من إدلب.. بعد الزلزال
من إدلب.. بعد الزلزال

لم تكن شدّة الزلزال، ومداه الزمني، السبب الوحيد الذي ضاعف من عدّاد الضحايا في شمال غرب سوريا وحجم المباني المنهارة والمتصدعة، بل كان هناك عوامل أخرى "غير طبيعية" تختلف في ماهيتها ويجمعها "قاسمٌ مشترك"، بحسب ما قال مهندسون وعمّال إنقاذ لموقع "الحرة".

وكانت الأضرار التي خلّفتها الكارثة في الشمال السوري قد توزعت بين مناطق ومدن تتبع لمحافظة إدلب وأخرى في ريف حلب الشمالي، أبرزها مدينتي حارم وسرمدا، بالإضافة إلى مدينة جنديرس التابعة لعفرين، والأتارب التي تعطي حالتها مثالا على أن الكارثة "لم تكن بسبب واحد، بل تقف ورائها أسباب أخرى".

تقع الأتارب في ريف حلب الغربي، وهي بعيدة إلى حد ما عن "خط الزلزال"، ومع ذلك فقد نالت نسبة كبيرة من الضرر، إذ سجّلت فيها فرق البحث والإنقاذ 235 قتيلا، فيما انتشلت من تحت أنقاض منازلها المنهارة 328 آخرين، في أرقام يعتبرها المسؤول الإغاثي والإنساني، منير مصطفى "كبيرة".

يقول مصطفى وهو نائب مدير "الدفاع المدني السوري" لموقع "الحرة": "هناك إحصائيات تؤكد أن القصف الذي نفذته قوات الأسد على مدى السنوات الماضية كان سببا رئيسيا في تصدّع مئات الأبنية في مناطق الشمال السوري"، مما ضاعف من درجة انهيارها، بعدما حلّت الكارثة، قبل أسبوع.

ويوضح أن "الأتارب أحد الأمثلة التي تندرج حالتها فيما سبق"، إذ كانت قد تعرضت لقصف جوي ومدفعي وصاروخي عنيف طوال السنوات الماضية، مما أدى إلى تضعضع أساسات أبنيتها، في الفترة التي سبقت الزلزال.

وبالإضافة إلى عدد الضحايا المسجلين في هذه المدينة، وثّقت فرق البحث والإنقاذ خلال الأيام الماضية من الكارثة فيها انهيار 14 بناءً بشكل كامل، و50 بناء آخرا، بشكل جزئي.

"سبب أول وأخير"

وتظهر بيانات حصل عليها موقع "الحرة" من فريق "منسقو الاستجابة" في الشمال السوري أن عدد النازحين من المناطق المتضررة في شمال غرب سوريا بلغ حتى الآن 153.893 نسمة (30,796 عائلة)، مع استمرار أعمال الإحصاء.

وفيما يتعلق بالمنازل المدمّرة بشكل كلي تشير البيانات إلى أنها تبلغ 1123 منزلا، مع وجود 3484 منزل آخر قابل للسقوط، بالإضافة إلى تسجيل 13.733 منزلا غير صالح للسكن، فيما ظهرت التصدعات على 9.637 منزلا آخرا.

كما وثّقت البيانات أن عدد الأفراد المتضررين حتى الآن من الزلزال في شمال غرب سوريا بلغ 853,849 نسمة تركز معظمهم في المناطق المنكوبة (حارم، جنديرس، سلقين، أرمناز، عزمارين، الأتارب).

وبعد مرور عشرة أيام باتت جهود فرق البحث والإنقاذ تتحول إلى عمليات انتشال الجثث، بعدما بات الأمل ضئيلا في العثور على أحياء، في خطوة توازى معها توجه الأنظار إلى آلاف المشردين في الشوارع والمخيمات، وفرص عودتهم إلى المنازل المتضررة، التي انقسمت بين منهارة جزئيا وكليا، ومتصدعة بدرجات متفاوتة.

