رغم أن اسمها ارتبط دائما بحالة كبيرة من الجدل التي تخطت حدود البلد الصادرة منه، إلا أن الكاريكاتور الذي نشرته مجلة "شارلي إيبدو" الفرنسية الساخرة يوم الثلاثاء "تجاوز حدود الإنسانية"، حسب ما عبّر عنه مواطنون وسياسيون أتراك، فيما ضاعف من "الأذى النفسي" وتداعيات الكارثة الحاصلة، التي لم يستوعبها عقل حتى الآن.
في الوقت الذي كانت فيه تركيا تعلن بين الساعة والأخرى ارتفاع عداد ضحايا الزلزال الذي ضرب عشر مقاطعات في وسطها وجنوبها، ويستعرض صحفيوها ووسائل إعلامها قصصا لعائلات بأكملها تحت الأنقاض نشرت المجلة الساخرة كاريكاتيرا عن الزلزال، اختصرته برسم لمبنى مدمر وسيارة مقلوبة وعليه عبارة: "لا داعي حتى لإرسال دبابات!".
وتواصل موقع "الحرة" مع المجلة الفرنسية لطلب التعقيب والرد على الانتقادات التي طالت المجلة، ولسؤالها بشأن المقصود من الرسم الساخر، واستيضاح مغزاه، ولم يصل الرد إلا بعد 5 أيام من تاريخ نشر التقرير.
فبعد أيام على الزوبعة التي أثارها رسم نشرته عن الزلزال الذي ضرب مناطق وساعة في تركيا وسوريا، ردت مجلة "شارلي إيبدو" الفرنسية الساخرة على استفسارات موقع "الحرة"، كاشفة عن هدفها من نشر الرسم.
وكان موقع "الحرة" أرسل، في 8 فبراير، رسالة، عبر البريد الإلكتروني للمجلة الفرنسية، للتعليق على الغضب الذي أثاره رسم لمبنى مدمر وسيارة مقلوبة وعليه عبارة: "لا داعي حتى لإرسال دبابات!"، دون حصول على أي رد، ما دفعنا لنشر تقرير عن الجدل. واليوم في 13 فبراير، ردت المجلة على استفسارتنا، قائلة إن "الرسم الذي نشرناه في 7 فبراير أثار ردود فعل قوية، وسوء فهم. القضية الأساسية في الموضوع، ليس الاستهزاء بمأساة ضحايا الزلزال، ولكن دفع الناس إلى التفكير، من خلال تسليط الضوء على الحدث، وربطه بأحداث جارية أخرى".
وأضافت المجلة أن "الابتسامة ليست ابتسامة سخرية، ولكنها ابتسامة سياسية هدفها التنديد. يستخدم الرسام الفكاهة السوداء، لوضع مسافة مفيدة مع الواقع، وهو ما يصعب تقبله. جاءت هذه الكارثة التي ضربت تركيا وسوريا، لتزيد من المأساة في هذين البلدين، حيث تسبب النزاعات المسلحة معاناة كبيرة للسكان المدنيين".
وتابعت: "الإشارة إلى الدبابات هي طريقة للربط مع مأساة أخرى، مأساة الحرب في أوكرانيا. وبيت القصيد هنا، أن أصل المآسي لا يقتصر على الأسلحة والحروب، بل هو مزيج من كل هذه الأمور.ليس من الضروري أن يجد الجميع هذه الرسوم مضحكة، ولا أن يلتزموا بالرسالة التي تطرحها، لكنها بعيدة كل البعد عن الاستهزاء بضحايا المآسي. إنه رسم ساخر يحتمل مستويات مختلفة من المعاني، ويفقد معناه العميق إذا توقفنا عند المستوى الظاهر".
وتباينت القراءات الخاصة بهذه العبارة والمعنى الذي تقصده "شارلي إيبدو"، في حين أثارت خطوة الصحيفة الكثير من الغضب والانتقادات في الشارع التركي المفجوع، وكذلك الأمر بالنسبة للأوساط الرسمية، إذ ردّ الناطق باسم الرئاسة التركية على ما نُشر بكلمات عبر حسابه في "تويتر" قائلا: "البرابرة الجدد. اختنقوا في كراهيتكم وأحقادكم".
