قال: "عندما كنت في الصف الرابع، أيد سياسي محترف يدعى جو بايدن اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية، وهي اتفاقية تجارية سيئة أرسلت عددا لا يحصى من الوظائف الجيدة إلى المكسيك". وأضاف: "عندما كنت طالبا في المدرسة الثانوية، أيد نفس جو بايدن الغزو الكارثي للعراق".

لطالما تحدث جي دي فانس عن تجربته السابقة في العراق في سياق انتقاده للتيار الذي مثل أميركا أثناء ولاية الرئيس الأميركي الأسبق، جورج دابليو بوش.

كان بوش يمثل تيارا للمحافظين الجدد بدأ في عهد ريغان مرروا ببوش الأب وبوش الابن. ويؤمن هذا التيار بأن الولايات المتحدة ينبغي أن تستخدم قوتها العسكرية ونفوذها من أجل نشر الديمقراطية في العالم.

ثم جاء ترامب.

وعندما بدأ في 2015 مخاطبة الجمهور من أجل الترشح للرئاسة، تحدث عن حرب العراق للتعبير عن معارضة فكرة التدخل في شؤون العالم.

وبعد خوض تجربته الرئاسية الأولى، عبر عن فخره بحقيقة أن الولايات المتحدة لم تخض حروبا خلال ولايته، وعاد إلى البيت الأبيض بعدما تعهد بإنهاء الحروب - في أوكرانيا والشرق الأوسط - ونشر السلام في العالم.

وبالعودة إلى الوراء، في عام 2010، كتب فانس مقالا تحدث عن تعقيدات الحرب في العراق رغم أنه كان مؤيدا لها. قال: "دعمت غزو العراق على أساس الموضوعية، ولكن من الحماقة أن نرسل قوات للقيام بأصعب مهمة ثم نصاب بالصدمة من المواقف التي يتبناها البعض أثناء القيام بذلك".

وفي كتابه "مرثية ريفية"، الذي نشره قبل خوض سباق الرئاسة بسنوات، تطرق فانس إلى الثمن الذي يدفعه الأميركيون "بعدما تم إرسالهم بشكل غير متناسب للقتال والموت في الخارج".

وخلال الحملة الانتخابية، كان فانس حريصا على إظهار هذه الخلفية عند حديثه عن أجندة سياسية تحمل شعار "أميركا أولا"، وأظهر بوضوح معارضته لاستمرار المساعدات الأميركية لأوكرانيا.

وردد فانس أيضا تعليقات ترامب بشأن ضرورة زيادة مساهمات الدول الأوربية في "الأمن الجماعي" واقترح أن تحول الولايات المتحدة تركيزها الدولي من أوروبا إلى شرق آسيا، ودعم خطة ترامب لفرض تعريفات جمركية كبيرة على الواردات الصينية.

يلفت مراسل صحيفة نيويورك تايمز، كلاي رايزين إلى أن فانس يمثل بقوة التيار الجديد، مشيرا إلى تطوره من جمهوري تقليدي إلى مؤمن قوي بحركة "ماغا" وهو ما ظهر من خلال تصريحاته والأشخاص الذين يرتبط بهم فكريا وسياسيا.

قد يكون فانس مؤمنا بالتيار الجديد أكثر من ترامب نفسه، يقول رايزين.

قادة جدد

إلى جانب جي دي فانس، تضم طليعة "اليمين الجديد" أيضا رجل الأعمال، فيفيك راماسوامي، المرشح السابق للرئاسة، الذي دعم ترامب خلال حمل الانتخابية في 2024 .

خلال المؤتمر الوطني للحزب، استفاض راماسوامي في شرح نظرية "اليمين الجديد،" الذي قال إنه "ناشئ للغاية ومتطور للغاية".

وقال راماسوامي إنه يعارض "الإجماع النيو ليبرالي" الذي روج للهجرة، والدعم العسكري للحلفاء الأجانب والديمقراطيات، والاقتصاد المؤيد للشركات، والتجارة الحرة والحروب في العالم.

وخلال المؤتمر، اعتبر راماسوامي أن فانس يمثل "الحمائية الوطنية الملتزمة بالتراجع عن التجارة الدولية لصالح برنامج إعادة التصنيع المحلي، وتسليح الحكومة الفيدرالية".

وكان فانس قد دعا في عام 2021، إلى ما سماه "برنامج اجتثاث البعث" في البيروقراطية الأميركية.

وقال: "أميل إلى الاعتقاد بأننا يجب أن نستولي على مؤسسات اليسار، ونحولها ضد اليسار. نحن بحاجة إلى برنامج مثل برنامج اجتثاث البعث"، في إشارة إلى سياسة إزالة نفوذ اتباع الرئيس العراقي الراحل، صدام حسين، بعد 2003.