وستكون الأبنية الآيلة للسقوط، المتصدعة بشدة، كارثة جديدة ستزيد من الكارثة الإنسانية الحاصلة، لاسيما أن التكاليف المادية لإعادة البناء وترحيل الأنقاض وهدم المنازل المتصدعة لا يمكن إحصاؤها، فيما بات كثيرون عاجزون عن بدء حياة جديدة من الصفر.

وإلى جانب التداعيات التي فرضها القصف الجوي والبري من جانب النظام السوري على مناطق شمال سوريا خلال السنوات الماضية يرى المهندس المدني، يحيى نعناع أن الأسباب التي ضاعفت من حجم الكارثة تتعلق أيضا بـ"المعايير الهندسية الخاصة بتشييد المباني خلال الفترة الأخيرة".

ويوضع نعناع في حديث لموقع "الحرة": "مع الأسف هناك ضعف في تطبيق هذه المعايير سواء قبل عام 2011 وبعده. بعد الثورة لم تتعاون السلطات المحلية مع نقابة المهندسين، رغم أننا شكلناها من كل الاختصاصات".

النقابات التي تضم عددا من المهندسين لم تدخر أي جهد من أجل إشادة شبكات الصرف الصحي والمياه وكذلك الأبنية بمواصفاتها الدقيقة، ومع ذلك لم يحصل أي تعاون من طرف المنظمات أو من طرف السلطات المحلية، التي يفترض أن تكون المشرفة على تطبيق المعايير اللازمة لحماية الناس".

ويضيف المهندس السوري: "الناس كانت تبني بشكل عشوائي، ولذلك رأينا الانهيارات الكبيرة بعدما حلّت كارثة الزلزال. هناك أبنية طابقية في المنطقة مبنية من بلوك فقط وانهارت بشكل كامل".

وبوجهة نظر نعناع "هناك تقصير من قبل السلطات المحلية فيما يتعلق بتطبيق المعايير الدقيقة والهندسية لتشييد المباني الأرضية أو الطابقية"، بينما يشير إلى أن المرحلة المقبلة يجب أن تشهد "تعاونا بين السلطات ونقابات المهندسين".

ولم يسفر القصف المتواصل الذي بات حالا شبه يوميا بالنسبة لمناطق شمال غرب سوريا، على مدى السنوات الماضية عن تصدّع أساسات الكثير من الأبنية، بل كان قد دفع مئات الآلاف من العائلات للنزوح من المناطق الجنوبية، بقصد الإقامة على طول الخط الحدودي مع تركيا.

وبينما توزعت هذه العائلات على مخيمات عشوائية ومنظمة، اتجهت أخرى لشراء قطع من الأراضي الزراعية، ومن ثم لتبدأ إنشاء منازل على عجل، دون أن تراعي أي معيار هندسي، لصالح التقليل من الكتلة المالية اللازمة للصرف.

ويعتبر المسؤول في "الدفاع المدني" منير مصطفى أن "الكارثة المضاعفة التي حلّت على شمال سوريا سببها الأول والأخير يرتبط بالنظام بشكل مباشر، من خلال قصفه على مدى 10 سنوات. هذا القصف كان كفيلا لأن يزعزع الكثير من الأبنية في شمال غرب سوريا، ما أدى إلى انهيارها الآن".

وفي حين لم يخف مصطفى السبب المتعلق بعدم تطبيق المعايير الهندسية للكثير من الأبنية، يوضح أن "طبيعة المنازل التي بنيت في مرحلة النزوح القسري سببها أيضا النظام السوري. هو الذي أجبر الكثير من العائلات على الانتقال، والبحث عن أي فرصة لبناء مأوى، دون أن تلتزم بمعايير السلامة".

"السبب الأول هو النظام وقصفه والثاني هو أنه عمل على تهجير الناس، ووضعها في ضائقة، فرضت عليهم بناء الكثير من الأبنية والمنازل على عجل"، وفق ذات المتحدث.

