منذ وقوع الزلزال المدّمر في تركيا وسوريا، لم يجرؤ الشاب السوري مصطفى على العودة إلى منزله الذي أصابته التصدعات في مدينة حارم بريف محافظة إدلب.
وبينما "كتب له عمرٌ جديد" مع زوجته وطفله الرضيع في وقت كانت رائحة الموت تفوح من كل مكان في الأبنية المنهارة الملاصقة لمنزله، تحدث لموقع "الحرة" عن ليالٍ صعبة قضاها على مدى أيام في إحدى الخيام الواقعة في المنطقة.
لا يزال الشاب حتى الآن مقيما في الخيمة الواقعة ضمن مخيم كبير بالقرب من الحدود، وينتظر تقييما هندسيا للبناء الذي لا ينسى أصوات "الطقطقة" التي خرجت منه بينما كان يحاول النزول على الدرج من الطابق الثالث في البناية المؤلفة من خمسة طوابق.
ويضيف: "لا أعرف ما إذا كان المنزل صالحا للسكن أم لا. حالتي واحدة من بين آلاف الحالات ولست الوحيد. قد نعود أو نصبح من سكّان الخيام".
وقبل يومين كانت فرق البحث والإنقاذ في شمال غرب سوريا أعلنت تحوّل جهودها إلى عمليات انتشال الجثث، بعدما بات الأمل ضئيلا في العثور على أحياء، في خطوة توازى معها توجه الأنظار إلى آلاف المشردين في الشوارع والمخيمات، وفرص عودتهم إلى المنازل المتضررة، التي قسمّها "الدفاع المدني السوري" بين منهارة جزئيا وكليا، ومتصدعة بدرجات متفاوتة.
وستكون الأبنية الآيلة للسقوط والمتصدعة بشدة كارثة جديدة ستزيد من الكارثة الإنسانية الحاصلة، لاسيما أن التكاليف المادية لإعادة البناء وترحيل الأنقاض وهدم المنازل المتصدعة لا يمكن إحصاؤها، فيما بات كثيرون عاجزون عن بدء حياة جديدة من الصفر.
وعند الحديث عن الشمال السوري، والكارثة التي خلّفها الزلزال المدمّر، ومركزه منطقة كهرمان مرعش التركية تنقسم التداعيات على الأرض في منطقتين: الأولى في محافظة إدلب الخاضعة لسيطرة "هيئة تحرير الشام"، والثانية تحت سلطة فصائل "الجيش الوطني السوري"، المدعوم تركيا.
وحيث تسيطر "تحرير الشام"، تركّز الجزء الأكبر من الضحايا والمباني المنهارة في مدينة حارم وسرمدا والأتارب بريف حلب، أما في مناطق سيطرة الفصائل المدعومة تركيا فقد نالت مدينة جنديرس بريف عفرين النصيب الأكبر من الدمار والقتلى والمصابين.
"بعهدة المهندسين"
ومع تسجيل آلاف القتلى والمصابين، بعد مرور سبعة أيام من الزلزال لم تستقر الإحصائيات المتعلقة بحجم الدمار في كلا المنطقتين، فيما شرع مهندسون، ضمن نقابات مستقلة للبدء بعملية تقييم الأبنية المتصدعة، وفرص عودة السكان إليها أو إزالتها بشكل كامل.
وينقسم عمل هؤلاء المهندسين في ريف حلب الشمالي وفي محافظة إدلب، ويرافقهم عناصر من "الدفاع المدني السوري"، الذين استجابو خلال الأيام الماضية لعمليات إخلاء المصابين والبحث عن ناجين تحت الأنقاض.
وتختلف المناطق الخاضعة لسيطرة فصائل المعارضة في سوريا عن باقي المناطق المتضررة إثر الزلزال سواء داخل حدود البلاد أو خارجها أي في تركيا من زاوية غياب "هيكل الدولة"، وهو الأمر الذي يشكّل صعوبات في عملية معالجة المنكوبين.
علاوة على ذلك، هناك مخاطر وصعوبات تتعلق بعودة الناس إلى منازلهم المتضررة، رغم التحذيرات بعدم الدخول إليها، إلا بعد عملية التقييم.
ويشير منير مصطفى، نائب مدير "الدفاع المدني السوري"، إلى أنهم التقوا مع نقابات المهندسين في المناطق المنكوبة بالشمال السوري، وعلى إثر الاجتماع بدأوا بعملية تشكيل لجان، من أجل تقييم المنازل المتصدعة.
ويقول مصطفى لموقع "الحرة": "العمل الآن يتم بالتعاون بين الدفاع المدني ونقابة مهندسين مستقلين عن كل جهات السيطرة، سواء في ريف حلب أو في إدلب"، مضيفا: "عناصرنا يرافقون المهندسين، والعمل جار في الوقت الحالي. قبل يومين شرعنا بالأمر لكن المسار يحتاج وقتا طويلا. هناك آلاف الأبنية المتصدعة. لن ينتهي العمل بيوم أو بيومين ولا بأسابيع".
ويتحدث المهندس أحمد باسم نعناع، الذي يشغل منصب نقيب "المهندسين السوريين الأحرار"، أنهم شكلوا لجانا مبدئية في اعزاز ومارع وصوران واخترين ومدينة الباب وفي منطقة عفرين وما حولها، وبالأخص جنديرس.