توقع فانس في ذلك الوقت ترشح ترامب في 2024، وقدم له نصيحة واحدة هي:" طرد كل بيروقراطي وكل موظف مدني في الدولة واستبدالهم بشعبنا".

وتصف صحيفة نيويورك تايمز فانس بأنه "حامل لواء" التحالف اليميني الجديد الذي يحمل نخبة ليبرالية تسللت إلى الحكومة الفيدرالية، ووسائل الإعلام، والشركات الكبرى والتعليم مسؤولية تدهور الأوضاع في البلاد، ويؤمن بأن الليبرالية تنهب ثروات الأميركيين العاملين بجد لصالح وول ستريت.

وقال إن التحالف الجديد يمثل "الثقل الفكري" لحركة "ماغا" وقطيعة جذرية مع الماضي الجمهوري، ومستقبلا للتيار المحافظ، وفق الصحيفة.

في مايو الماضي، أي قبل أشهر من انتخابات نوفمبر وفوز ترامب، نشر مراسل "سي أن بي سي" مقالين تضمنا ما قال إنها مقترحات اقتصادية لتحالف ترامب "تحطم أيدولوجية الحزب الجمهوري في ما يتعلق بحرية التجارة والتعريفات الجمركية".

ويشير الكاتب إلى "مجموعة من المقترحات السياسية التي تضع العمال في المقام الأول وتعادي النخبة".

ويستخدم المراسل لفظ "الشعبيين الجدد" لوصف هؤلاء الذين "لا يرون رؤساء الشركات الكبرى حلفاء طبيعيين للحزب الجمهوري في حربه ضد حكومة كبيرة، بل إنهم نخبويون يحاولون فرض قيمهم الثقافية الليبرالية على الطبقة المتوسطة"، ويرون أن آيديولوجية ريغان التي تمحورت حول خفض الضرائب والسوق الحرة لم تخدم جيدا العمال الأميركيين. 

ويرفض هذا التيار العقيدة الجمهورية التقليدية، ويريد جمع المحافظين معا لإنشاء تحالف أوسع، يمكن تسميته "حزب العمال الرأسمالي في أميركا".

من أهم القادة الجدد أيضا، إيلون ماسك، الذي بات يتمتع بنفوذ كبير في واشنطن بعد أن أوكل إليه ترامب الإشراف على "وزارة الكفاءة الحكومية"، ونقلت تقارير إن حضر اجتماعات لترامب مع زعماء أجانب.

يوصف ماسك أحيانا بأنه "تحرري"، ويصف هو نفسه بأنه "معتدل سياسيا".

يدعم أيضا تقليص حجم الحكومة، ويترأس لجنة الكفاءة الحكومية المشرفة على ذلك.

ويرفض أيضا تقديم مزيد من المساعدات إلى أوكرانيا. وسبق أن تندر على الرئيس الأوكراني، من خلال "ميم" ساخرة:

"خلافات مؤجلة"

يعتقد تود بيلت، في تصريحاته لموقع "الحرة" أن تماسك قادة "اليمين الجديد" يرتبط بوجود ترامب "لكنهم ربما سيتقاتلون على الزعامة في المستقبل "لأنه بدون دونالد ترامب، فإن كثيرا من الأشياء التي تجمع الكل سوف تختفي".

ويشير زميل معهد هدسون ريتشارد وايتز، في تصريح لموقع "الحرة"، إلى فكرة التباينات بين قادة اليمين الجديد. ورغم أنهم منسوبون تقليديا إلى الحزب الجمهوري، فهم يرفضون فكرة تغيير الحكومات من أجل نشر الديمقراطية، ومع ذلك لديهم وجهات نظر متباينة بشأن الأدوات التي يجب استخدامها في السياسة الخارجية، وعلى سبيل المثال الأدوات الاقتصادية لمواجهة الصين.

ويشبه رايزين وضع التحالف الجديد لو غاب ترامب بما حدث مع الإسكندر الأكبر الذي بنى إمبراطورية مترامية الأطراف وأدارها بشكل جيد، ولكن بمجرد وفاته في سن مبكرة نسبيا، انقسمت هذه الإمبراطورية.

"لا يمكنني أن أتخيل أن هناك شخصية ما ستظهر بعد ترامب وتكون قادرة على إبقاء الأمور متماسكة،" يقول مراسل نيويورك تايمز، كلاي ريزين لموقع "الحرة".

لكن الإعلامي بيتر روف يعتقد أن من الصعب التكهن بشأن وضع اليمين الجديد بعد "خروج ترامب من الصورة".