في غضون ذلك توقع صحفيون وباحثون أتراك أن مقصد المجلة يتعلق بفكرة "لم تبقَ هناك حاجة لإرسال دبابات لقتل الأتراك، فهم قُتلوا خلال الزلزال"، فيما اعتبر آخرون أن القصد يرتبط بـ"تحول تركيا إلى ساحة حرب مثل أوكرانيا، دون أن تضطر فرنسا لإرسال دبابة واحدة".
وذهب قسم ثالث بخلاف الروايتين، بأن القصد هو "التعبير عن حجم الأضرار التي لحقت بالمدن، وكأنها معرضة لقصف من دبابات"، دون أن ينفوا فكرة أن ما حصل "يتجاوز حدود الإنسانية".
ونادرا ما تعطي المجلة الفرنسية تفسيرات بشأن رسومها، وهي التي لطالما أثارت الجدل على مدى السنوات الماضية وبأوقات متفرقة، بسبب رسوماتها الكاريكاتيرية المثيرة للجدل، وخاصة تلك التي استهدفت بها شخصيات دينية، مثل النبي محمد وقصة ولادة المسيح.
وعلى إثر ذلك كانت قد تعرضت في 25 يناير 2015، لهجوم مسلح أدى إلى مقتل 12 شخصا بينهم عدد من أهم الرسامين، وهو الهجوم الذي أعلن تنظيم القاعدة المسؤولية عن تنفيذه. وتبعته حمله تضامن واسعة مع المجلة، حيث شارك مئات الآلاف في مسيرة احتجاجية في فرنسا دفاعا عن حرية التعبير، وهي المسيرة التي شارك فيها زعماء دول عربية وإسلامية.
وبعدها بخمس سنوات على الهجوم، أقدم لاجئ شيشاني في أكتوبر 2020، على قطع عنق مدرس التاريخ والتربية المدنية الفرنسي صامويل باتي لعرضه رسما كاريكاتوريا للنبي محمد "خلال درس عن حرية التعبير".
وسبق للمجلة التي تشتهر برسوماتها الصادمة أن سخرت من ضحايا زلزال إيطاليا عام 2016، حسبما نقلت فرانس برس.
وأثارت المجلة الانتقادات حين صورت ضحايا بلدة "أماتريتشي"، أكثر المناطق تضررا من زلزال قوته 6.2 على مقياس ريختر، وكأنهم أطباق معكرونة إيطالية، وأن دمائهم أشبه بصلصة الطماطم، وأجسادهم هي اللحم الذي يتواجد بأطباق اللازانيا.
ويرى مدافعون عن تشارلي إبدو، إن المجلة تتعمدا السخرية التي تحمل إهانة وتصدم المشاعر، إلا أن ذلك ينبع من موقفها في الدفاع عن حرية الرأي المطلقة، واختبار مدى تقبل الناس لهذه الحرية، حتى لو كانت تعارض معتقداتهم.
وفي أعقاب حادثة الهجوم المسلح على المجلة، نشرت الكاتبة جو آديتونجي، بموقع "ذا كونفرسيشن" إن محتوى المجلة قد يكون "طفوليا" في بعض الأحيان، إلا أن الدفاع عن حق التعبير للمجلة واجب.
وأضافت: "أصبح لدينا في الثقافة الغربية ثقافة تعطي الأولوية لحماية مشاعر الناس، على الجدل المنطقي، وهذا خلق أجيالا جديدة أكثر حساسية من سابقتها".
"تسخر من معاناة شعب"
وفي آخر إحصائيات هيئة الكوارث والطوارئ التركية (آفاد) عن ضحايا الزلزال المدمّر في يومه الثالث ارتفع عدد الضحايا إلى ما يزيد عن 7 آلاف قتيل، بينما تجاوز عدد المصابين 38 ألفا.
ومن المقرر أن يتوجه الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، اليوم الأربعاء، إلى منطقة الزلزال، ومن المتوقع أيضا أن يصل إلى منطقة كهرمان مرعش أولا، وهي مركز الزلزال الذي بلغت قوته 7.7 درجات، وتلاه آخر بذات القوة بعد ساعات.
