"يا الله ساعدنا. أبي إذا كنت عايش وشفت الفيديو عيش حياتك. خالي أمير لا تموت ضل عايش. صلوا. سامية سامع صوتها. ماني حاسن عيش. ماني ندمان على شي بحياتي يا الله".. هذه الكلمات ليست مستوحاة من فيلم خيالي أو مقطع تمثيلي، بل رددها شاب سوري ووثقها بفيديو من تحت الأنقاض، موصيا ومناشدا حيث "القيامة القائمة" في جنوب تركيا.
الشاب السوري هو أحمد الخطيب من محافظة درعا، وبينما كُتب له عمر جديد، لكي ينجو من تحت ركام منزله في منطقة قهرمان مرعش، لا يزال هناك 13 فردا من عائلته وعائلة "المحاميد" يحاول ذويهم انتشالهم مع فرق الإنقاذ من تحت الأنقاض، بعد مرور خمسة أيام من الزلزال المدمّر.
وتمكنت الفرق قبل يومين من انتشال أحمد على قيد الحياة، بعدما وثّق "حياة ما قبل الموت" بهاتفه الذي كان في جيبه، بالإضافة إلى طفلتين للأب أمير المحاميد، والذي استهدفته "الوصية المصورة" لكي يبقى "عايش".
"بقي أمير عايش" لكنه يعيش الموت بأشكالٍ مختلفة بينما ينتظر انتشال جثث عائلته. تحدث معه موقع "الحرة" باتصال هاتفي. بكى وردد كلمات قهر وعجز. صمت وعاود الحديث، قائلا: "ابنتي الصغيرة توفيت والكبيرة لساتها عايشة. لسا مرتي وبناتي عم نحاول نطالعهم".
"العائلة كلها توفت. أبوه لأحمد وأمه وأخته وأخوه ومرتي وبناتي"، يضيف أمير بينما يسمع من حوله أصوات عمل فرق الإنقاذ، وآليات الحفر، مشيرا إلى أنه طلب من قريبه "أحمد الناجي" كي ينشر التسجيل المصور عبر مواقع التواصل الاجتماعي بعد انتشاله، كي تتمكن فرق الإنقاذ من الوصول إليهم.
لم يكن التسجيل المصور الذي ربما لم يسبق وأن سجّل التاريخ مثله على مدى عقود، حيث وقعت الكوارث الطبيعية أو التي صنعها الإنسان الوحيد، بل انتشر مثله على مدى الأيام الماضية الكثير، وبينما كان كثير ممن هم تحت الأنقاض يصارعون الموت، وجهوا مناشدات لذويهم تحمل نبرات الوصية.
وبحسب آخر الإحصائيات الواردة من "هيئة الكوارث والطوارئ" التركية (آفاد) فقد ما مجموعه 20318 مواطنا حياتهم في قهرمان مرعش وغازي عنتاب وشانلي أورفا وديار بكر وأضنة وأديامان وعثمانية وهاتاي.
ولا يزال هذا الرقم أوليا، في وقت تشير جميع المعطيات إلى أنه بات من النادر العثور على أحياء تحت الأنقاض، وخاصة في قهرمان مرعش ومدينة أنطاكيا في ولاية هاتاي، اللتان نالتا النصيب الأكبر من حجم الدمار.
وبما أن مركز الزلزال المدمّر كان في منطقة قهرمان مرعش جنوبي تركيا القريبة من الحدود فقد كانت المناطق المحيطة بها هناك ضمن ولاية هاتاي الأكثر تضررا، وكذلك الأمر بالنسبة لسوريا، التي تركّزت الأضرار الكارثية فيها بشكل أساسي على المناطق الواقعة قرب الحدود، في محافظتي حلب وإدلب.
"مدينة يحكمها عزرائيل"
في هاتاي لم تحّل الكارثة فقط على المواطنين الأتراك، الذين راح منهم الآلاف حتى الآن بين ضحايا ومنكوبين تحت الأنقاض وفي المشافي وعلى جوانب الطرق، بل ضربت تداعياتها أيضا اللاجئين السوريين، الذي يقطن القسم الأعظم منهم الحدود، منذ سنوات الحرب الماضية في بلدهم.
وكانت تلك المنطقة الحدودية الوجهة المفضّلة لكثير من السوريين، الذين اختاروا العيش على أطلال بلدهم، سوريا، بينما اضطروا إلى المكوث هناك والعمل، نظرا لرخص المنطقة، من حيث إيجارات المنازل والأسعار المتعلقة بحياتهم اليومية.
وتستضيف مدينة غازي عنتاب النسبة الأكبر في جنوبي تركيا، إذ تحتضن 460 ألفا و150 لاجئا تليها مدينة هاتاي بـ354 ألف لاجئ، وأورفا 368 ألف لاجئ، وأضنة 250 ألف لاجئ.
ويعيش في كل من قهرمان مرعش وكلس واديمان والعثمانية ودياربكر وملاطيا حوالي 550 ألف لاجئ، بحسب أحدث إحصائيات رئاسة الهجرة التركية، في مطلع فبراير الحالي.