ومنذ اليوم الأول لكارثة الزلزال بدأت هذه اللجان عملها لتقييم المباني المتصدعة، إذ تتألف من عدة مهندسين يرأسهم مهندس استشاري مدني.
ويوضح نعناع لموقع "الحرة": "لدينا أيضا زملاء يعملون بشكل شخصي ومستقل في إدلب. من يطلبهم من السكان يخرجون إلى المناطق المتضررة لتقييم الأبنية".
كيف تتم عملية التقييم؟
وفي مؤتمر صحفي، الاثنين، قال روبرت هولدن، مدير الاستجابة للحوادث في منظمة الصحة العالمية إن "كثيرا" من الناجين كانوا "في العراء في ظروف متدهورة ومروعة" مع "اضطرابات كبيرة" في الوصول إلى وقود المياه والكهرباء وإمدادات الاتصالات.
وحذر هولدن من كارثة "ثانية" قد تسبب ضررا لعدد أكبر من الناس من الكارثة الأولية، "إذا لم نتحرك بنفس الوتيرة والشدة التي نتحرك بها في جانب البحث والإنقاذ".
وتشير المعطيات في تركيا، بعد مرور سبعة أيام من الكارثة، إلى أن فرق البحث والإنقاذ بدأت أيضا بمسار عملية انتشال الجثث من تحت الأنقاض، في وقت وعدت الحكومة والرئيس التركي، رجب طيب إردوغان بإعادة إعمار المناطق المنكوبة في غضون عام.
وبموازاة ذلك تواصل الفرق التركية عمليات الإجلاء من عشر مقاطعات إلى ولايات تركية أخرى، بينما يشرع مهندسون وفرق تقييم الأضرار باستكشاف المنازل المتصدعة، والتأكد من صلاحيتها للسكن، كما أتاحت أيضا التحقق من هذا الموضوع من الرابط الرسمي عبر شبكة الإنترنت (إي دولت).
لكن في المقابل، وعلى الطرف الآخر من الحدود، تبدو الكارثة التي حلّت بتداعيات أكبر، سواء من ناحية المشردين في الشوارع والمنكوبين، أو أولئك الذين يتمنون أن تكون منازلهم صالحة للسكن من جديد، والخيارات التي قد يتخذونها في حال كان التقييم مخالفا لذلك.
ويشرح المهندس السوري نعناع أن "المهندسين الاختصاصيين الذين يدخلون للأبنية في شمال سوريا يقدمون على إجراء مشاهدة حسية، ويتفقدون الأعمدة والأسقف، وبعد ذلك يعطون 3 إشارات".
ويشرح: "هذه الإشارات: إما أن البناء آمن، أو لا يمكن استخدامه ومن الممكن ترميمه، وصولا إلى التثبيت بأنه خطر جدا ولا يمكن الاستفادة منه، ويجب هدمه بالكامل".
ويضيف: "بعد إثبات ضرورة هدمه من اللجنة الأولى، تخرج لجنة أخرى وتعطي أمرا بالإزالة، وهو ما حصل بخصوص بعض المنازل في اعزاز قبل أيام".
"العين لا ترى كل شيء"
ويوضح المهندس السوري، مظهر شربجي، أن هناك أكثر من عامل يلعب دورا في دمار الأبنية أثناء الزلزال، من بينها العامل الجيولوجي وطبقات الأرض وهبوط التربة، إضافة إلى التشققات والتصعدات الناتجة عن الاهتزاز وشدّته.
وهذه الدلائل تمثّل إشكاليات كبيرة، وتؤثر على البناء ككل، وأن الإعلان وإثبات البناء أنه آيل للسقوط يحتاج رأي مختص ومهندس مدني.
و"يقول المختصون ويلتزمون بقاعدة مفادها: ليس كل شيء تراه العين يمكن أن يكون خطيرا، وفي المقابل الأشياء التي لا ترى قد تكون خطيرة".
ويعطي شربجي مثالا عن ذلك بالقول لموقع "الحرة": "فيما يخص الشقوق ضمن الجدران فإن الدلائل المؤثرة يجب أن لا تكون على الجدران والأسقف والأساسات. هذه الأجزاء الثلاثة في حال تعرضت للشقوق وبشكل مائل ستكون خطيرة، بحسب حجمها وطولها".
وهناك قسم من الشقوق يتطور لانكسارات، وهو أمر خطر جدا، وخاصة في أعمدة البناء، ويضيف المهندس أن عملية التقييم ترتبط بالتصدعات الخفيفة والشقوق المتوسطة والشروخ الكبيرة، إضافة إلى "الشقوق المكبوسة ذات الخطر الشديد".
"المهندسون واللجان المختصة هم الأكثر مسؤولية على تحمل وتقييم ما إذا كان البناء سليما أو غير سليم ويحتاج للتدعيم. هناك أبنية قد تكون غير سلمية، ومع ذلك تحتاج لعناصر مثل العملية الجراحية".
ويشير شربجي إلى أن "الأمر يحتاج لكشف ميداني حقيقي، وأنه لا يمكن التقييم بالعين. الكشف يعطي مؤشرا على أن البناء مريض وبحادة لعلاج، إما بالتدعيم أو الإزالة والاستئصل، من أجل حماية الناس".
كما يحذّر من مسألة تسرب مياه الصرف الصحي إلى أساسات البناء، وهو ما لا ينتبه إليه السكان، إذ تؤدي هذه التسربات إلى هبوط التربة مع الأيام، وتآكل الاسمنت والحديد، وتذويبه شيئا فشيء.