وضمن ردود الأفعال التي صدّرت في أعقاب نشر المجلة الفرنسية الساخرة الكاريكاتور الخاص بزلزال تركيا نددت أوزنور كوجكر سيرين، المتخصصة في العلاقات الدولية، بالقول إنه "يسخر من معاناة شعب".
وأضافت في تغريدة عبر مواقع التواصل الاجتماعي" مخاطبة المجلة: "حتى الأتراك كانوا يشاركونكم ألمكم واليوم تجرؤون على السخرية من معاناة شعب بأكمله... بينما ما يزال هناك أطفال ينتظرون المساعدة تحت الأنقاض".
واعتبر الكاتب والمحلل السياسي التركي، يوسف كاتب أوغلو أن الكاريكاتير يحمل لهجة "سخرية وتشفي في تركيا"، وأنه "ترجمة حقيقية لشعور الكراهية والعداء ضد تركيا والأتراك".
يقول كاتب أوغلو لموقع "الحرة": "ما حصل جريمة يعاقب عليها القانون الدولي، وهي بث الكراهية والعداء بين الدول"، كما يدل "على حقد دفين وكراهية في ظل الكوارث الطبيعية".
"الرسم الذي نشرته المجلة ليست حرية تعبير بل تجاوز لكل الخطوط الحمراء"، حسب تعبير ذات المتحدث.
من جهته يقول الكاتب التركي، مصطفى كمال أرديمول إن "رسم شارلي إيبدو الكاريكاتوري نُشر بلا مبالاة كبيرة"، وأن "الخطأ هو استخدام ألم الآخرين. الدعابة يجب أن لا تتغذى على معاناة الآخرين".
ويرى أرديمول: "المآسي ليست مزحة، لأنها مأساة. المجلة قبل سنوات تعرضت لمذبحة مروعة أظهرت أنها لم تكن مزحة حقا".
بدوره يوضح الباحث السياسي التركي، هشام جوناي أن "الغضب الحاصل يرتبط بتاريخ المجلة السيء. الكاريكاتيرات التي تنشرها لا تستهدف المسلمين، فحسب، بل تسخر من كامل القيم الدينية المسيحية واليهودية. لديهم أسلوب مختلف ويعتبر ضمن الدولة التي يبثون فيها أنه حرية للتعبير".
ويقول جوناي لموقع "الحرة": "في فرنسا وعندما ترسم المجلة كاريكاتير للقيم المسيحية وتنتقد بأسلوب بحت يتم تقبل ذلك. في المقابل ثقافتنا مختلفة تماما. لدينا احترام للقيم والأخلاق بشكل مختلف، وعند تقييم السلوكين بمعاييرنا سيخلق ردة فعل لأننا شعوب عاطفية".
وأسفر "كاريكاتير الدبابات" عن ردة فعل قوية في تركيا، خلال الساعات الماضية، وشارك فيها مشاهير وصحفيون وسياسيين ومستخدمين عاديين عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
وبالنسبة للباحث التركي جوناي "لم ير انتهاكا للقيم الإنسانية والأخلاقية في الكاريكاتور"، وأن "الرسم يعبر عن أن الأضرار التي لحقت بالمدن دمرتها بالكامل، كأنها معرضة لقصف من دبابات".
"الشخص الذي رسم هذه الصورة قارن بين الضرر الذي تلحقه الدبابات بالحرب والضرر الذي أحدثته الزلازل. لا يوجد استهزاء. ردة الفعل جاءت لأننا جريحين بسبب الكارثة الكبيرة ولدينا حساسية كبيرة"، كما قال جوناي.
"تسخر من كل شيء"
وكتب الصحفي التركي، أوميت موراري عبر موقع "تويتر" في تعليقه على الرسم الذي نشرته المجلة: "لا نصيب لديكم من الإنسانية! إذا كنت تعتقد أن هذا مضحك أو حرية فأنت مخطئ حقا".