على مدى اليومين الماضيين لم يتوقف النعي بين أوساط السوريين المقيمين في تركيا، ومن خلال مواقع التواصل الاجتماعي كتب كثيرون أسماء ضحاياهم من أقاربهم ومعارفهم هنا وهنا، بينما اتجه آخرون للبحث وهم تائهين، في مسعى للحصول على أي خبر عن المفقودين.
الصحفي والشاعر السوري، محمد حاج بكري، من بين آلاف السوريين الذين حلّت عليهم الفاجعة، إذ فقد أخيه وعائلته وأخته وعائلتها، وأفراد آخرين لا تزال فرق البحث والإنقاذ تعمل على انتشالهم في مدينة ليلاداغ جنوبي تركيا.
ويقول حاج بكري بعدما توجه قبل أربعة أيام إلى الجنوب التركي: "الآن سنبدأ بدفن أول ضحايا العائلة. نحن أمام ثلاجة لحفظ الفواكة في مدينة ليلاداغ التركية. يقف الناس في طوابير لاستلام جثث ضحاياهم".
ويضيف: "سندفن اليوم ابن عمي الغالي محمود وزوجته، ابنة عمتي خديجة. لم نتمكن حتى اللحظة من استخراج إلا جزء بسيط من ضحايا العائلة، وما زالت جثث أخي وابنته الكبرى شام وأختي وابنها وبيت عمتي تحت الأنقاض".
"16 جثة من أهلي وأقاربي لا تزال تحت الركام. تمكنا البارحة، مساء الجمعة، من استخراج جثث زوجة أخي وابنتها ألمى والطفل الصغير عبد الله. رائحة الجثث بدأت تثقل كاهل الثلاجة وتعشعش في هواء أنطاكيا".
ويتابع: "تلك المدينة التي نذرت للموت.. مدينة يحكمها عزرائيل ويحشو أنفاسها بشهوة الدم. أبي المؤمن والذي خرج من تحت الأنقاض بعد ساعات من المعاناة قال لي: لم يخطر ببالي إلا أنها القيامة بكل تجلياتها كما وصفها القرآن الكريم".
وبينما يتجه السوريون المنكوبون في تركيا إلى دفن جثث موتاهم في مقابر المدن الجنوبية، يتجه آخرون لنقلها إلى شمال سوريا، عبر معبر "باب الهوى" الحدودي، والذي شهد على مدى الأيام الخمسة الماضية عبور أكثر من 700 جثة، حسب ما يوضح مدير المكتب الإعلامي للمعبر، مازن علوش.
الناشط الحقوقي المهتم بأوضاع اللاجئين السوريين، طه الغازي، وصل صباح الأربعاء إلى المناطق المنكوبة في جنوبي تركيا، للوقوف على أحوال السوريين هناك، ولتسليط الضوء على الفاجعة التي حلّت على مئات الآلاف منهم، سواء في هاتاي أو مدينة غازي عنتاب الحدودية أيضا.
ويقول الغازي لموقع "الحرة": "بالنسبة للمناطق الجنوبية من تركيا، خاصة قهرمان مرعش وأنطاكيا، تشهد تواجدا كبيرا للسوريين منذ سنوات، معظمهم كانوا يقيمون في الأحياء الشعبية القديمة".
"الواقع خلال السنوات الماضية فرض عليهم أن يتواجدوا في أحياء متوسطة ودون ذلك، لذلك ومع حلول كارثة الزلزال بات مئات الآلاف منهم بين قتلى ومشرد وتحت الأنقاض، وخاصة في أحياء مدينة أنطاكيا (نارليجا، جمهورييت محلسي)"، وفق الغازي.
ولا توجد أي إحصائية تفصّل عدد اللاجئين السوريين الذين قضوا خلال الساعات الماضية إثر الزلزال الذي ضرب المدن الجنوبية لتركيا، فيما تعطي جميع التصريحات الرسمية التركية أرقاما موحدة، دون تحديد جنسيات.
لكن المنشورات التي شهدتها مواقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" و"تويتر" تشير إلى أرقام مروعة لحجم الضحايا السوريين، وهو ما بدا من النعوات التي تمت كتابتها، لتظهر فقدان عوائل بأكملها لأرواحها، بينما لا يوجد أي خبر عن آلاف أخرى.
ويوضح الناشط الحقوقي الغازي: "نحن بحاجة الآن لتواجد منظمات مجتمع مدني سورية على الأرض. لا توجد لدينا فرق من الجانب السوري، ومعظم المنظمات تسعى إلى موضوع رفد مناطق الزلزال ببعض الاحتياجات الغذائية والشتوية والأموال. الأهم هو التواجد على الأرض".
ويقول: "كثير من الأسر السورية يتم استخراجها من تحت الأنقاض بصدمة. هي لا تدرك لأي شيء أمامها، وبحاجة لأناس يساعدوها على الذهاب إلى مراكز الإيواء والمشافي".
ويضيف "الوضع كارثي. في أيام القصف لم نعش هكذا وضع، وهناك أطفال ورضع سوريون يتواجدون في مشافٍ بولايات تركية مجاورة لمنطقة الزلزال. عائلاتهم لا تعرف عنهم شيئا، ونحن لا نعرف مصيرهم".