"زلازل فراغية"

وكان مهندسون ضمن نقابات مستقلة شرعوا، قبل أيام، للبدء بعملية تقييم الأبنية المتصدعة، وفرص عودة السكان إليها أو إزالتها بشكل كامل.

وينقسم عمل هؤلاء في ريف حلب الشمالي وفي محافظة إدلب، ويرافقهم عناصر من "الدفاع المدني السوري"، الذين استجابو خلال الأيام الماضية لعمليات إخلاء المصابين والبحث عن ناجين تحت الأنقاض. 

وتختلف المناطق الخاضعة لسيطرة فصائل المعارضة في سوريا عن باقي المناطق المتضررة إثر الزلزال سواء داخل حدود البلاد أو خارجها أي في تركيا من زاوية غياب "هيكل الدولة"، وهو الأمر الذي يشكّل صعوبات في عملية معالجة المنكوبين.

علاوة على ذلك، هناك مخاطر وصعوبات تتعلق بعودة الناس إلى منازلهم المتضررة، رغم التحذيرات بعدم الدخول إليها، إلا بعد عملية التقييم.

ولا تقتصر الكارثة التي حلّت على سوريا على مناطق شمال سوريا بل ضربت تداعياتها أيضا مدنا خاضعة لسيطرة النظام السوري، أبرزها مدينة حلب، والتي نالت النصيب الأكبر من الأضرار، في وقت كانت قد شهدت على مدى سنوات عمليات عسكرية استخدم فيها النظام السوري وحلفائه شتى أنواع الأسلحة.

ويقول المهندس السوري نعناع إن "الصواريخ الارتجاجية والفراغية التي استخدمت خلال العمليات العسكرية أدت إلى تضرر الكثير من العناصر الإنشائية للمباني".

وذلك ما ينسحب على أحياء حلب الشرقية والأرياف الغربية والشمالية للمدينة، من بينها اعزاز، الخاضعة لسيطرة فصائل "الجيش الوطني السوري"، المدعوم تركيا.

ويضيف المهندس السوري أن "مدن إدلب وحلب وأريافهما تعرضت لقصف من الطيران التابع للنظام السوري لسنوات طويلة. الضربات كانت تستهدف كل شيء، بينما خلّفت الصواريخ الفراغية تصدعات وانهيارات مسبقة وتسرب في شبكات الصرف الصحي".

"تضرر الأبنية نتيحة القصف كان واضحا لنا في السنوات السابقة. في الوقت الحالي نرى أن ما عجزت عنه الصواريخ تم تدميره بفعل الزلزال".

ومع ذلك يشير نعناع إلى أبنية كانت قد شيدتها منظمات إنسانية في شمال سوريا "بشكل سيء"، لافتا من جانب آخر إلى حالة شهدها في مدينة صوران في ريف حلب.

وبينما كان يحصي الأضرار خلال الأيام الماضية في تلك المدينة وبرفقة مهندسين تفاجأ بـ"بمبنى لم أشاهده طوال مسيرتي المهنية والعلمية. رأيت رطوبة هائلة في أساساته الضعيفة بالأساس. لا مواد صالحة وجيدة مستخدمة في تشييده. استغربت أنه لم ينهار".

عفراء تبتسم حتى للغرباء
قصة عفراء جذبت أنظار العالم وسط المآسي التي خلفها الزلزال المدمر

 الطفلة التي ولدت تحت أنقاض منزل أسرتها الذي دمره الزلزال المميت في تركيا وسوريا قبل ستة أشهر تتمتع الآن بصحة جيدة وتحب أسرتها بالتبني والابتسام حتى للغرباء.