كما كتب آخر مخاطبا المجلة: "هل تعتقد أنه مضحك! إنه عدم احترام لجميع البشر، فأنت تسخر من جميع الأديان والناس، معتقدا أن هذه هي حرية التعبير".
وينتشر اعتقاد واسع، منذ سنوات، بأن المجلة تتعمد انتقاد الدين الإسلامي والرموز الإسلامية، دون غيرها من المعتقدات الدينية، لكن إصداراتها المتكررة تبيّن أنها توجه انتقادات لمختلف الأديان والرموز الدينية والسياسية.
وتعرف المسلمون على "شارلي إيبدو" في العام 2015، بعد أن نشرت المجلة رسومات للنبي محمد أثارت موجة غضب كبيرة في العالم الإسلامي، شارك فيها المواطنون من خلال التظاهرات الحاشدة، والحكومات من خلال الاحتجاجات الرسمية لدى الحكومة الفرنسية.
وقبل ذلك بسنوات حمل غلاف عدد صادر في 7 ديسمبر 2011 رسما كاريكاتيريا عن قصة "العشاء الأخير" للمسيح المذكورة في الإنجيل. وفي 2014، أصدرت المجلة عددا خاصا عن قصة ولادة المسيح، وهو العدد الذي تسبب في انتقادات واسعة للمجلة من قبل المتدينين.
كذلك سخرت المجلة من المحرقة اليهودية، عندما نشرت رسما بعنوان "تصوير فيلم الهولوكوست"، إلى جانب عدد من الإصدارات التي تضمنت سخرية من السياسة الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين، حيث نشرت رسوما تشكك في مبررات إسرائيل لقتل الفلسطينيين.
لكن وعلى الرغم مما سبق إلا أن الرسم الخاص بزلزال تركيا كان له وقعا خاص، ولاسيما أنه خلّف كارثة لا تعرف البلاد متى ستخرج منها، وخاصة في ظل تضاعف أعداد الضحايا، ودمار الكثير من الأبنية في عشر مقاطعات جنوبية.
ويرى أستاذ الفلسفة السياسية في جامعة باريس، رامي الخليفة أن "الرسم يسخر من آلام الضحايا"، وأن عادة "شارلي إيبدو السخرية من كل شي وأي شي حتى لو كانت تتجاوز حدود الإنسانية".
"بينما يشعر الملايين من السوريين والأتراك بالآلام ولم يشيع الضحايا في سوريا وتركيا يتم نشر مثل هذا رسم"، فيما "يقرأ بمعاني متعددة، وجميعها لا ترتقي لمستوى الإنسانية".
ويعتقد الخليفة في حديث لموقع "الحرة" أن "المجلة تستمر في إثارة الجدل حتى لو تجاوز كل معاييرها. هي سخرت من القيم الدينية ومن المسيح والنبي محمد ومن كل القيم الاجتماعية للفرنسيين وغيرهم. المجلة تفهم حرية التعبير بطريقة خاطئة".
من جهتها تقول الدكتورة والباحثة في الشؤون السياسية، سيلين جريزي حيث تقيم في العاصمة الفرنسية باريس أن الرسم الكاريكاتوري "تجاوز حدود الصحافة والتعبير"، مضيفة أن "المجلة لم تسيء للمسلمين كما فعت سابقا بل لكل إنسان. الجانب الإنساني الآن يطغى على كارثة الزلزال".
وتعتقد جريزي في حديث لموقع "الحرة" أن الرسالة التي قصدتها المجلة بالرسم المثير للجدل تتعلق بأن "ما لم يقتله الإنسان تدمره الطبيعة كرسالة إلى فرنسا ودعمها لأوكرانيا إزاء الحرب الروسية. قد يكون الزلزال قتل أشخاصا أكثر من الدبابات في الحرب الروسية الأوكرانية".
ومع ذلك تشير الباحثة إلى أن الرسم "لا هدف منه ولا غاية بقدر ما هو مستفز. هو يدل على اختفاء الجانب الإنساني. لا يمكن الاستهزاء من كل شيء. الألم الإنساني لا لون له ولا دين ولا انتماء. الإنسان أرقى من أي كاريكاتور أو صراع".