قضت الطفلة عفراء، ذات الشعر الداكن، عشر ساعات تحت الأنقاض بعد أن ضرب الزلزال سوريا وتركيا، في 6 فبراير الماضي، وتسبب في وفاة والديها وأربعة من أشقائها في بلدة جنديرس شمالي سوريا. وعندما تم العثور عليها، كان حبلها السري لا يزال متصلا بوالدتها.

جذبت قصتها أنظار العالم في ذلك الوقت، وعرض كثيرون من جميع أنحاء العالم تبنيها.

وبعد أن أمضت أياما في أحد المستشفيات شمالي سوريا، أُخرجت عفراء وتم تسليمها إلى عمتها وزوجها اللذين يقومان بتربيتها مع بناتهما الخمس وابنيهما.

وقال والدها المتكفل برعايتها، خليل السوادي، إن عفراء تم تسليمها لأسرة عمتها بعد أيام من إجراء اختبار الحمض النووي للتأكد من أن الفتاة وعمتها مرتبطتان بيولوجيا.

بدت عفراء، يوم السبت، مستمتعة بينما كانت تتأرجح على أرجوحة حمراء تتدلى من السقف ويدفعها السوادي إلى الأمام والخلف.

وقال السوادي، وهو يجلس القرفصاء وعفراء في حجره: "هذه الطفلة ابنتي... هي بالضبط مثل أطفالي".

وأضاف السوادي أنهم يقضون النهار في شقة استأجرها، لكن في الليل تذهب الأسرة إلى خيمة من الخيام لقضاء الليلة، حيث لا يزال أطفاله يعانون من صدمة الزلزال الذي أودى بحياة أكثر من 50 ألف شخص في جنوبي تركيا وشمالي سوريا.

وفقا لمكتب تنسيق الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة، سجل أكثر من 4500 وفاة و10400 إصابة في شمال غربي سوريا بسبب الزلازل. وقدر بأن 43 في المئة من المصابين نساء وفتيات، بينما كان 20 في المئة من المصابين أطفال، تتراوح أعمارهم بين 5 إلى 14 عاما.

وضرب الزلزال المدمر الذي بلغت قوته 7.8 درجات على مقياس ريختر في الساعات الأولى من 6 فبراير وتلته عدة توابع. وكان شمال غربي سوريا الخاضع لسيطرة المعارضة من بين المناطق الأكثر تضررا ، حيث يعيش أكثر من 4.5 مليون شخص، معظمهم من النازحين بسبب الصراع الذي قتل أكثر من نصف مليون شخص.

يقول السوادي، عندما تكبر عفراء، سيخبرها بقصة إنقاذها وكيف قُتل والداها وأشقاؤها في الزلزال المدمر. وأضاف أنه إن لم يخبرها، فستخبرها زوجته أو الأبناء.

وبعد يوم من وصول الطفلة إلى المستشفى، أسماها المسؤولون هناك "آية". لكن بعد تكفل أسرة عمتها برعايتها، أطلق عليها اسم "عفراء"، تيمنا بوالدتها الراحلة.

بعد أيام من ولادة عفراء، أنجبت عمتها طفلة أسمتها عطاء. ومنذ ذلك الوقت، كانت ترضِع الطفلتين، حسبما أوضح السوادي.

وتابع "عفراء تشرب الحليب وتنام معظم اليوم".

يشير السوادي إلى أنه تلقى عدة عروض بالعيش في الخارج، لكنه رفض لأنه يريد البقاء في سوريا، حيث عاش والدا عفراء وحيث ماتا.

كان والد عفراء البيولوجي، عبد الله تركي مليحان، في الأصل من قرية خشام في دير الزور شرقي سوريا، لكنه غادر، في عام 2014، بعد سيطرة تنظيم "داعش" على القرية، وفق ما قاله صالح البدران، عم والد عفراء.

وأوضح السوادي "نحن سعداء للغاية بها، لأنها تذكرنا بوالديها وأشقائها. إنها تشبه والدها وشقيقتها نوارة كثيرا".